الأربعاء ٢ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم نوزاد جعدان جعدان

مِنَ الحبِّ ما قتَل..!!

ملهم هكذا كان اسمه،

عرفته أيام الطفولة حين كنا نلعب بالصور القديمة ونتبادلها وكنتُ دائما اربح منه بالغش والحيل ، رافقني أيام المراهقة حين كنا نتسكع في شوارع حلب تحت سقف مساءاتها المتعبة والمترعة ، كانتْ أقدامنا تتورم أمام ديار حبيبة كل منا ..وملهم رقيق جدا له قلب أرق من السلوفان وله مشية بساقٍ ثابتة وابتسامة فيها ظلّ من الغموض ، كان وقور السمت ومتين البنيان ..وله رقبة غليظة تكاد تخترق كتفيه ..

انتقلتْ عائلته من حارتنا منذ سنين فارعة و من وقتها لم أره ، وفي ذاك اليوم الأهوج والسماء في مخاضٍ بينما أتسكع بحثاً عن عمل بعد أن تركت عملي السابق ، فالوظائف كثيرة والخيارات أكثر والمشكلة الوحيدة إنني أملك شهادة جامعية ، اذكر مرة عندما أردت العمل في أحد المطاعم كان واسطتي أحد النادلين حتى عملتُ برتبة غوميك ..فالله أعلم كم سنة أحتاج حتى أصل إلى رتبة نادل ، وفي خضم التذكر والسؤال عن العمل دنا مني أحدهم وسلّم علي وأنا أعرف هذا الشخص ولكني لم أميزه وبعد هنيهة سمعتُ صوته فميزته لأن الأصوات لا تضيع ..بدا لي شخصاً أخر وليس هذا ملهم فقد كان شاحب اللون ونحيل الجسم والآمال في جنازة الوجه تلف كفناً ..تحوّل إلى كهل أشيب كأن بارقة الأمل في وجهه حطّ عليها غراب لعين ..

سلمنا على بعضنا وسرنا في الشارع والأسئلة تدق مضجعي، حتى تجرأت وسألته بسؤال محرج كوني خريج قسم الإعلام فاستفدت من دراستي في هذه النقطة بمباغتة الضيف وإحراجه :

 هل تشكو من شيء يا عزيزي ؟ ..تبدو شاحباً!!..

 أنا مريض يا صديقي .

 وبماذا مريض ؟! ..عساه مرض هين وغير خطير ..

 إني أعاني من مرض العضال ..

لم يهزني الخبر كما كل مرة عندما استلم خبراً سيئا يصعقني ولكني لا أتحرك، فاستلمت الخبر وكأني غير مهتم ، ثم أخذت رقم هاتف ملهم وأخذ رقم هاتفي وعدتُ أدراجي وجلست في المنزل وبدأ مفعول الخبر يسري في روحي رويداً رويداً آه يا عقرب النبأ! .. وجلستُ وفكرتُ بالحياة وعندما أفكر بالحياة انقلب كهلاً وأدخل قوقعتي كالسلحفاة ، فكأن الحياة عدو يتجهز لينقض علي فالحياة تؤرقني وسؤالاتها تعيق تفكيري..فأسرارها مبهمة وأصعب من أسئلة العلوم التي كانت تأتينا في فحص شهادة الثانوية العامة دون أن أجاوب عنها فأنا عن أسئلة العلوم لم أجاوب، فكيف لي بأسئلة الحياة؟!.. لم أفكر يوماً أني لن أرَ ملهم مرة أخرى على الرغم من إني لم أره منذ سنوات عدة ولم أحزن وقتها لنواه ، ودائما كان اعتقادي بأن من نراهم في الشارع لمرة واحدة وأصدقاء الدراسة في الطفولة وأصحاب المطاعم والمحلات التجارية وكل من نراهم لمرة واحدة هم أشباح وأطياف من العالم الآخر لمَ نحزن لفراقهم!؟..فأنجيلنا جولي من سابع المستحيلات أن أراها إذاً هي ميمونة في كتب السحر من العالم الآخر !!!..ولكن عند تفكيري أن صديقي مغادر في رحلة أبدية أرقني ذلك ودفعني إلى مهاتفته:

 ألو ..مرحبا ملهم..كيف حالك ؟.."سؤال غبي مني لمريض يعاني من السرطان ".

 أهلا كيفك أنتَ "أغنية فيروز كان يعشقها ملهم "

 الحمد لله ، هل تستقبل ضيوفاً بهذا الوقت المتأخر ؟!..

 حسن على الرحب والسعة ..

جهزت نفسي والوابل يصدر موسيقى على أكواخنا النحاسية وانطلقت دموع المطر على النوافذ ، كان غيثا غزيرا وجريئا على عكسي فأنا تنزل دموعي كلما نزل مذنب هالي ، أما المطر فجريء جريء ..

وصلتُ إلى ملهم وفتح باب الدار لي واعتلينا السطح وجلسنا تحت ضوء القمر وللقمر أيضا عندي تساؤلاتُ، جلسنا وأنا شارد في النجوم الخجولة في سماء المدن والجريئة في سماء القرى ، استفسرت عن مرضه فقال لي :

  إن الطبيب قد قال لي: إنني أعاني من مرض العضال منذ زمن وأنا في مراحلي الأخيرة لذلك سأطلب منك شيئا يا صديقي ..

  تفضل.. اطلب !..

  كما تعلم أن هذه الثواني هي ثوانٍ لك ولي هي سنواتٌ ذهبية والشهر أمسى عندي سنة ضوئية ، والسنة سراب ، أريدك يا صديقي أن ترافقني إلى أماكن طفولتي وذكرياتي ، أريد زيارة كل شيء قبل رحلتي الأبدية ، فالمكان الذي نامت فيه ذكرياتي قد انتهت فترة استئجاره والآن سأوقظه للرحيل ..

  حسنا تكرم عيونك ..

وقفت لأودعه و استغربت من منظر الورود والأزهار في كل مكان من الغرفة وتتربع أرض الديار أيضا وكأنه فرش البيت وردا ، يا له من قلب واسع يا ملهم !..هل سيسع قلبك العالم !؟..العالم كرة مدببة لن تسع قلبك يا ملهم ..

وفي اعتنائه بالأزهار حرفية عالية فالورود متفتحة قد شبعت من الماء وتنسيق الزهور خليط أنواع دون تفريق ، سألته عن السبب فأنا الفضولي، فأجاب: لا يحب التفريق بين الزهور، وعلّق مازحا:

التلاقح بين الأنواع ضروري لسعادة الزهور .

غادرتُ بيته في ذلك اليوم وأعمدة الرصيف بدتْ لي كأنها تستفسر وتبحث عن أسئلة الظلام، مضيتُ وأنا أهتف للحزن، وفي صبيحة اليوم التالي توجهتُ إلى صديقي ملهم واتجهنا إلى قريته وفي الطريق بدا محدقا في كل جزء من دروب قريته وتقتله تساؤلات الأشجار ووصلنا القرية، فجلسنا تحت شجرة الصفصاف الواقعة أمام بيته وقال لي :

 هناك كنت أحفر خندقاً صغيرا لتسير منه المياه وأبني سدودا من تراب في وجه الماء، ولكن الماء يحطم كل شيء، كنت في الخامسة من العمر وعندما أرى جدي قادماً من كروم الزيتون بمنظره المهيب ووجهه الوقور أركض إليه فيحتضنني، كم كان حضنك دافئاً يا جدي!..وكم كنت جميلا بشروالك الأسود وقبعتك البيضاء وقامتك الفارعة !..

أما جدّتي فكانت تطبخ لنا الخبيزة "البنجار" في المطبخ وهي تمشي مشية مقوسة بسبب ثقل وزنها كم كانت جميلة عندما تخطئ في لفظ اسمي وكم كانت حلوة لكنتها !..

ثم توجهنا إلى فناء الدار وبدأ ملهم يشرد وكأن فناء الدار بكرة شريط سينمائي لفيلم اسمه الذاكرة وجلسنا على كرسي من الخيزران وحدّق في دالية العنب وأوراق العنب تتدلّى، سال لعابه وقطف أوراقاً وبدأ يأكل بعد أن رشها بالملح وتابع متحدثاً وأنا الصامتُ:

 اذكر إنني كنت أقف مطولا تحت هذه الدالية لأسرق منها العنب أو الحصرم، انتظر لتختفي عمتي فأسلب الحصرم وأحضر الملح وأبدأ بالأكل..

ثم أشر بيده إلى شجرة التين المتربعة في فناء الدار : هناك نصب أبي لنا حبلاً وصنعنا منه أرجوحة ، كانت الأرجوحة تهتز ومعها تهتز سنوات عمري، كنت أحسب العالم كله ملكي وأنا على ظهر الأرجوحة .

اعتلينا السطح وأكمل:

هنا في ليالي الصيف كنا ننام على السطح تحت الناموسية والقمر جريء في السماء ونجوم القرية قوية الشخصية على العكس من نجوم المدن الخجولة ، وأبي يقص لنا حكايات بعضها من تأليفه وأخرى من خزائن التاريخ، كم كان صوتك دافئاً يا أبتي! أما أمي فهي كمستمع مخفٍ تسترق السمع، وفي ليالي رمضان الجميلة كنا نتسحر ليلا والعائلة تجتمع ونضحك من طريقة جدتي في الأكل، فقد كانت تبلع الطعام دون أن تجتره جراء أسنانها البالية ثم تعاني من ألم في البطن ، وعند الإفطار تجتمع العائلة ونتسامر ونضحك فرحين دون أن ندري إن للفرح ضريبة .
ثم فاجأني حينما قال :

 سأصارحك بشيء يا صديقي ، إني أشتاق إلى أولاد عمي .

 عمك الذي نصب عليك أرضك وأكل حقك بعد رحيل والديك ..

 نعم ، إني أشتاق إلى أولاده، فكنا نلعب هنا بالكرة فرحين والدنيا كلها تدور بنا لا يهمنا شيء سوى اللعب ، كنت أشعر بالاطمئنان لوجودهم وخاصة عندما كنا نرتع في ضواحي القرية ، يا صديقي أريد لقاء عمي لأقول له : كمْ كنتَ غبياً، ردّ لي سنين عمري الماضية هل تستطيع إعادة طفولتي الضائعة يا عمي.. أيا همي؟!..هل ستستطيع إعادة تلك الفرحات والبسمات التي عشناها فسرقتها منا، هل تستطيع استعادتها بأموالك يا عمي المحترم .فالبعد والنوى لا تقربان المسافات بل تباعدان بين القلوب، والزمن يقضي على كل العلاقات إن تركنا العلاقة للزمن ، علينا أن نحل كل مشكلة في موعدها المحدد ولا نؤجلها، منذ سنين فارعة وعمي هناك في الضفة الأخرى وأنا في الضفة المقابلة له ، فكيف سنقطع النهر بدون جسر يربط ضفتيه وما من مضحٍ بيننا يسبح ويبلل ثيابه مهما مشينا سنمشي على الضفاف أو نلتقي في المحيط بعد فوات الأوان.

لوّنتِ السماء أهدابها بكحلها الأسود ونفذت علبة الألوان البيضاء وعدنا أدراجنا وطلب منّي ملهم النوم عنده ، لبيت نداءه وخلدنا إلى النوم .

قفزت الشمس كبهلواني في ساحة السماء، مضينا في الصباح إلى مدرسة ملهم الثانوية والتي درس فيها وجلس أمامها وبدأ حديثه :

هناك يا صديقي درست الثانوية كم كنا فرحين لا يهمنا ما يحدث خارج أسوار المدرسة، نضحك لمجرد نكتة غبية، اذكر مرة نفذ مازوت المدرسة في الشتاء فوضعت خشب المقاعد في المدفأة وأعمى الدخان عيوننا لكننا تدفأنا و خرّ كل من في الصف ضاحكاً، لا أدري لمَ كلما نكبر نزداد حزنا، هل هو بناء تصاعدي هذا الحزن يا صديقي !..

في مدرستي هذه عشقت آنستي وأحببتها كلما كانت تدخل الصف كان قلبي يرتجف نشوة ، تدخل بتنورتها الطويلة وبلوزتها الحمراء، وقدها المياس يرسم تمثالا، وابتسامتها وشم على وجهها كأنها شمس تدفئ الصف، كم كنتِ أحبك يا آنستي !..هل أصبحتِ عجوزا الآن والله لا استطيع تصوركِ إلا ملاكاً.

ثمّ أشر إلى حائط في المدرسة واسترسل :

مرّة هربت من المدرسة من فوق ذاك الحائط وعند هبوطي لمحت فتاة جميلة تتجه إلى المنزل كأنها مطار حبٍّ ، سلمتُ عليها ولم تجاوبني فلحقتها حتى عرفت بيتها، كنتُ كل يوم انتظر أمام منزلها إلى أن تذهب إلى المدرسة ولو تأخرت ُ عن مدرستي فلا مشكلة، كم من المرات عاقبني الأستاذ لتأخري..

وجاء يوم وكلمتها فكلمتني وطلبت منها الصداقة ، فصادقتني على أمل أن أصير حبيبها مستقبلا، عرفتها على أحد أصدقائي ويبدو أن صديقي أعجب بها وهي أعجبت به كحبيب، وأحبّا بعضهما وأنا خرجت من اللعبة كالجوكر..

ثم أخرج ملهم سيجارة وهو يسعل ولم يتوقف عن الحديث:

لم أفاجأ! فالحياة علمتني غلاظة القلب ولكن للأسف، قلبي رقيق تمنيت كثيرا أن أكون غليظ الغصن كالحياة، ما عاد الحب حباً ولا الصديق صديقا يا صديقي، أضع رأسي على كتفك اليوم وغداً ستضع كتفك تحت تابوتي..

كنت أراها مع صديقي كل يوم وكأنها تجاكرني وتغيظني، هي ترقص مع صديقي وأنا أحمل شال الحزن الأخضر بيدي وأرفرف به ، وأهتف وأرقص .

قاطعته بعد أن رأيت التعب قد نال منه :

حسناً لنذهب من هنا يكفي وقوفاً على الأطلال .

تأمل الطريق قليلا وغادرنا، وهو يتكلم :

بعد وفاة والدي وقبلهما جدي وجدتي لم يبقَ لي شيء في الحياة أخسره، فالخسارة الكبرى أن تفقد والديك دفعة واحدة في حادث سير مروع، تربيت في دار الأيتام -حتى بلوغي سن الرشد- في مجتمع من الذئاب، الأقوى يبقى له الطعام الشهي والناس الزائرة للدار تمسح بيديها على رأسك ، هل تعلم كم هي ذليلة تلك المسحة على الرأس !؟..كم كانتْ تهينني!..كنتُ اعتبرها نقصا وأحسد كل عائلة تمشي سوية في الشوارع والأسواق وأحسد رائحة الطبخ المنسابة من أحد المنازل التي يضج منها صوت العائلة ..هذا الخط جعلني طائرة ورقية بدون خيط ، كنت أتناول طعامي لأحيا ولا أعلم ما هي الحياة، عشت فقيرا ، النقود يا صديقي تجعل الحياة سعيدة بكل تأكيد ، نعم النقود، بالمال تستطيع الذهاب إلى مدينة الملاهي والجلوس في أفخم المطاعم وزيارة بلدان العالم ومواعدة أجمل الحسناوات حتى أن ميمونة ملكة الجن سترضى بك لو قدمت لها الذهب، جميل جدا يا عزيزي أن تأكل ما تريد وتحصل على ما تبتغيه ، لا كالكلاب الجائعة يسيل لعابك أمام رائحة اللحم وزجاج قاسي القلب يفصلك عنه ..

لقد اجتمع فيّ شيئان الفقر والحزن بمغادرة الأهل، عندما كنت مراهقا، كنت أحسد كل أسرة جالسة في الحديقة العامة سوية، فالأب متمدد على العشب والأم تحضر الصندويش لأولادها والأولاد يلعبون بكرة القدم وهم مطمئنون، آه.. كم هو جميل شعور الاطمئنان ولا تشعر به إلا في كنف والديك !.

حلّت العتمة بسرعةٍ ومضت الساعات كعداء يربح السباق دائما ودّعت صديقي ملهم إلى اليوم التالي ونمتُ فور وصولي إلى المنزل من شدة إعيائي وتشاؤمي.

في ظهيرة اليوم التالي توجهنا أنا وملهم إلى الجامع الذي كان يصلي فيه برفقة والده وصلينا هناك وأعطاني ورقة قال لي هذه وصيتي لا تفتحها إلا بعد رحيلي، وتوجهنا بعدها إلى حديقة صغيرة كانا يجلسان فيها سوية وقفز قائلاً:

آه من هذا الصبار!، كم من الناس مرّتْ عليه ومازال قويا في الحديقة ولا زلت أتذكر وخزاته على أصابعي.

بعد هنيهة راودت ملهم فكرة ذهابنا إلى السينما فقطعنا تذكرتين ودخلنا السينما، وملهم لا يشاهد الفيلم بل كساحر يستحضر ذكرياته مع رفاقه عندما كان يحضر الأفلام مع صحبته ويتخيل نفسه الأمير في الأفلام الهندية والبطل في أفلام الكاراتيه، وقال:

كانت رفقة السينما من الطقوس المحببة إلي خاصة أيام الأعياد، نجتمع سوية ونذهب من الصباح الباكر إلى سينما تعرض عدة أفلام وراء بعضها وكنا نخرج من السينما في التاسعة مساء ونتوجه إلى بياع صندويش الفلافل ونأكل ونحن نناقش الفيلم وقبل النوم نستحضر كل مشاهد الفيلم الفاتنة،

جربتُ حضور السينما مرارا لوحدي ولكن لا طعم لشيء وحيدا فالحياة بشعة بالوحدة ومرعبة ، لأن الوحدة تصنع من الظل شخصا، الوحدة تشعرك بآخرك، وبكل عذر فيك وكأنها مرآة تستكشف جهنم مكنوناتك، فجهنم تقبع داخل جسمك، ضعْ أي شيء في فمك سيذوب إذاً نحن أيضا نحاسبُ، ولكن أين الجنة في داخلنا؟!، نُدخل طيبا فيخرج خبيثا أي شر يسكن فيك أيها الإنسان ، تأكل الموتَ لتحيا !..

عدنا إلى منزل ملهم وجلسنا ثم حضرت كأسين من الشاي لأن المشروبات الساخنة تطيل الأحاديث ودليل على الرابطة القوية بين الشخصين، وتحدثنا عن الحياة والموت والأمل والألم ..
ثمّ نمت عنده تلك الليلة أصر ألا أرجع خشية اللصوص فالساعة تجاوزت الثالثة صباحا، استيقظنا متأخرين في ذلك اليوم من تعب السهرة، وبعد أن تناولنا الطعام سألته:

 إلى أين المسير اليوم ؟..

 إلى المقبرة، مكان جثوم حبيبتي ومكان سخف الحياة ..

وصلنا المقبرة والغروب يخطط السماء ، وملهم يحدق بالأضرحة ويعلق :

انظر للحياة كم هي مضحكة ومبكية، كل واحد من الأموات يحمل هويته الشخصية ، يعرفنا على نفسه وانظر لهذه الحسناء كيف تحولت إلى رميم، كانت حين تمشي في الحارة تجفف لعاب كل من يراها عشقا ، والآن إن خرجت من المقبرة ستجفف لعاب كل من يراها خوفاً ..
كان اسمها مريم فآه يا مريم يا اجتماع البداية والنهاية، مريم كانت مثلي وتشبهني كثيرا، كان لها قلب لا يسعه العالم، أحبتني وأحببتها ولكن أمها لم ترضَ بي كوني فقيرا وكنت أقول لها: أنا فقير لكن قلبي كبير، بيد إنها ظلت عند قناعاتها وعقدت قران ابنتها من رجل غني يكبرها بسنوات طويلة، ومرة قبض عليها زوجها وهي تحادثني على الهاتف فقتلها وقتل معها آمالي، فأنا من بنى عليها بناء آمال وكالهدّامة جاءت أمها وأوصدت الطريق في وجهي بحائط من اسمنت وقالتْ: كفى ..توقف يكفيك الآن أحلاما..

أتعلم إني يومياً أزور المقبرة وأحضر معي فنجانين من القهوة، الأول أشربه أنا والثاني أسكبه على قبر مريم فهي تشرب معي وأكاد أراها وهي تجلس بجانبي بصوتها المبحوح الجميل، لا أعرف ماذا أفعل يا مريم لأحميك من هذا التراب، كنت أخشى عليك من النسيم لو داعب وجهك والآن تراب يغطي وجهك الفاتن ..

كم أشتهي أن أخرجها من القبر وألبسها بدلا من الكفن فستانها الزهري الذي كانت تلبسه لي يوم كنت أسير ليلا من أمام بيتها فقط لأراها، ليتك يا عمر تردني مرة فقط إلى وجهها أخاف نسيان وجهها في زحمة الدنيا ولكني قادم إليك يا مريم وروحي لديك أمانة .
عدنا من المقبرة بعد أن وضعنا الزهور على قبر مريم وملهم يقول لي أن الأموات يتنفسون من خلال هذه الزهور .

ثم توجهنا إلى الجامعة التي درس فيها ملهم وبدأ يتلعثم ويصرخ :

كم أكره هذا المكان الذي يعتبرني الآن غريباً!، انظر لقد أخذ هؤلاء دورنا وينظرون إلينا كغرباء مع أننا كنا قبلهم من أهل الدار "أشار بيديه إلى الطلاب " ..نحن من مسح الرصيف أحذيتنا ونحن من ابتلتْ قلوبهم تحت أمطار هذه الأشجار، في الجامعة اذكر كنا شلة من الرفاق نجلس في المقصف وعندما يريد أحدنا مواعدة فتاة نجمع له النقود من بعضنا ونشتري له باكيتا من الدخان الغالي الثمن كي يتفاخر أمام حبيبته ونجلس ونراقبه سعداء ..
تعب ملهم فأوصلته إلى المنزل وعدت إلى منزلي وأنا جالس أفكر بملهم وحياته الشاقة، فكم له قلب قوي ولكن كيف استطاع الاستمرار إلى الآن؟!، يا له من شخص يقدس الجمال فالورود تملأ أركان المنزل والغرف تحمل في كل زاوية باقات الزهور والزينة، والياسمين يغطي فسحة المنزل، والريحان عند باب المدخل.

في صباح اليوم التالي كانت الشمس شقراء تسربل شعرها الذهبي، استيقظت وجسمي منهك من تساؤلات ملهم والحياة ، احتسيت القهوة ووجهتي ملهم، قرعت الجرس وما من ردّ، ناديته مطولا أمام المنزل وما من جواب ، هاتفته وما من أحد يرفع السماعة ، فعدت أدراجي خائبا:

أين ملهم؟!..أين ذهب يا ترى ؟!..هل عاد يسحب ذكرياته من مطمورة الذكرى؟!..آه يا ملهم، أيها الإسفنج اسحبْ ذكرياتك اسحبْ.

في الليل رجعت مرة أخرى إلى بيته وقرعت الباب ما من أحد، أقلقني ذلك فملهم مريض بالعضال وربما في أي لحظة يغادر الحياة ولكن الدكتور قال لي: إن الأعمار بيد الله ولكن هناك وقت لرحيله ثم أننا لم ننهِ بعد سحب ذكرياته، فقد كان من المقرر أن نزور اليوم الأماكن التي عمل فيها كونه سبع الكارات .

كسرتُ الباب ودخلتُ إلى منزله ودخلة بيته أحبها كثيرا، فعبير الورود يعطر أرجاء المنزل ودالية العنب ترحب بالزوار ، كان باب غرفته مغلقا والنوافذ أيضا دلفتُ الغرفة ورأيتُ ملهم مرميا على الأرض لم أتفاجأ فالنتيجة متوقعة لشخص خذلته الحياة ومريض يعاني العضال، بعد لحظات جاءت سيارة الإسعاف والطبيب الشرعي وفحصوا الجثة، فسألتُ الطبيب :

  لمَ توفي ملهم مبكرا، هل عطّل السرطان كل أجهزته؟! ، فقد تركته البارحة وكانت حالته مستقرة .

  سبب الوفاة اختناق.

  ماذا تعني ؟!..هل هناك جريمة ؟!..

  لا لقد توفي جراء توقف التنفس بسبب نقص الأوكسجين ، فالغرفة مغلقة والأزهار سحبت كل الأكسجين في الغرفة فتوقف قلبه عن النبض .

صعقني جواب الطبيب وقرأتُ وصيته المكتوبة بخط يده : أن يدفن في ضريحٍ من زهورٍ نفذتُ وصيتهُ، وأنا احمل استفسارات كثيرة، هل انتحرت يا ملهم في هذه الحياة ؟!..وهل الزهور تقتل يا ملهم ؟!..آه يا ملهم كيف تجتمع البداية والنهاية ..............

عن مجلة عود الند


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى