السبت ١٩ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم رامز محيي الدين علي

بين مدّ وجزر

في الساعة السابعة صباحـا مـن يوم الجمعة (26/4/1996م) انطلقت بنـا الحافلات من أمام المدرسة (إعدادية نيصاف) في رحـلة مدرسية برفقة زملائي من المدرسين وزميلاتي من المعلمات مع أبنائنا من الطلاب وبناتنا من الطالبات.. سلكنا طريق سلحب؛ لنصل إلى بيت ياشوط، ثم جبلة عبر تلك الجبال الشاهقة المكللة بأكاليل الغار والسنديان والزيتون والبلوط.. ويا لجمال الطبيعة: إذ تلة تبـدو وواد كالخيال، أينما تمتد عيناك تتعلقان بأفياء تلك الأشجار الباسقة، وتتعانقان مـع الصخور الشاهقة، فتتعلمان معنى الشموخ والكبرياء والعزيمة والتحدي..
وكانت أصوات الطلبة تتناغم مع ألحان العود وضربات الدربكة، لتقـول للحياة: إن قلوبنا تصنع الفرح ، ولن تستطيع يد الرياح العاتية أن تمحو علائم الفرح والسرور والبسمة من الوجوه.. وتتحدى المصائب والمحن؛ لتقول لها: لا.. لن نستسلم لدموع الأسى.. وسنرسل زوارق الضحكات في خضم بحر المتاعب والشقاء واليأس..

وفي الساعة الثانية عشرة ظهرا حطت بنا الرحلة في ربوع الملاعب الرياضية في اللاذقية، وقمنا بجولة نتأمل فيها تلك الصروح الضخمة.. فزرنا حلبة صراع اللاعبين المفروشة بالأعشاب الخضراء، يتدرب فوقها أبطال الأقدام، وصعدنا إلى المدرجات الشاهقة؛ لنتأمل فناء الملعب مـن عل.. إنها مشاهد تبهر العين وتطلق العنان للمخيلة، وقمنا بالتقاط الصـور الجميلة، وعشنا لحظات في أحضان الملعب الرياضي ونفوسنا تتوق لمزيد من التجوال، وقلوبنا تهفو لمعرفة كل جديد.. وعيوننا ترنو إلى كل منظر رائع.. وعقولنا تغوص في بحار من الخيال في سلسلة من الأفكار والتأملات..!

وجلسنا بين الأشجار الفتية على بساط من الربيع الفاتن؛ لنتناول طعام الفطـور، كل مجموعة تشكل أسرة متعاونة.. فهذا يحضر الماء، وذاك يغلي الشاي، وأخـرى تعد وجبة الفطور.. ويا لجمال تلك المشاهد التي إن دلت على شيء، فإنمـا تـــــــــدل على أن النفس البشرية تميل بطبيعتها إلى الود والحب والتعاون والوئام، عندما تسكن رياح البغض والأنانية.. وتهدأ أعاصير المصالح والمنافع المـادية.. وتسطع شمس المحبة والسلام والإنسانية، وينبلج نـور الأخوة؛ ليضيء ظلمات النفوس البشرية..!

فالبشر إن هم إلا أسرة واحدة وخلق الله وعياله، ولكن هيهات لرياح الحقد والأنانية والاستئثار أن تنام؛ لأن الحياة بطبيعتها القائمة على الصراع والتناقض تأبى أن تسير على وتيـرة الخير والمحبة والألفـة دون أن تصطحب معها أعاصير الشر والكره والبغض والتناحر..!

وبعد هذه اللحظات الممتعة في أكناف المدينة الرياضية، اتجهت بنا الحافلات صوب بلـوران، فحطت بنا عنـد سدها الجميل في الساعة الواحـدة ظهرا.. وأخذنا ننتقل كالعصافير المهاجرة على ضفاف تلك البحيرة الفاتنة.. السماء صافية، والجو ربيعي لطيف، والأشجار ترتدي ملابسها الخضراء، والماء يترقرق عذبا مليحا دون خمار، يقول للقادمين: إن الحياة نقاء وصفاء.. سحر و جمال.. لكن البشر هم عنصر الجمال أو القبح والفساد.. هم الذين يكشفون القناع عن وجهها الأنيق.. وهـم الذين يسدلون عليها براقع القبح والبشاعة.. فالإنسان هـو مـن يمنح الحياة جمالا إن كانت نفسه جميلة، وهو من يشوهها إذا غلبت عليه أنانيته وبغضه وجشعه..!

كل شيء في هـذه البحيرة يدعـونا إلى التأمل والتدبر، وكل عنصر فيها يوحي بالطمأنينة والهدوء والسكينة.. وكل جزء يستحث الخيال ويطلق سجية المـرء مـن عقالها؛ لتتفجر بأصدق المشاعر وأنبـل الأفكار..! وكل لحظة صمت أمـام البحيرة تمد حبالـها إلى لحظات الطفولة البريئة، وكل خطـوة على ضفافها تمتد لتعانق أيام ريعان الصبا، حين أفاقت قلوبنا لتعشق الجمال والطبيعة والحياة الهانئة الكريمة..!

وكانت آلات التصوير تطلق ومضات بريقها، تريد أن ترتشف ملامح الإبـداع الجمالي في كل منظــــــــــر رائــــــــــع تقع عليه عدساتها، كما كانت عدسات فكــــــري تلتقط تلك الصور وتحولـها إلى مشاهد وذكـريات في مخزون وجـداني ومشاعري الجياشة... وعيناي ترسلان بريق الإعجاب إلى كل مشهد جمالي، فتحيلانه إلى مشهد حي ينطق ويتكلم عن الهوى والحب والجمال..

وأمضينا ساعة، بل ساعتين؛ وكأنهـا بريق كالخيال.. على أطراف تلك البحيرة، وظلت قلوبنا معلقة على مشاجب مناظرهـا الفاتنة.. وغاصت مخيلاتنا في أعماقهـا تأبى الفراق كعاشق ولهان يفارق حبيبته، وتظل عيناه أسيرتين، ويذوب قلبه من لوعة الرحيل والفراق، وتموج روحه مع أنسام هوى حبيبته..

وتدور عقارب الساعة دون أن تعرف طعما للـراحة أو السكينة، وتدور معها عجلات الراحلات؛ لتهبط بنا نحـو بلدة البسيط الساحرة التي تقبع على سهل ساحلي وتحيط بها الأشجار من كل جانب.. ووصلنا إلى رأس البسيط في الساعة الثانية بعد الظهر، ونزلنا على الشاطئ قـرب استراحة تبدو بسيطة بساطة رأس الجبل الأقـرع المقابل لها والذي لم تشوهه أيدي الحلاقين من ذوي الصرعات الحديثة.. ووقفنا أمـام ذلك المـارد الأزرق الجبار الذي يبتلـع في أعمـاقه كل مظاهـر الطبيعة والحياة.. ويحتضن في أمعائه كائنات وعجـائب وأسرارا توحي بعظمة الخالق وبديـع صنعه وجمال خلقه..

وكانت الأمواج تسرح وتمرح، تجيء وتروح، وتهاجم شاطئ البحر لتلثم خدوده، وتقرأ ذاكرتي قصص حب بين الأمواج والشطآن، ومحاولات اليـم القديمة في اقتحام صدر الطبيعة، لكـنه يفاجـأ بذلك الجندي الحليق الرأس المتسلح بالصخور الصماء معانقا عنان السماء بعبوس، غير مبال باليم وعبابه؛ إنه الجبل الأقرع الذي قرأنا عنه صغارا.. وها نحن نشاهده حقيقة ماثلة أمام ناظرينا كبارا.. تهاجمه الأمـواج كرا وفرا دونما جدوى في الاقتحام، فتتكسر عزيمتها، وتزأر كالأســـــــود، وتثب كالبركان دونمــــــــــا انتصار؛ لأن ذلك الجندي يحيلها بصموده رذاذا وزبدا تتقاذفه الرياح ذات اليمين وذات الشمال.. إنه صراع البقاء: صراع القوي مع القوي.. وطغيان المردة على الضعفاء!

أو ليست الجبال والوديان والوهاد والهضاب والبطاح والسهول التي ابتلعتها مياه البحار والمحيطات في العصور الغابرة، نموذجا من طغيان القوي على الضعيف؟! أليس ذلك شكلا مـن أشكال السيطرة والنفوذ؟! قصص وروايات مـن الصراع والبطولات غمرتها المياه في أعماقها! أحـداث وكوارث وأساطير تعج في جوف تلك البحار والمحيطات! من يستطيع أن يغوص إليها، ويعثر عليها؛ ليقلب صفحاتها ثم يروي ما فيها من أسرار للكائنات التي تدب على سطح اليابسة؟!

إنها قصة الصراع بين الحاضر والماضي، ورواية الحضارة من أجل اقتحام المجهول، وأسطورة التحدي مـن أجـل اكتشاف الأسرار، وتسليط أنـوار الحقيقة على أكنافها الغارقة تحت أستار الظلام.

تساؤلات.. وتساؤلات تتواثب على مخيلة الأديب والشاعـر و العالـم والفنان.. وتغوص مخيلة كل منهم إلى ذاكـرة التاريـخ، وتمـد حبال أشعتها إلى تلك الأعماق السحيقة، لعلها تلتمس لغزا تسلط الضـوء عليه، وتسكب كيمياء تحـاليلها على كل مجهول يكتنفه الغموض.. لكنها تفاجأ بركام هائل مـن الأسرار، فتفسر ما انكشف وتحلل ما بدا، وترسم ما ظهر، وتعلل ما اتضح.

تساؤلات.. فتساؤلات ستظل تتردد على فـم الأيام.. وأجيال تلو أجيال ستظل تلاحق تلك التساؤلات، لعلها تصل إلى أجـوبة تريحها مـن عناء البحث.. عصور وعصور ولت ولم تحدثنا عـن أخبارهـا إلا نتفا تقاذفتها يد السنين بالنسيان.. أجيال وأجيال مضت ولـم تخلف وراءها إلا شعثا عبثت بـه الرياح، فماتت حكايات تحت الأقدار.. وستأتي أيام لنصبح مثلهم في عالم النسيان والمجهول والأسرار..

وتساؤلات ثم تساؤلات.. ستظل تقتحم الأفهام وتثقل المخيلات بالأوهام، ويغص بهـا الزمان، وتتشدق بها الأحلام !

وتعود ذاكـرتي إلى عدسة آلة التصوير؛ إنها تلتقط صور القوارب التي راحت تجوب فوق الأمواج وتشق دروبها على صفحة المياه.. وراح كل منا، معلمين وطلابا وطالبات، يشمر عـن ساقيه يريـد أن يركض على بساط البحر.. وطفقنا نتراكض أمام الشاطئ نريد أن نسابق الأمواج.. وكانت كل مجموعة تتراشق بالمياه؛ لتعبر عن تراشق القلوب بالمحبة الصادقة.. وهكذا أمضينا ساعات وكأنها ثوان!!

وفي حوالي الساعة الرابعة بعـد الظهر، شمرت السواعد لإعـداد الطعام الشهي للغداء.. فواحد يقطع لحم الفراريج، وآخر يشعل الفحم على المـوقد، وثالثـة تقطع الطماطم والخيار، ورابعة تغسل الصحون.. حتى أعددنا طعام الغداء في تلك الاستراحة البسيطة على الشاطئ، وجلسنا نتناول الطعام، إذ تتعالى الروائح الطيبة وتتناغم معها ضحكاتنا المفعمة بالسعادة والسرور، ترافقها قهقهات النكت والمزاح.. كل شيء من حولنا يضحك ويبتسم.. الطلاب يغنون ويرقصون ويدبكون، والنسائم العليلة تترقرق بابتسامتها العذبة تصافح ضيوفها على الشاطئ.. وطيور النـورس تحلق فوقنا حاملة زغاريد الفرح والسرور، معبرة في تغريدها عـن جمال الحياة.. والأشجار الوارفة الظلال تدعو إلى الراحـة والاستسلام للسكينة والهـدوء.. وتناولنا الطعام وكأننا في أعراس من الخيال.. وأكلنا الفاكهة، وكأننا في جنان الخلد، واحتسينا كؤوس المتة التي زادت قلوبنا دفئا فوق دفء الفرح..

وتاقت نفوسنا لشق عباب البحر، فركبنا مركبا صغيرا أخذ يعلو ويهبط بنا على أنغام الأمـواج.. وقلـوبنا تتراقص مع الرهبة تارة والفـرح تارة أخرى.. وقضينا قرابة ساعة في أحضان البحر، وعدنا لنرسو على الشاطئ، فنزلنا مـن القارب وما زالت قلوبنا مع تلك الأمواج البعيدة تريد أن تجوب كل البحار والمحيطات..

وتدق عقارب الساعة لتعلن لحظة الـوداع والرحيل.. وتدق معها قلوبنا تأبى أن تعود! القرية تدعونا للعـودة.. والبحر يشدنا للبقاء.. ووطن الأهـل ينادينا لشوق اللقاء.. وأمواج اليم تأسر أفئدتنا إليها.. الصراع يحتدم بين الرحيل والبقاء.. ولكن هيهات أن ينفع الصراع في مثل هذه اللحظات الصعبة!!

فماذا تفيد زفرات العاشقين في لحظات الوداع؟ القلوب تأبى الرحيل والسفر، والعيش والواجب يدعوان إلى ضرورة البعد والفـراق.. عشقنا البحـر وجماله، وعشقت الأمـواج قلوبنا الدافئة.. فهذا العشق الرومانسي يدعونا للبقاء.. ولكـن الواجب في ضرورة العودة وقف ينادي من أعلى القمم: تعالـوا أيهـا الراحلون... عودوا أيها المسافرون، فالأهل بانتظاركم!!

وفي تمام الساعة السابعة مساء انطلقت بنـا الحافلات للعودة إلى وطـن الولادة والعمل والعيش.. سالكين الطـريق نفسها، ووصلنا إلى ربـوع نيصاف في الساعة الحادية عشرة والنصف ليلا على هدير الحافـلات وعـواء الكلاب ونقيق الضفادع..
وعدت إلى البيت طريح الفراش من ألم الفراق وتعب السفر.. وسعادة ذلك اليوم لن تنساه جوارحي ما دام قلبي ينبض بالحياة، وما دامت قطرات دمي تسري في عروقي، وما فتئت أناملي تعشق اليراع، وما بقيت مقلتاي تتعلقان بكل عناصر جمال الحياة.

لا تدعينا نفارقك أيتها الحياة الجميلة، دون أن تمتلئ قلوبنا بالحب، وتنتشي أرواحنا بجمالك الساحر.. دعينا نسعد.. نأكل ونشرب.. نسرح ونمرح.. نشقى ونفرح.. نبكي ونضحك.. نسافر ونعود.. نموت ونحيا كالزهور..

كيفما كنت أيتها الحياة، فإننا نحبك، ولكننا نعشقك أكثر حينما تحررينا من قيود الطغاة، وسنابك العداة، وجشع الطامعين، وجور الظالمين..!

أيتها الحبيبة! دعي لساننا يقول ما يشاء، واكسري كل مقصات الطغاة، وحطمي كل قيـود المستبدين، ودعي القلـوب تهيم كيفما تشاء، واجعلي الحناجر تعانق عنان السماء؛ لتقول للخالق العظيم: إننا خلقنا في هذه الحياة سعداء.. فاهدنا بأنوارك الإلهية واعصمنا من الخطايا والذنوب لعلنا نفيء إلى ظلال رحمتك سعداء..!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى