السبت ١٩ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم منى العبدلي

عن سر يهرول ناحية الضوء

كان مستلقيا على سريره الحديدي الوحيد في الحجرة الخاوية إلا من مروحة معلقة في سقف اثقلته القشور المتدلية بفعل الرطوبة وسوء التهوية, ذراعه المرتخية تتدلى من على طرف السرير وكأن حمى أصابت هذا الجسد النحيل وصارت تجول في أطرافه عابثة.

 في الجهة التي تقع أمام السرير مباشرة مرآة التصقت بالجدار يحيطها جبس ابيض شُكل بطريقة عشوائية تلطخه آثار الأصابع التي زرعت المرآة على هذا الجدار كابي اللون . الهواء شحيح وضوء الشمس نسي هذه البقعة الخارجة عن مداره فتسربلها الظلام وغشاها الصمت.

الكآبة والوحشة تثقلان صدره العاري وعيناه شاخصتان ومعلقتان بالمروحة الصدئة تدوران معها في متاهتها الأبدية.

تلمس صدره بيديه كأنما يتحسس ذاك السر المخبوء مابين لسانه وقلبه وبداخله تتصارع الرغبات وتتناحر, رغبة الكتمان توازي تماما رغبة البوح وبالقدر نفسه تزمجر الرغبة الملحة و الحاجة الشديدة للخلاص من هذا المأزق حتى لتكاد أن تقضي على رباطة جأشه, لكنه عاد وذكر نفسه بأهمية التشبث بالصمت في هذه المرحلة بالذات متخيلا ما يمكن أن يحدث إن هو افشى سره المزعج الذي يملأ روحه ضيقا, فيعض على لسانه حتى يصرخ الدم في حلقه ويكف عن مسايرة الأفكار والهواجس. ظل, ظلام, توجس, حيرة , امتعاض.

وصوته الرافض للانصياع والبقاء في رطوبة المكان الهارب من امتداد الضوء يتسلق الزوايا الباردة.
يتلهى.يتسلى , يتشاغل ,تباغته الرغبة اللحوحة ذاتها ليفشي بما يثقل كاهله في رأسه صوت يهمس, السر حصاة لا تنبت عليه عشبة! فضفض السر بلا وجل يواري وجهه المنقوع بدماء الخوف وينزوي بعيدا عن المرآة التي تصر أن تظهر قبالته مهما ابتعد, تفقده صوابه ويشيح بنظره بعيدا عنها وهو يدرك تماما أنه لا مجال لفقدان قدرته على التركيز والبقاء صامدا مهما ابدت له من مراوغة.

ظلاله التي يجرها خلفه بطيئا, خطوه المريب, المبلل بماء السر كأنه شراك فاغرة نصبت له.تعتريه الرعدة فيجفل وهو يُصغي لوشوشة خفيضة .أصابع دقيقة تنمو على توجسه لحظة يمتد الضوء نحو ظلاله .والقلق يتجاوز حدوده حين يراوده إحساس بأن ثمة من يحسب له خطواته ويشاطره أنفاسه .وتلك الأصابع لا تكف عن الوشوشة , يوشك خوفه أن يتطاول فيستل ظله متوشحا بالهاجس الذي بلغ مداه.

هل يخضع, ويستكين ويتطامن للجبل الذي يحمله فوق رأسه؟

أم يصرخ ويصرح مبديا عجزه عن حمل ذاك السر؟

يتراجع, يصمت, يترقب. يهمس لنفسه بشيء من الهدوء بأن السر سيبقى سر.

لا يهم وليأتي ما يأتي.

تزداد همهمات الأصابع الناتئة ويأتيه الصوت قريبا كأنفاسه هذه المرة: 

ـ ترعبك خطواتك وتجهد لمحوها؟ 

يلتفت لمصدر الصوت مذعورا.

إنها المرآة على الجدار مرة أخرى. 

ـ هذا الخوف أنتِ؟

ـ هو وليد ظلالك التي تتبعها 

ـ قلت إني سأحمله عنك! تعال أنجيك منه.

ـ لا .أنتِ تثرثرين بالأسرار, بل كلاكما 

ـ من ؟ 

ـ أنتِ وانعكاسك .يصير لكلاكما لون وحكاية ويظهر السر مفضوحا , وحين ذاك لن تكون الظلال ولن يكون السر سرا .سيصير مضغة للأفواه تلوكه.

ـ إلى أين؟

ـ إليك 

ـ والسر؟.............

ـ آخ

استفاق, على وجع يلسع جسده وحطام المرايا مبعثر وقد امتزج بلون دمه. 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى