الأربعاء ٢ شباط (فبراير) ٢٠١١
حوار مع الشاعر شفيق حبيب
بقلم رندة زريق صباغ

علامة ً مُضيئة ً في دنيا الشعر وأحدَ رموز التحدّي والمُواجهـة

 «الموسيقى الداخليّة» في الشعر المنثور .. لا أسمعُها!!
 بعد 15 كتابا ً، ونشاط ٍ شعريٍّ متواصل خلال خمسين عاما ً، يـُعتبر شفيق حبيب واحدا ً من أبرز الشعراء عندنا،...
 عن تجربته الشعرية والوطنية في هذا الحديث
 إنّ من يقرأ مجموعتي الأخيرة « أنا الجاني»؛ لا بُـدَّ له أن يستشفَّ الكثير من تهشيم القوالب فالمجموعة ُ الشعريّة ُ اللاحقة هي استمرارٌ للمجموعات السابقة مع تغيُّر الحدثِ واللحظةِ والزمان ِ والمكان، ليس هناك ثابتٌ بل كلُّ ما فينا وحولـَنا متحوِّل....

  بداية ُ مشــــواركَ مع الشِّعــــــــر؟
 لقد بدأتُ مشواري مع الشعر في مرحلة الدراسة الابتدائية، إذ كان يستهويني درسُ المحفوظات بصورة خاصّة، فأحاول تقليدَ تلك القصائد دون أن أدري بأن الشعرَ فنٌّ له قوانينه الصارمة وعالمُـه السحريّ.

واستمرّت محاولاتي أثناءَ الدراسة الثانوية بالنـــاصره، فتحسّن أدائي كتابة ً ومضمونا ً، وأصبحت ُ أقدِّم درسَ الإنشاء شعرا ً مما حدا بأستاذ العربية آنذاك المرحوم حبيب حزان أن كتب لي ملاحظة في ذيل إحدى القصائد: «سيكون ُ لك مستقبلٌ في دنيا الشعر يا شفيق!!» وما زلت أحتفظ بهذه القصائد والملاحظات منذ أكثر من خمسين عاما ً.

  أولى القصائــد- أول الدواوين- أذكر عددها وأهمّهـــا.!!
 قصائدي التي كتبتها كمحاولاتٍ كثيرة ٌ جدا، ولكن أول قصيدة نـُشرت لي كاملة بدون أي حذف أو تصحيح كانت قصيدة «قصة حب» نشرَتها صحيفة «أليوم» في 3 آذار 1961 في ملحقها الأدبي... أما ديواني الأول فجاء تحت عنوان «قناديل.. وغربان» صدر عن دار «الشرق» وطبع على مطابع دار الأيتام الإسلامية بالقدس عام 1972.

أصدرت ُحتى اليوم أربعة َ عشرَ ديوانا ً شعريا ً وكتابا ً نثريّا ً واحدا ً تحت عنوان: « في قفص الاتهام» وهو وقائع قضائية في معركة حرية التعبير، تناولت فيه القوانين التي اعتقلتني السلطة الإسرائيلية بموجبها، ومحاكمتي على مدى أكثر من ثلاث سنوات بتهمة التحريض ضد الجيش الإسرائيلي ومؤازرة وتأييد الانتفاضة

والحثِّ على مؤازرتها، فصودرت مؤلفاتي من بيتي ومن المطبعة والمكتبات وأحرقت بأمر من المحكمــة.

لقد تناولت بهذا الكتاب: أمر مكافحة الإرهاب رقم 22 لعام 1948 وقانون العقوبات لعام 1977.

  بأي شــاعر أو أديب تأثرت َ جدا؟
 في مطلع حياتي تأثرت جدا بالأدباء المهجريين وعلى رأسهم جبران خليل جبران، فعشقت كتاباته النثرية
والشعرية، لأنني لمستُ بها طعما ً مغايرا ً لطعم أدبنا الشرقيّ وذلك بالرغم من صغر سنّّي الأدبية آنذاك.
بعد ذلك بلورتُ لنفسي شخصية أدبية لها ميزاتها الخاصة وأصبحت قصائدي تـُعرف حتى بغياب اسمي عنها وذلك بشهادة قراء الشعر وناقديه لدينـــا.

 حادثة هامّة أيام الطفولة كان لها أثــرٌ على مجرى حياتك كإنسان وكشاعــر..
 هناك حادثة ما زالت ماثلة أمام عينيّ وقعت عام 1948 وكنت يومها في السابعة من عمري، فعندما احتلت القوات الإسرائيلية قريتي الجليلية دير حنا، أخذوا الرجال وجمعوهم في ساحة القرية الواسعة، وعندما تأخر الرجال عن العودة إلى بيوتهم أعطتني والدتي صُــرّة وفيها طعام قائلة لي: إذهب واعطها لوالدك ومن معه، ولكن حاذر أن يراك العسكر، عليك التسلـّل بجانب جدران البيوت وأنا سأرعاك عن بعد، وهكذا كان، وعندما نجحت العملية، أرسلت بقية النسوة معي الطعام أكثر من مره، ولكن مش كل مرّه بتسلم الجرّه... فقد قبض علي أحد الجنود- وكان برفقة مجندة - وركلني وأخذ مني "الزواويد " المرسلة إلى رفاق أبي، وعدتُ باكيا إلى البيت حيث وجدت جدّي لأبي، وقد عاد مذعورا مهينا ً مهيض الجناح –وهو المختار السابق- بسبب الضرب الذي تعرض له أثناء تسليمه الجيش الإسرائيلي الذي احتل القرية ثلاث قطع سلاح كان يملكها، واحدة لوالدي والأخريان يهبهما لأي اثنين يتجندان للدفاع.. وعندما فحص الجندي الإسرائيلي قطع السلاح الثلاث وجد إحداها ما زالت مشحونة بالذخيرة فانهالوا على جدّي رحمه الله بالضرب والتعذيب والإهانات وكان يومها قد تجاوز الستين من عمره.

 كيف تقيِّم الشعر الفلسطيني وكيف ترى النقاد العرب والأجانب لهذا الشعر وهل أخذ حقـّه عالميّـا ً برأيك ؟
 الشعر الفلسطيني، إذا جاز لنا تسميته هكذا، خارجٌ عن السرب العربيّ، فرض نفسه كشعر قضية مرَّ عليها أكثر من نصف قرن وما زالت تراوح مكانها؛ برأيي ، بالرغم من هذا الغبار الذي يثيره المُطبِّعون، لقد أدى الشعر الفلسطيني وما زال دوره بمواكبة الحدث بآلامــه وآمــالـــه .. فأجــاد وجلـّى...

يقف العرب من هذا الشعر مواقفَ عِدّة، فبعضهم يعتبر أن شعر الرفض المناهض سينتهي بإقامة الدولة الفلسطينية ويكون قد أدى دوره، متناسين أن القضية الفلسطينية ليست غزة والضفة الغربية فحسـب؛ بل تصل جذورها إلى شواطىء عكا وحيفا ويافا وصفد وعسقلان، ممتدة في عمق تاريخ الوطن، أما البعض الآخر فيربط مسيرة الشعر الفلسطيني بمسيرة الشعر العربي عامّة، بالرغم من خصوصياته وهذه نظرة شمولية أخرى.

فيما يتعلق بالعالمية، إذا استثنينا محمود درويش وبعضا ً أقلَّ من أصابع اليد الواحدة فإن الأدباء العالميين لا يعرفون عنا سوى أدب البندقية.

هناك ظاهرة لا أعرف مدى إيجابياتها على المستوى المحلي وهي قيام بعض الشعراء بانتداب مترجمين إلى الإنكليزية لكي يتعرف الأدباء الغربيون على نتاجهم، وهناك من يحاول أن يُظهر نفسه ويُسَوِّق شاعريته على الإنترنيت، فعلى بركة الله في زمن العولمة!!

 الشعر العربي بشكل عام في حالة انحطاط، هل تؤيد هذا القول ولماذا؟
 أنا لا أؤيد رأيا كهذا.. وكأحد المطلعين على نتاجنا العربيّ العامّ من الشعر، هناك شعراء يشار إليهم بالبنان..لهم إشراقاتهم الشعرية.. ولكن هؤلاء أيضا مثلي لا يجيدون مهنة التسويق والإعلام.

 الشعر العمودي وشعر النثر.. أيهما تفضِّل؟ وهل ساهم شعر النثر بالتقليل من قيمة الشعر العربيّ عامّة ً؟
 هناك الشعر العمودي السائر حسب مواصفات الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهناك شعر التفعيلة أو ما يسمى بشعر نازك الملائكة وهناك شعر مجلة «ِشعر» والنثر الشعري أو الشعر النثري والكلام الذي لا يسمن ولا يُغني عن جوع..

فالساحة تتسع لمن هبَّ ودبَّ، ولكن الزمن كفيل بغربلة هذا الشعر، إذن ليست هناك صلة بين التقليل من قيمة الشعر العربيّ عامّة وفيضانات شعر النثر.. فمهما كثرت المعادن الرديئة فالماس هو الماس والذهب هو الذهب.. وأما الزبد فيذهب جفاءً.
أنا شخصيا ً أحب الموسيقى الشعرية.. لذلك أفضل الشعر العمودي وشعر التفعيلة.. أما الموسيقى الداخلية لأنواع الشعر الأخرى فليس عندي آذان وأنتينــــــــات تلتقطها.

 نلاحظ أن الشعر الوطني في حالة ركود... لماذا؟؟
 هذا طرحٌ صحيح، فبعد أوسلو ظن بعض الشعراء أن القضية الفلسطينية حُـلـّت وفـُتحت أبواب السماء، فصمتوا صمتَ أهل الكهف واختلط الحابل بالنابل... فبعد أوسلو عرفت السلطة الإسرائيلية من أين تؤكل الكتف،.. فافتتحت مراكز لها ومكاتب ومؤسسات تـُعنى بالعرب واشترت بعض أصحاب الأقلام من الشعراء والأدباء ورجال الصحافة الصفراء فصمتوا صمت أهل الكهف عن سياسات القتل والكبت وهدم البيوت ومصادرة الأراضي وعدم المساواة في دولة الديمقراطية الزائفة... فصمتَ الصّوتُ الشعريُّ المناهض بسبب امتلاء الجيوب وتورُّم الحناجر المسبِّحة بنعمة السلطة.

 ألقيَ القبضُ عليك وسُجنتَ أكثرَ من مرّة.. ما الأسباب وما النتائج الذاتية لمثل هذا النهج الحكومي؟
 تضمّن ديواني "مأساة ُ القرن ِ الضـِّلـّيل " الصادر عام 1976 قصيدة تحت عنوان: "الحرفُ والمأساة " أهديتـُها إلى الشاعر شهيد الكلمة والموقف: "الحسين بن منصور الحلاج في كلّ زمان ٍ ومكان " قلتُ فيها ملخـِّصا ً نمطي الشعري ودوري الحياتي وعقيدتي الراسخة:

لن أكتـُبَ بعدَ اليوم قصيـــــدَه...
إن لم أغمسْ بدمي قلمي..
فمخاضُ الكِلـْمةِ بالألم ِ
يهبُ المولودَ خـُلـــــودَه...
فالحرفُ عقيــــــده..
إن لم أحفظـْها بضلوعي،
إن لم أغسلـْها بدموعي،
أضحت مَـــــــوْؤودَه
فالحرفُ عقيــــده...
إنْ لم يُخصِبْ أصبحَ نعلا ً
ملفوفا ً في طيـّـــات ِ جريـــــدَه

نعم! لقد ألقت السلطة الإسرائيلية القبضَ عليّ عدّة مرات بسبب نشاطي السّياسي التنويري للجماهير العربية ضد ممارسات هذه السلطة؛ وطـُردتُ من عملي كمعلم وكموظـّف بنك ومُنعتُ من السفر للعمل ولكني لم أنكسر... وواصلت.

 كتبتَ شعرَ الغزل والشعرَ الوطنيّ والسياسي..فأين ترى نفسـَـــك؟؟
 الشاعر كأي إنسان آخر، له عواطفـُهُ وأحاسيسُـهُ ويتفاعلُ مع بيئتهِ وشعبهِ وأمّتـهِ، لذلك؛ فهو لا يستطيع الانسلاخ َ عن هذا العالم الكبير وإن كان له عالمـُهُ الخاصّ به.

إنني ما زلتُ أكتب شعرَ الغزل والشعرَ الوطنيّ والسسياسيّ، ولكني مُقِـلٌ غزلا ً ومُكـْثِرٌ وطنيا ً وسياسيّـاً
لأنّ قضيتنا الفلسطينية ما زالت بين فكـَّيْ أمواج المـدَّ والجَـزْر، وتمزُّقـُنا العربيّ ما زال يُثيرُ بي التقزُّزَ ونحن على أدنى درجات سُلــّم ِ الحضــارة.

 أنت ابن لإحدى قرى يوم الأرض، كيف أثـّرت هذه الحقيقة على نوعيّة ِ أشعارك؟
 لقد كنتُ في طليعةِ المدافعين عن الأرض، وشاركتُ في عشرات المهرجانات الخطابيّة طول البلاد وعرضها
ولم أترك منبرا ً للدفاع عن قضيتي إلا واعتليتـُهُ مع توفيق زيّاد وإميل حبيبي وتوفيق طوبي وسالم جبران ونشطاء شعبيين وسياسيين وشعراءَ آخرين من الصف الوطني، مما حدا بالشرطة الإسرائيليّة بأن تستدعيني عقبَ كلّ اجتماع جماهيري أو مظاهرةاحتجاجية، إلى مركزَي الشرطة في مسغاف- سخنين وعكــــا للتحقيق والتوقيف عدّة ساعات مع أخذ بصمات أصابعي العشرة كمجرم ضالع في جريمته، لكن، لم يحدُُث أن اعتـُقِلت أو حوكمت حتى كانت قضيتي زمن الانتفاضة الأولى بتهمة مساندة منظمة إرهابية، فسُجنتُ وغـُرِّمتُ وحوكمت منذ عام 1990 حتى عام 1993 ابتداءً من محكمة الصُّلح بعكــّـا ومرورا ً بالمحكمة المركزيَّةِ بحيفــــا حتى محكمة العدل العليا بالـقــــدس.

لقد كنتُ أكثر الشعراء الفلسطينيين الذين تناولوا المعارك الشعبية ضد المصادرات ودواويني الشعرية تضمُّ دفاتـُها عشرات القصائد عن يوم الأرض الخالد وشهدائه الأبرار والتصدّي والتحدّي الشعبيَّيْن، فلقد نذرتُ قلمي مدى عمري لقضيتي الفلسطينية الشاملة، حتى جاءت الانتفاضة فأخذتُ أعتلي المنابر وأشارك أبناء شعبي بشحنهم بالكلمة الرافضة النابضة الغاضبة ، بعدها، قمتُ بجمع هذه القصائد والمواد الأخرى وأصدرتـُها ضمن ديوان يحمل عنوان "ألعَوْدة ُ إلى الآتي " عام 1990.

لقد عثرت الشرطة على نسخ من هذا الديوان الذي لم يُقدَّم للمراقبة مُسْبَقا ً عند أحد الحواجز في الضفة الغربيّة، فأصدرت محكمة عكـــا فورا ً أمرها للشرطة بمصادرة الديوان؛ فداهمت بيتي ومطبعة الحكيم بالناصرة والمكتبات، حيث صادرت كميّات كبيرة من دواويني السابقة واللاحقة، وأحرقت وأ ُبيدت بأمر صادر عن المحكمة.

سُجنتُ عام 1990 في سجن الجلمة(كيشـــون ) السيِّء الصّيت مع تجار المُخدّرات وفـُرضت عليّ الإقامة الجبرية في بيتي وصودرَ جواز سفري، حيث مُنعتُ من مُغادرة البلاد.

إنّ قصة سَجني ووقائع المحاكمات وثـّقتـُها في كتاب يحملُ عنوان:" في قفص الإتـِّهام " صدر عام 1993 وأهديته للمحامي اللامع أفيغدور فلدمـــان الذي وقف إلى جانبي واستمات في الدفاع عن شعري ومواقفي وقضيتي طوال أكثر من ثلاثة أعـــوام.

عندما انتهت محاكماتي لم تفـُتَّ الممارسات السلطوية في عضدي بل ازددتُ صلابة وعنادا ً.. وواصلت نهجي الوطني الصادق حيث أصدرتُ بعد عملية القمع هذه ستـة دواوين شعريّة هي:" ليكونَ لكم فيَّ سلام )، "آهِ يا أسوارَ عكــا!! "، " تعاويذُ من خزف "، " لمــــاذا "، "صارخ ٌ في البرِّيـَّة "، وَ"أنا الجاني " وديوان سابع تحت الطبع.

 ما هي أهمّ مميزات شعر شفيق حبيب وما هي إضافاتك للشعر الفلسطينيّ؟؟
 لسان المرء قصير بحق نفسه... إنّ أهم مميزات شعري وإضافاتي للشعر الفلسطيني وردت في نقد بعض أعمالي للدكتور يحيى زكريا الآغا والدكتور فاروق مواسي والدكتور بطرس دلـّه والدكتور منير توما والنقاد الأساتذة: طلعت سقيرق، نور عامر، وداليه بشارة، ونبيل عودة، محمد علوش، شاكر فريد حســن وحاتم جوعية وغيرهم ممن أستميحهم العذر لعدم ذكر أسمائهم...

وفي النهاية، نقتبسُ مما ذكره الدكتور يحيى زكريـا الآغا بأن شاعرَنـــا: " صاحبُ قلم ٍ خاص، ومنهجيّةٍ متميزةٍ مع تنوُّع ٍ في الموضوعات وفي الأفكار، يرصدُ من خلال ِ شعره ِ كلَّ الصُّوَر ِالتي حدثت وتحدثُ للشعب الفلسطينيّ مبتعِـــدا ً عن الغـُلـُوِّ.. وما زال يبدع ُ من معين الأرض والوطن من أجل تحقيق الحرية المنشودة والعدل المفقود في زمن الاعتقال الفكري والأمل الضائع ...ويبقى الشاعر شفيق حبيب علامة ً مُضيئة ً في دنيا الشعر وأحدَ رموز التحدّي والمُواجهـة.."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى