الخميس ٢٤ آذار (مارس) ٢٠١١
قراءة في جديد المتوكل طه

الأبواب المنسيّة

محمد الخطيب الكسواني

بعد سلسلة كتب للمتوكل طه حول تجربة الأسر وحكايات الأسرى، من بينها: «رمل الأفعى»، و«أحلام ابن النبي»، و«فضاء الأغنيات»، و«زمن الصعود»، «ورغوة السؤال»، وقصص متناثرة في «كشكول الذهب»، و«عباءة الورد»، و«سرديات الجنون»، يصدر المتوكل طه المجموعة القصصية «الأبواب المنسية» وهي الكتاب الأربعين الذي يصدره عبر تجربته الثقافية المديدة.ويعتبر المتوكل واحدا من أهم وأكثر من كتب عن تجربة الحركة الأسيرة في سجون الإحتلال.

يضم الكتاب 63 قصة زُيّنت برسومات للفنانة التشكيلية ريما المزيّن المقيمة في القاهرة، والكتاب من إصدار وزارة شؤون الأسرى والمحررين في فلسطين.

وبهذا الإصدار يكون للكاتب المتوكل طه ثلاث مجموعات، أستطيع أن أعتبرها مجموعات قصصية بامتياز هي مجموعة «عباءة الورد»، ومجموعة «سرديات الجنون»، إضافة إلى هذه المجموعة. كما أستطيع التأكيد على أن كتابه «رمل الأفعى» أقرب إلى الرواية أو إلى سيرة المعتقل. 

وجاء «الأبواب المنسية» في مئتين وخمسين صفحة من القطع المتوسط، وضم خمسة وستين لوحة قابلت القصص تباعا.

في مقدمة الكتاب قال عيسى قراقع وزير شؤون الأسرى «يسير المتوكل طه في هذه المجموعة القصصية طوع ما نسيه الضوء، يفتح الأبواب المغلقة، يجلس على أبراش الحديد، يدور في ساحة الفورة، يرقب الشهقات والهمسات والأحلام والدمعات والضحكات والعادات السجينة. وفي هذه المجموعة يملأ المتوكل فراغ الرواية، يملأ القصة بالضوء والصوت، ويلقي بهذه الحمولة الإنسانية المشحونة بالوجع في وجه الجميع. كما إن المتوكل طه يسخر من الجلادين، ويردد مع المعتقلين اغنية ستهدم جدران الزنازين، وتطير في بر مفتوح».
 
(الأبواب المنسية) عمل مصوغ على نحو داهش، ثمة هيكل معماري واحد ينتظم القصص الثلاث والستين جميعها، وهو عدد كبير في تقاليد المجموعات القصصية، الأمر الذي يوحي بأن ثمة سرّاً في العدد، كأن يكون عدد سنوات النكبة الفلسطينية، وهو تخمين غير بعيد عن الصواب لدى من يتابع المنجز الثقافي للمتوكل طه.

يقوم معمار المجموعة على مبدأ الثنائية في كل مناحي المجموعة. ثمة ثنائية في الشكل على مستوى كل قصة، وعلى مستوى المجموعة ثمة ثنائية في الموضوع. يريد بها الكاتب أن يقول بان ليس هناك صورة من لون واحد. حتى تتشكل صورة لا بد من تعدد في الألوان أقله اثنين، واذا أريد من الصورة أن تكون أكثر واقعية، فلا بد أن تشمل البعد الثالث.

 الواقع أكثر تعقيداً من أن يكون سفح جبل يمكن كشف تفاصيله من ذروته، وليس ثمة مناظير قادرة على اختراق أسراره، فالواقع البشري، وواقع الأسرى على وجه التحديد، وهو موضوع المجموعة، يتكون من شبكة معقدة من الزوايا المتناظرة والمتعاكسة، والتي تشكل معاً جسد ماسة لها عدد من الأوجه لا حصر له. وإنّ فهم الواقع يتطلب معايشة جوانية لاقبيته وزواياه وتعرجاته.

في الأدبيات الفلسطينية، غالبا ما يُنظر للسجن من أحدى ثلاث زوايا : زاوية رومانسية، فيها أبطال شجعان، تذكّر بالأساطير الأغريقية القديمة، وزاوية حقوقية حول ما يعجّ فيها من تعذيب وتنكيل وضحايا، وثالثة وطنية تتحدث عن السجن كموقع للصراع السياسي بين كيانين سياسيين فلسطيني واحتلالي.

هذه المجموعة القصصية، تسلّط الضوء، لأول مرّة، فيما أعلم، على هوامش لم يكن الكتّاب الفلسطينيون يتطرقون إليها، وكان مسكوتاً عنها، مثل الحديث عن الجسد والمرأة، وكذلك عن أخطاء ارتكبها بعض المعتقلين بحقّ زملائهم، وكذلك أشار إلى الضعف الإنساني، ولم يجعل السجين إلهاً أو مقدساً كما جرت العادة في مثل هذه الأدبيّات. 
ومن هنا يريد الكاتب أن يُرينا السجن من مختلف جوانبه، فالسجن ليس عالماً بل عوالم، فهو يضم الزوايا سالفة الذكر، وأكثر بكثير، ومن هنا يستعين في معمار مجموعته على كم هائل من الثنائيات، تشكل واقعاً مركباً كثير التفاصيل، عميق الملامح.

1- ثنائيات الشكل

1-1 المقدمة الواقعية والخاتمة الغرائبية

معظم قصص المجموعة وإن على نحو متباين الحدّة، تبدأ بدايات شديدة في واقعيتها، وتنتهي نهايات موغلة في غرائبيتها. هذا الصدام الهائل يولد لدى القارئ حالة من التيه الجميل، ما يفرض عليه الانخراط في عالم الحكاية بغية البحث عن الخيوط، التي إن انشدت الى بعضها استقام المشهد في ذهنه، ليغدو كاتباً جديداً للحكاية، ليس بالمنطق النقدي القائل بأن كل قارئ جديد للنص هو كاتب جديد له. فتلك المقولة تفترض أن إعادة الكتابة هو نتيجة تلقائية غير مقصودة للقراءة، قائمة على أن كل انسان يفهم ما يقرأه أو يسمعه أو يراه، من خلال منطقه الخاص به وزاوية نظره هو، ومخزونه القيمي والمعرفي هو، وانتمائه الطبقي والطائفي والعائلي والفئوي والجغرافي والجندري الخاص به هو. أما إعادة الكتابة لقارئ هذه المجموعة فهي فعل قصدي أراده الكاتب الأول وانتقلت مفاعيله بالعدوى إلى من يليه، بحكم التشتت الذي يواجه كل قارئ جديد للنص.

1-2 لغة الواقع ولغة الشعر

كما أن معظم القصص أيضا تشهد نسقين لغويين مختلفين، يغلب أن تكون مقدمة القصة بلغة بسيطة مشتملة ألفاظا قريبة من العامية، وفيها الكثير من مصطلحات عوالم الزنازين والمعتقلات، كما يغلب كذلك أن تكون خواتيم القصص بلغة شعرية دافقة تحمل الكثير من الدلالات والجماليات بعيداً عن المباشرة. هذه الثنائية موجودة في معظم القصص، وهذا لا يمنع أن هناك من القصص ما يسيطر عليها نسق لغوي مخصوص، حينذاك تكون الثنائية على مستوى المجموعة لا على مستوى القصة المفردة. 

فيما يلي بعض الامثلة :

لم يبق لها في الدنيا غيره. تزوجت وأنجبته بعد سنوات من الرجاء والبكاء، وراح زوجها إلى البعيد، ولم يعد! وأحاطت ابنها برموشها وشغاف قلبها، وكبر مع النذور والصلوات، وهيّأت له كل ما تستطيع ليعوّضها! لكنهم اعتقلوه، (..................)

بقيت ماثلةً راسخة أمام السجن، وشيئاً فشيئاً ضربت جذورها في التراب، وأطلقت ذراعاها الأوراق والأغصان، وتفرّعت من رأسها ووشاحها طلوقٌ خضراء، وبدأت شروشها تدبّ في الأرض، وتصعد في كل اتجاه إلى أن أصبحت شجرة، لجذعها شكل قوام امرأة، يصّاعد منها غُصنان كبيران، التفت حولهما غصون كثيرة وورق أخضر كثيف.. وجاء الطير وحطّ عليها، وراح الناس يتظللّون بفيْئها.)

( سريرٌ فوق سرير، ومثلهما يقابلان الباب الحديد، وممرٌ صغير بينهما، لا يكاد يكفي ليكون جلستنا حول الطعام، فنأكل جالسين على حواف الأسرّة، ونصلّي فرادى.(.......................)

في اليوم السابع، كان البحرُ الذي يزورنا كل ليلة، فيعبئ الزنزانة بأمواجه الصغيرة، فتتراقص الأسرّة فوقه، كأنها تتهادى ببطء ورويّة! كان البحر قد حمل على صفحته قمراً صغيراً، فيندرج كالكرة على ثناياه! كان البحرُ قد ترك لنا القمرَ على الممرّ، فأصبح بقعةً بيضاء كالحليب، وصار الممرّ سماءنا، ونحن على وسائد السحاب.)

(لا يذكر مَنْ هو أول شخص أطلق عليه لقب "دالي"! لكنه سعيد بهذا التوصيف، الذي يحمل قدراً كبيراً من الاعتراف بقدرته على اجتراح الرسومات اللافتة واللوحات الباهرة!(...) ولم يتوفر له في المعتقل سوى أقلام الحبر الجاف أو الرصاص، فكان يرسم على القمصان الداخلية وعلى قصاصات الأوراق، ويهديها لأصدقائه، لكنه راح يرسم على جدار ساحة الفورة لوحته الكبيرة، فيقضي ساعة الفورة في الرسم، ثم يعود ويكمل، وبقي شهراً أو أكثر على حاله حتى اكتملت.
 
بعد ليالٍ استيقظ المعتقلون على رشقات رصاص متتالية، تبعتها قعقعة سلاح ورشّات أخرى، واستمر إطلاق النار ساعة أو يزيد.في اليوم الثاني لاحظ المعتقلون أن جدار ساحة الفورة كان محفّراً ومرشوقاً برصاص كثيف، وأصبح كالغربال، وثمة دماء أسفل الجدار!
ما هذا؟ وما الذي جرى؟

يقول السجّانون: لقد باغتتنا الخيول المرسومة على الجدار، فخرجت منه، وجمحت وصهلت، وكادت توقعنا تحت حوافرها، فرميناها بالنار!
وها هو دمها على الجدار.)

(اكتمل العُرْس، وسطعت الأضواءُ في غبش المغرب، وكان الغناءُ المرتّلُ هائجاً طازجاً يفيض بالبهجةِ والدموع. وفجأة، ارتبكت الأبواب، وتعالت أصواتٌ حادةٌ وغريبة في الشارع، وتعالى هديرُ المركبات وطقطقة السلاح، وارتفع الصُراخ، وانخبطت الدُّنيا، واختلط الحلم بالكابوس، وأخذوه، ورموه مكبّلاً على أرضية الدورية، وراحت السيارات العسكرية تولول، وتطلق الرصاص على الجموع التي هجمت تحاول تخليص العريس من بين القيود.

وظلّت العروس في بيت عريسها، تسقي كلّ صباحٍ أصيص الريحان، إلى أن انقضت الأعوام الخمسة عشر، ليرجع العريس فيجدها بثوبها الأبيض أمام البوابة، ويجد ورقة الليمون ما زالت يانعةً مطبوعة على عجينة القوس!)

(يمتلئ وجهها بالدموع، فَتَهرُّ على صدرها وتغطي الأرض، ويطفئون جمر السجائر في وجهها، فتصرخ، ويحتشد وجهها ألماً وغضباً، ويعقصون رُسْغَها إلى الخلف، حتى يكاد ينكسر، فتتأوّه وتختنق، وكأن كلبشة الحديد تُطبق على قلبها، وتجوح وتصرخ، وتبكي وتبكي...
ويعيدونها إلى الزنزانة.

يهرعُ الجندي إلى ضابط التحقيق، ويخبره أن زجاجاً لبنيّاً يلمع، يغطي أرض غرفة الشَّبْح!
يُقَلّب الضابطُ الحبّاتِ الملساءَ، ويجمعها في كيس صغير. وتكاد المفاجأة تذهله وتذهب عقله، حينما أخبره تاجر المجوهرات أنها حبّات الماس مُصَفّى! وأنه ماس مصقول نقيّ، لا يضاهيه ماس في الكوكب!
في غرفة التحقيق، أحضر الضابط مَقْلعَ الأظافرِ والسجائرَ والإبرَ التي يدسّونها في العُقَلِ وتحت الجلد وكلاليبَ صغيرةً وحبالَ رفيعةً والبَكَرات، وأحضر الفتاة، وأوصلها إلى اعتقاد مفاده: كُلّما بكت، خفّ التعذيب وترفّقَ بها.
وعلى الرغم من أنها اعترفت بكل ما فعلته وما لم تفعله، فإن الضابط ذاهبٌ في تعذيبها، وسادرٌ في استحلاب دموعها.. الماسيّة.)

( كان يجوح وينوح، ويبكي ويجهش.. حتى قطّع نياط الحديد!! ينادي أمّه، فيصفعه المحقق على وجهه، فيزداد صراخه، ويطفح الدم من وجهه، فيصفعه ثانيةً، فينكتم الطفل، ويرتعد، ويكاد يتفتت من الخوف.
ذهب المحقق بالطفل إلى الزنزانة، وألقاه فيها، وأخبره بأن الجراذين ستأكله، إذا بقي هناك، فالأفضل له أن يعترف! لكن الصغير لم يفعل شيئاً، ولم يُلقِ حجراً أو زجاجةً، فعلى ماذا سيعترف؟
فوجئ المحقق أن الطفل، بسنواته الاثنتي عشرة، لم يطلب النجدة، ولم يبكِ!
اقترب من الزنزانة، وأصاخ السمْع، فلم تصله نأمة أو صوت!

فتح الزنزانة، فانقضّت عليه عشرات الجراذين التي راحت تأكل وجهه، وتمضغ قدميه ويديه، وتتسلق ظهره، وتحفر بطنه، وهو يصرخ!
ظلّ المحقق ممدّداً، مُنخّلاً بجروحه، ودمه ينبع جارياً في كل اتجاه.
في الصباح، رأى الجنود المنظر، فهرعوا ليستكشفوا المسألة، فوجدوا حفرة وسط الزنزانة، فدلفوا إليها، فإذا بها نفقٌ يفضي إلى الشارع البعيد.)

( رمَوْه على أرض الزنزانة، كان الدم ينزّ من أنفه وفمه، وقد أُغمي عليه من شدّة الضرب على رأسه وكل أنحاء جسده؟ حتى لم يستطع أن يتكئ على ساعده لينهض، ويتخلّص من رائحة البطانيات العفنة ولزوجةِ البول التي تشرّبَتْها، في عتمةٍ ثقيلةٍ لم يتبيّن فيها مواضع الجروح والكدمات والكسور.

كان حلقه جافاً، لم يستطع أن يبصق الدم المتجمّد في خشب فمه، وأنفه مرضوض، يكاد الهواء لا ينسرب إليه بفعل الدم المتجلّط فيه.

تخثّر الدم، وانتفخ وجهه، وازْرَقّ ظهره، وتحطمت أضلاعه، ولم يقوَ على تحريك ذراعيه.
كأنه بين النوم والصحو، والألم يستبدّ بالرأس الثقيل الدائخ الزائغ.

وفجأة، تراءت له القامات، ولم يتبيّن الوجوه! كان النبيّ والوليّ والشهيد والذبيح بملابسهم الطويلة المُسدلة يقفون عند رأسه، وما إن أيقنوا أنه شقّ رمشيْه ليراهم، حتى اختفوا!
التبس عليه الأمر، هل يتخيّل؟ أم أنَّ ملمس أذيال ثيابهم التي غطت وجهه كان حُلماً؟!).

2- ثنائيات الموضوع

2-1- الرجل والمرأة

ربما يكون أغلب الأسرى من الرجال، وكذا جاءت أكثر شخوص القصص من الرجال، بيد أن السجن ليس مقصوراً على الرجال، فالمرأة حاضرة بقوة، وما تميزت به هذه المجموعة أنها لم تحصر النساء في صورة نمطية محددة، الأسيرة كما الأسير تحنّ لحياتها وعلاقاتها الزوجية،وهي كما الأسير تلهث خلف أبنائها في الأسر، وهي زوجة أسير تحمل وحدها خلفه أعباء الحياة، وهي تفقد زوجها ليلة الزفاف فتفصل بينهما السنون، وهي أيضا تتعطل بعض ملامح أنوثتها كالعادة الشهرية بسبب ما تلاقيه من عنت وقمع. وهي كذلك تستقبل في بيتها زوجاً لعله لم يعد زوجا كما كان، إلى أن تنجلي الغمّة بعد صبر منها غير قليل.
 
ألقت الملقط بعيداً، وتأفّفت.

لمَنْ تزجّج حاجبيها، وتزيل الشوك عن الصبّار الرخو؟ ولمَنْ تُمَنْجِل هذا القوس الأسود فوق رموشها المصقولة؟ فكل مَنْ حولها معتقلات مثلها، وستمضي سنوات وسنوات وراء القضبان! وزوجها؟ أعانه الله! يزورها ويواسيها، ويؤكد لها حبّه وإخلاصه، ويطمئنها على الأولاد!
نامت، ودمها يغلي ويفور، فينقبض صدرها، وتكاد تختنق، ومن المستحيل أن تخضّ جدولَ الشهد، ليقطر العسل! فتنام وفي فمها الحامض لهفة معدومة، ونشفان يشقق الحَلْق.
وتحلم، فتراه بكامل زينته، عائداً من الحقل، مطهماً برائحة الحشائش الطازجة، وعرقه البارد ينفذ إليها كرائحة المواقد المُطفأة.

ويخنس إليها، ويتمدد قرنُ الغزال، وتنفتق الصخرةُ عن نرجسٍ، له فحولة المطر العنيف، أو الرهام الخفيف، في أماسي الربيع الباردة.

تصحو، وتبحث عن الملقط والمرآة، وتحدّد السيف، حتى لا ينثلم أو يفقد النَّحْر.

لم يبق لها في الدنيا غيره. تزوجت وأنجبته بعد سنوات من الرجاء والبكاء، وراح زوجها إلى البعيد، ولم يعد! وأحاطت ابنها برموشها وشغاف قلبها، وكبر مع النذور والصلوات، وهيّأت له كل ما تستطيع ليعوّضها! لكنهم اعتقلوه، (...)وراحت ترابط أمام السجن(...)بقيت ماثلةً راسخة أمام السجن، وشيئاً فشيئاً ضربت جذورها في التراب، وأطلقت ذراعاها الأوراق والأغصان، وتفرّعت من رأسها ووشاحها طلوقٌ خضراء، وبدأت شروشها تدبّ في الأرض، وتصعد في كل اتجاه إلى أن أصبحت شجرة، لجذعها شكل قوام امرأة، يصّاعد منها غُصنان كبيران، التفت حولهما غصون كثيرة وورق أخضر كثيف.. وجاء الطير وحطّ عليها، وراح الناس يتظللّون بفيْئها،

اكتمل العُرْس، وسطعت الأضواءُ في غبش المغرب، وكان الغناءُ المرتّلُ هائجاً طازجاً يفيض بالبهجةِ والدموع. وفجأة، ارتبكت الأبواب، وتعالت أصواتٌ حادةٌ وغريبة في الشارع، وتعالى هديرُ المركبات وطقطقة السلاح، وارتفع الصُراخ، وانخبطت الدُّنيا، واختلط الحلم بالكابوس، وأخذوه، ورموه مكبّلاً على أرضية الدورية، وراحت السيارات العسكرية تولول، وتطلق الرصاص على الجموع التي هجمت تحاول تخليص العريس من بين القيود.

وظلّت العروس في بيت عريسها، تسقي كلّ صباحٍ أصيص الريحان، إلى أن انقضت الأعوام الخمسة عشر، ليرجع العريس فيجدها بثوبها الأبيض أمام البوابة، ويجد ورقة الليمون ما زالت يانعةً مطبوعة على عجينة القوس!

خمسة أشهر في التحقيق، ولم يثبت ضدها اتهام واحد! ويكاد المحقق يفقد عقله.
والصَبيّة في الزنزانة هادئة مطمئنة، تحدّث نفسها بالصمود والصبر، وتُمنّي ذاتها بالحرية والانتصار! لكنها خائفة! كان من الطبيعي أن تباغتها العادة الشهرية خمس مرات، لكن الدم انقطع، ولم يأتها الطمث، ولم.. وازداد خوفها! ومن المستحيل أن تكون حبلى، فمنْ أين ستحمل؟ ولم يطأها أحد، ولم يمسسها بشرٌ، ولم تك بغيّا؟

لعل قلّة الغذاء والنوم وكثرةَ العذابِ والبعنَتِ والألم والتغيراتِ النفسيةَ هي سبب انقطاع العادة الحميمة! ربما!

في الشهر السادس، نقلوها إلى قسم الاعتقال الإداري في السجن، فاستقبلتها المعتقلات بكثير من التقدير والاهتمام، وأنزلنها مقاماً يليق بثباتها وقوّة انتمائها وعظيم احتمالها.
لعلها نامت، أو كادت، فجرى الساخن القاني يتدفق، فانشرح صدرها، وابتسمت!

لقد مرّت الأعوام كأنها أيام، رغم أن كل يوم كان أطول من عام!
خمس عشرة سنة مضت، وها نحن نحتفل به، فقد تزيّن وشذّب واستحمّ جيداً، وأجلسناه على خمس بطانيات، كأنها عَرْشُ نُتوّجُهُ فوقَه عريساً أو أميراً، فنضحك ونتذاكر ونسرد النكات اللطيفة، ونتمنّى له أياماً هانئة وعُمراً مُعافى.

أشرقت الشمس، فألبسناه، وغنَّينا له، وودّعناه.

في غرفة الإدارة، رفض أن يوقّع على أوراق الإفراج عنه، وانتهاء محكوميته! فاستغرب مدير السجن، واستدعى ممثّل المُعتقل، لعله يقنع زميله بالرواح، فالأبواب مفتوحة أمامه!
جلسا على مقعد في الساحة، وأشعلا سيجارتين، وانتظر ممثل المعتقلين تفسيراً، يوضح له غرابة موقف صاحبه!

صمت صاحبه وسكت، وأطرق، وأدار وجهه ورفعه، وغيّر هيئة جلسته وعدّلها، ولم يستقرّ به القعود، وأخيراً نَطَق!

كيف سيكون حاله أمام امرأته بعد كل هذه السنوات؟ لقد أصبح عنّيناً لا ينتصب فيه رجل! حتى أنه نسي أن له وظيفة أخرى غير تصريف الماء المالح!

لكنه خرج من البوابة الكبيرة، فاستقبلوه، وحملوه إلى الدار.
في الليل، كان الشمع يسّاقط جذلاً رقراقاً كثيفاً، يضوّع بضوئه الناعم المنحنيات الظمأى.
أخافه الفشل والخمول وركود الحصان أو ذبوله.

وانكسر الحصان، بالفعل، ولم يقْوَ على الصهيل!!

أجهده العَرَق، وخارت قواه، فأخفى وجهه، وتلعثم، وتمنّى لو قضى قبل هذا الليل.
استيقظ متأخّراً! كانت امرأته وحدها في المطبخ، فاقترب منها، فثارت عروق القرنفل، واندلح ماء الزهر على الأرض، وانخفق الرخام، وفارت القهوة من الدلّة على قُرص النار.

آلو، كيف حالك شو أخبارك وكيف الأولاد، وكيف صحّة أمّي، تحسّنت؟
الحمدلله، كلهم بخير، وأمّك تأخذ الدواء في مواعيده، وتحسنت كثيراً، وكلنا "مشتاقين" لك.
ماذا طبختِ اليوم؟ والله زمان على أكْلاتك اللذيذة، الله كريم، إن شاالله بتعود الأيام و..
ولا يهمّك، ودير بالك على صحتك، وواظب على الرياضة، ولا تعود للتدخين.
.. وهكذا، في كل ليلة، عندما يضع رأسه على البطانية، التي طواها حتى أصبحت وسادة، ويغمض عينيه نصف إغماضة، يهمس، كأنه يحمل هاتفاً ويتحدث إليها.

2-2 –الإنساني والجنسي

البعد الإنساني موجود في كافة القصص، ولكن هذه المجموعة تحتضن قصصا تسلّط الضوء على البعد الجنسي في حياة الأسير والأسيرة. تلقي المرأة بملقط حواجبها وهي جالسة وحولها الأسيرات وقد سئمت من حياة تخلو من ملذات الحياة الزوجية، أما هو فيفترع طيف زوجته وفي الصباح يغتسل، وغيره من يودّ لو يبقى حبيساً أبد الدهر لئلا يواجه زوجته وقد هزلت قوته الجنسية، وآخر يحادث طيف زوجته كل ليلة قبيل النوم، وآخر شاب يمارس العادة في الحمّام.

ألقت الملقط بعيداً، وتأفّفت.

لمَنْ تزجّج حاجبيها، وتزيل الشوك عن الصبّار الرخو؟ ولمَنْ تُمَنْجِل هذا القوس الأسود فوق رموشها المصقولة؟ فكل مَنْ حولها معتقلات مثلها، وستمضي سنوات وسنوات وراء القضبان! وزوجها؟ أعانه الله! يزورها ويواسيها، ويؤكد لها حبّه وإخلاصه، ويطمئنها على الأولاد!
نامت، ودمها يغلي ويفور، فينقبض صدرها، وتكاد تختنق، ومن المستحيل أن تخضّ جدولَ الشهد، ليقطر العسل! فتنام وفي فمها الحامض لهفة معدومة، ونشفان يشقق الحَلْق.
وتحلم، فتراه بكامل زينته، عائداً من الحقل، مطهماً برائحة الحشائش الطازجة، وعرقه البارد ينفذ إليها كرائحة المواقد المُطفأة.

ويخنس إليها، ويتمدد قرنُ الغزال، وتنفتق الصخرةُ عن نرجسٍ، له فحولة المطر العنيف، أو الرهام الخفيف، في أماسي الربيع الباردة.
تصحو، وتبحث عن الملقط والمرآة، وتحدّد السيف، حتى لا ينثلم أو يفقد النَّحْر.

أجد نفسي ممدّداً على السرير، أروح مع الضوء البرتقاليّ إلى يقظتي وأحلامها، ويتراءى لي أنني أطيش وأَخِفُّ، وأبدو كغيمة تتناسخ، وتنسرب من بين القضبان، وأصير طائراً يحمله النسيم، فأجدني على سريرها المفرود بكامل حريره، فتأتيني، وقد خلعتْ عنها غلالة الغابة الساخنة، ودلفت بكامل لبائها الموّار وملْمسها الفوّاح، فنتشابك ونتمرّغ ونتماهى، ونغيب في فضاء الإبهام، ونشهق بالشهد. وتعتريني رعدة، كأنني عضضتُ شفتي السفلى، أو انزلقتُ إلى الهاوية العالية.

أستيقط مع نداء العدد الصباحي، فتطفر ريح القفير في حلقي، وأراني قد تبلّلت.
يصحو الإخوة، فألمح البِشْر على وجوههم، ويقولون: أصبحت مبتهجاً، ووجهك متفتح كالبدر، انهضْ واغتسلْ! سنرتّب الأسّرة، ونفرش البطانية للصلاة، أسرع!
ويقول أحدهم: اقرأ في صلاتك سورة يوسف، لقد اشتقت إليها!

لقد مرّت الأعوام كأنها أيام، رغم أن كل يوم كان أطول من عام!
خمس عشرة سنة مضت، وها نحن نحتفل به، فقد تزيّن وشذّب واستحمّ جيداً، وأجلسناه على خمس بطانيات، كأنها عَرْشُ نُتوّجُهُ فوقَه عريساً أو أميراً، فنضحك ونتذاكر ونسرد النكات اللطيفة، ونتمنّى له أياماً هانئة وعُمراً مُعافى.

أشرقت الشمس، فألبسناه، وغنَّينا له، وودّعناه.

في غرفة الإدارة، رفض أن يوقّع على أوراق الإفراج عنه، وانتهاء محكوميته! فاستغرب مدير السجن، واستدعى ممثّل المُعتقل، لعله يقنع زميله بالرواح، فالأبواب مفتوحة أمامه!
جلسا على مقعد في الساحة، وأشعلا سيجارتين، وانتظر ممثل المعتقلين تفسيراً، يوضح له غرابة موقف صاحبه!

صمت صاحبه وسكت، وأطرق، وأدار وجهه ورفعه، وغيّر هيئة جلسته وعدّلها، ولم يستقرّ به القعود، وأخيراً نَطَق!

كيف سيكون حاله أمام امرأته بعد كل هذه السنوات؟ لقد أصبح عنّيناً لا ينتصب فيه رجل! حتى أنه نسي أن له وظيفة أخرى غير تصريف الماء المالح!

لكنه خرج من البوابة الكبيرة، فاستقبلوه، وحملوه إلى الدار.
في الليل، كان الشمع يسّاقط جذلاً رقراقاً كثيفاً، يضوّع بضوئه الناعم المنحنيات الظمأى.
أخافه الفشل والخمول وركود الحصان أو ذبوله.

وانكسر الحصان، بالفعل، ولم يقْوَ على الصهيل!!

أجهده العَرَق، وخارت قواه، فأخفى وجهه، وتلعثم، وتمنّى لو قضى قبل هذا الليل.
استيقظ متأخّراً! كانت امرأته وحدها في المطبخ، فاقترب منها، فثارت عروق القرنفل، واندلح ماء الزهر على الأرض، وانخفق الرخام، وفارت القهوة من الدلّة على قُرص النار.

دورة المياه والمغسلة في زاوية الغُرفة، فإذا كانت البطانية مُسدلة على الباب تغلقه، يكون الحّمام مشغولاً، وإن كانت مثنية إلى الأعلى، فإنه يرحب بالمحصورين، ليفكّوا زنقتهم، وعلى راحتهم!

أزاح أحدهم البطانية، ودلف إلى الحمام، وقد فك نصف أزرار بنطاله، فوجد شاباً يحتل دورة المياه، يداعب ذَكَره، كأنما يمارس عادته السريّة، فجُنّ جنونه، وراح يضرب الشاب، ويصرخ فيه، ويجرّسه، ويتّهمه بالشذوذ والسقوط، وأقام الدنيا ولم يقعدها!
اجتمعت اللجنة التنظيمية، واكتفت بلفت نَظَر الشاب، وطوت صفحة العادات السرية وغير السريّة. لكن الرجل الذي اكتشف الأمر ظلّ يردح ويفضح ويشنّع ويُسمَّع، كأنه كولومبوس الذي اكتشف العالَم والكنز المخبوء!

.. وصل الأمر إلى السجون الأخرى، وامتدّ إلى البلد والناس، فكان مَنْ يتلقّف الخبر يزيد عليه وينْقِص، أو يحلل ويبدّل، ويفتي ويحكم، فكان ثمة أكثر من أربعين رواية وحكاية وقصّة، ذَهَب بعضها إلى أن الشاب قد باع الضمير والبلاد، وحطّم الخيمة والأوتاد، فاسودَّ وجه أهله، فطأطأوا رؤوسهم، وانهدّ عقال جدّهم، وباتوا يتحاشون العيون.

وذَهَب بعضها إلى أنه شاذ ورعبوب يجري عليه نهر الفحولة كما أحدثه قوم لوط، فلَطَم أهل الشاب، وأصابهم الخزي والعار، ولحقهم الذلّ والشنار.

.. وظلّ الشاب منكسراً، منطوياً، مذلولاً، بعد أن كان مثل طُلق الياسمين، يبشر بفتى يحمي الديار، ويلوّح بالسيف البتّار.

وكان أن أصابت الشبان عقدة العادات، وتمنّوا لو أنهم لم يناضلوا، أو يقارعوا العدو، أو يكونوا في هذا السجن ذي الألف قيد وباب وقضيب!

آلو، كيف حالك شو أخبارك وكيف الأولاد، وكيف صحّة أمّي، تحسّنت؟

الحمدلله، كلهم بخير، وأمّك تأخذ الدواء في مواعيده، وتحسنت كثيراً، وكلنا "مشتاقين" لك.
ماذا طبختِ اليوم؟ والله زمان على أكْلاتك اللذيذة، الله كريم، إن شاالله بتعود الأيام و..
ولا يهمّك، ودير بالك على صحتك، وواظب على الرياضة، ولا تعود للتدخين.
.. وهكذا، في كل ليلة، عندما يضع رأسه على البطانية، التي طواها حتى أصبحت وسادة، ويغمض عينيه نصف إغماضة، يهمس، كأنه يحمل هاتفاً ويتحدث إليها.

2-3 الأطفال والكبار

تمتلئ المجموعة بحكايا الكبار، لكن الأطفال أيضا موجودون بقوة في المجموعة. كل الأطفال يُنكّل بهم، بعضهم يجد كبيراً يحنّ عليه وبعضهم قد لايجد ذلك، ولكنهم حتما يستمرون، ومن يرتبط بهم، في العذاب إلى أمد قد يطول حتى منتهى العمر.

لم يكن قد بلغ الرابعة عشرة عندما اعتقلوه! كان يرتعد ويبكي، وينادي أمّه!
أخذناه بين أذرعنا، وَرَبتَْنا على رأسه وكتفيه، وترفّقنا به، وقلنا له كل ما يطمئنه ويوقف دموعه البريئة!

وشيئاً فشيئاً، انخرط في حياة السجن، واشتدّ عوده، واخضرّ شاربه، وحكموه بالمؤبّد، وراح يقرأ ويكتب، ويعمل، ويشارك، ويدرك، ويعي، ويفهم، واستقر حاله، وبدا كأنه ابن أربعين، رغم أنه لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره!

تركته في السجن، وخرجت بعد أن أنهيت فترة حُكمي. وعلمت أنه تقدم لامتحان الثانوية العامة في السجن مع بعض زملائه، ونجح! والتحق بالجامعة المفتوحة، وبعد ست سنوات أصبح للفتى لحية وشهادة جامعية.

وكان أن تمّت صفقة تبادل الأسرى، فخرج من السجن، والتحق ببرنامج الماجستير، وعمل في إحدى الوزارات، واتصل بي، لأكون في الجاهة التي ستخطب له، فتمّ له ما أراد، وتزوّج.
بعد ثلاثة أعوام أو أكثر، سألني والد زوجته أن أتدخّل لدى هذا الشاب لإنقاذ حياة ابنته!
سألته وسمعتُ منه، وسألت الزوجة الشابة، وسمعت منها، وكأنني سألت نفسي وسمعتها وهي تقول لي إنه ما زال في الرابعة عشرة من عمره.

2-4 الواقعي والأيدولوجي

تعبق المجموعة كما الأدبيات الفلسطينية بمعاني الصمود من أجل الحرية وغيرها من مقولات الثورات. بيد أن هذه المجموعة تقف عند جوانب من الواقع لا تلتفت إليها الأدبيات الفلسطينية حول الأسرى. فذاك بريء يجري إعدامه بدعوى الخيانة، ولا يتجرأ رفاقه بمجرد الحديث عن براءته. وأولئك أسرى يعذبون ويقهرون ويُشهّرون برفيق لهم لمجرد أنه مارس بعضاً من ادميته المسلوبة، وأولئك أسرى يعتقدون أنهم خدعوا حين ساروا خلف قائد تاجر بهم.

بعد ليالٍ، لم أستطع النوم! فما إن أضع رأسي على المخدّة، حتى يخترق رأسيَ صوتُ نشيج مجنون، وتوسّلات بعيدة عميقة مذبوحة، وأصوات دمع مشروخ.

وتبينّت أنَّ من كان قَبْلي ينام على هذا السرير قد قتله أحدهم بدعوى الخيانة! لقد كان خائفاً ويرتعد من العذاب. وكان المعتقلون يعرفون أنه بريء!

لكنّ أحداً منهم لم يفعل شيئاً، حتى لا يُتَّهمَ بالتعاطف مع المشبوه، وتركوه يموت مظلوماً!

دورة المياه والمغسلة في زاوية الغُرفة، فإذا كانت البطانية مُسدلة على الباب تغلقه، يكون الحّمام مشغولاً، وإن كانت مثنية إلى الأعلى، فإنه يرحب بالمحصورين، ليفكّوا زنقتهم، وعلى راحتهم!

أزاح أحدهم البطانية، ودلف إلى الحمام، وقد فك نصف أزرار بنطاله، فوجد شاباً يحتل دورة المياه، يداعب ذَكَره، كأنما يمارس عادته السريّة، فجُنّ جنونه، وراح يضرب الشاب، ويصرخ فيه، ويجرّسه، ويتّهمه بالشذوذ والسقوط، وأقام الدنيا ولم يقعدها!

اجتمعت اللجنة التنظيمية، واكتفت بلفت نَظَر الشاب، وطوت صفحة العادات السرية وغير السريّة. لكن الرجل الذي اكتشف الأمر ظلّ يردح ويفضح ويشنّع ويُسمَّع، كأنه كولومبوس الذي اكتشف العالَم والكنز المخبوء!

.. وصل الأمر إلى السجون الأخرى، وامتدّ إلى البلد والناس، فكان مَنْ يتلقّف الخبر يزيد عليه وينْقِص، أو يحلل ويبدّل، ويفتي ويحكم، فكان ثمة أكثر من أربعين رواية وحكاية وقصّة، ذَهَب بعضها إلى أن الشاب قد باع الضمير والبلاد، وحطّم الخيمة والأوتاد، فاسودَّ وجه أهله، فطأطأوا رؤوسهم، وانهدّ عقال جدّهم، وباتوا يتحاشون العيون.

وذَهَب بعضها إلى أنه شاذ ورعبوب يجري عليه نهر الفحولة كما أحدثه قوم لوط، فلَطَم أهل الشاب، وأصابهم الخزي والعار، ولحقهم الذلّ والشنار.

.. وظلّ الشاب منكسراً، منطوياً، مذلولاً، بعد أن كان مثل طُلق الياسمين، يبشر بفتى يحمي الديار، ويلوّح بالسيف البتّار.

وكان أن أصابت الشبان عقدة العادات، وتمنّوا لو أنهم لم يناضلوا، أو يقارعوا العدو، أو يكونوا في هذا السجن ذي الألف قيد وباب وقضيب!

كانوا يتناولون عشاءهم قبالة الشاشة الصغيرة المعلقة على الجدار، وفجأة ألقى بالصحن الذي أمامه، بقوة، على التلفاز بحركة عصبية شديدة، فخدش صفحته، وظلت نشرة الأخبار متواصلة!
هل تريد أن تكسر التلفاز؟

ما بك؟

هل جننت؟

ما الذي حصل؟

ألم تروا هذا المسؤول الذي يجول ويتبختر ويخطب!

رأيناه، ما به؟

كيف يتحرك باعتباره شخصية مهمة جداً، وبحراسة ومرافقين، وهو الذي نظّمني، وجعلني ألتحق بالمقاومة؟

هل يستوي المنطق؟

أي منطق؟

منطق أن يكون الصانع حُرّاً والمصنوع في السجن!!

2-5 عالم السجين وعالم السجان

تعبق المجموعة بحكايات الأسرى والأسيرات الكبار والاطفال والمتزوجين والعزاب، بيد أنها تُلقي مزيداً من الضوء على السجانين. السجانون منهم الأب الحنون، ومنهم مرهف الإحساس بالطرب العربي الأصيل ومنهم من هو لص، ومنهم من هو محض حارس، ولكن يجمع هؤلاء جميعا حرصهم على قتل الجمال والشعور بالأبوة ولو اتجاه شتلة شمام نبتت وحدها على مقربة منهم.

كان المحقق مشغولاً على ابنته، ويدقّق في أسئلةٍ لعل الإجابة عنها تريحه، ويبدو أن زوجته فعلت ما يريد. كنتُ أسمع حديث المحقق، وفهمت من سياق الأسئلة والتعقيبات أن حالة ابنته مستقرّة، وأنها تجاوزت حالة الخطر.(...) لكنه انتبه أن دمعةً برقت بزجاجها من عينيّ، كأنني تذكرت طفلتي التي لم أسمع صوتها منذ ثمانية وسبعين يوماً! أحسّ المحقق بما يختلج في صدري! وقف، ورفعني من تحت إبطي، ومشى معي إلى الإكس (أصغر من الزنزانة وأكثر ضيقاً)، وفتح بابَ الحديد، وسألني، وهو يفك الكلبشة من وراء ظهري: ما اسم ابنتك؟وقبل أن أجيب، دفعني بقوة إلى داخل الإكس، وأغلق الباب بركلة من قدمه!

انتبه السجّان إلى ما كنّا نفعله لتلك الشتلة اليافعة التي بزغت وكبرت، وها هي تمرع وتكبر، وربما تطرح ثمراً بعد أسابيع، ونقطف عنها غير شمّامة عسلية المذاق!
يأتي سجين، فيمسّد النبتةَ الطالعة، ويروي آخرٌ أرضَها بقليل من الماء، ونتحلّق حولها كأنها ابنتنا، ونخبر بعضنا بأنها بلغت شبراً وأكثر، وها هي تحنَّن وتزهر، ونتخيلها غرسةً ستنبز بأوراقها، وستمتد حتى تمسي عريشة، تتدلى منها دحاميس الشمّام الشقراء.
كان السجّان يرقبنا كلما خرجنا إلى الفورة وتوجهنا إلى مسكب ابنتنا اليانعة.
تقدّم السجّان، وأمرنا بأن نبتعد عنها، وراح يحملق فيها، وفجأة! رفع بسطاره، وراح يمعسها ويفركها، كأنها أفعى تكاد تلدغه، ولم يتركها حتى لم يعد للأخضر لوناً في التراب.

لا يذكر مَنْ هو أول شخص أطلق عليه لقب "دالي"! لكنه سعيد بهذا التوصيف، الذي يحمل قدراً كبيراً من الاعتراف بقدرته على اجتراح الرسومات اللافتة واللوحات الباهرة!(...) ولم يتوفر له في المعتقل سوى أقلام الحبر الجاف أو الرصاص، فكان يرسم على القمصان الداخلية وعلى قصاصات الأوراق، ويهديها لأصدقائه، لكنه راح يرسم على جدار ساحة الفورة لوحته الكبيرة، فيقضي ساعة الفورة في الرسم، ثم يعود ويكمل، وبقي شهراً أو أكثر على حاله حتى اكتملت.

بعد ليالٍ استيقظ المعتقلون على رشقات رصاص متتالية، تبعتها قعقعة سلاح ورشّات أخرى، واستمر إطلاق النار ساعة أو يزيد.في اليوم الثاني لاحظ المعتقلون أن جدار ساحة الفورة كان محفّراً ومرشوقاً برصاص كثيف، وأصبح كالغربال، وثمة دماء أسفل الجدار!
ما هذا؟ وما الذي جرى؟

يقول السجّانون: لقد باغتتنا الخيول المرسومة على الجدار، فخرجت منه، وجمحت وصهلت، وكادت توقعنا تحت حوافرها، فرميناها بالنار!
وها هو دمها على الجدار.

يمتلئ وجهها بالدموع، فَتَهرُّ على صدرها وتغطي الأرض، ويطفئون جمر السجائر في وجهها، فتصرخ، ويحتشد وجهها ألماً وغضباً، ويعقصون رُسْغَها إلى الخلف، حتى يكاد ينكسر، فتتأوّه وتختنق، وكأن كلبشة الحديد تُطبق على قلبها، وتجوح وتصرخ، وتبكي وتبكي...
ويعيدونها إلى الزنزانة.

يهرعُ الجندي إلى ضابط التحقيق، ويخبره أن زجاجاً لبنيّاً يلمع، يغطي أرض غرفة الشَّبْح!
يُقَلّب الضابطُ الحبّاتِ الملساءَ، ويجمعها في كيس صغير. وتكاد المفاجأة تذهله وتذهب عقله، حينما أخبره تاجر المجوهرات أنها حبّات الماس مُصَفّى! وأنه ماس مصقول نقيّ، لا يضاهيه ماس في الكوكب!

في غرفة التحقيق، أحضر الضابط مَقْلعَ الأظافرِ والسجائرَ والإبرَ التي يدسّونها في العُقَلِ وتحت الجلد وكلاليبَ صغيرةً وحبالَ رفيعةً والبَكَرات، وأحضر الفتاة، وأوصلها إلى اعتقاد مفاده: كُلّما بكت، خفّ التعذيب وترفّقَ بها.

وعلى الرغم من أنها اعترفت بكل ما فعلته وما لم تفعله، فإن الضابط ذاهبٌ في تعذيبها، وسادرٌ في استحلاب دموعها.. الماسيّة.

في العلب الحجرية مُصفَّحة الأبواب.. المتراصّة الخانقة، يقبع المعتقلون فيما يُسمّى "زنازين التحقيق"!

كأنها قبور عمودية، يقف فيها الميتُ/ الحيُّ/ المعتقلُ دون طعامٍ وشرابٍ ومرحاضٍ مكلبش اليدين، ودون أن يُسمح له بالكلام أو النداء أو الصراخ أو الصلاة!

ومع كل ساعة، يسمع المعتقلون طقطقة المفاتيح الحديدية، ليخرج معها معتقلٌ من زنزانته إلى غرفة التحقيق، يخرج الميت الحي من الضريح المغلق إلى الضريح المفتوح، وهناك يبدأ العذاب والتوجّع وإطفاء السجائر على اللحم والضرب والبصاق والدم والجحيم، فتنسرب قشعريرة الرهبة أو الغضب في الأجساد المنتظِرة!

فيروح أحدهم بإطلاق ندائه: لا تخافوا ولا تعترفوا، اصمدوا، الله أكبر، فيتجاوب الصوتُ والصدى، فيردّ المعتقلون الباقون: الله أكبر، الله أكبر، ويصعد أحدهم بصوته الجهوري، ويبدأ بالغناء:
أخي جاوز الظالمون المدى.

أو: نعم سنموتُ، ولكننا سنقتلعُ الموتَ من أرضنا.

أو: أنا يا أخي، يا أخي، آمنتُ بالشعب المضيَّع والمكبّل.

فيما يصبح الغناءُ جماعياً هادراً منُسجماً، كأنه يتحدّى القيد والقضبان وأسداف العتمة واللزوجة الخانقة! فيهبُّ السجّانون بهراواتهم، يطرقون على الأبواب الحديدية، يهددّون ويتوعّدون، فتنتهي الأغنيةُ، ويعود الصمتُ الثقيل!

وفي جوف الليل، غالباً ما يبدأ أحدُ المعتقلين بتأدية أُغنية يحبّها! والغريب أن المعتقلين يستأنسون بهذه الأغنية وبصوت زميلهم، حتى لو لم يكن عذباً أو شجيّاً، فربما كانوا بحاجة إلى ذلك الصوت، الذي يحطّ برداً وسلاماً عليهم، ويشعرهم بأنهم أحياء موجودون! إنهم يجمّلون أحزانهم، ويفرِغون شحناتهم عبر ذلك الغناء.

في تلك الزنازين، كان جاري معتقلاً لا أعرف اسمه، لكنه كان يشقّ الهدوء المخيف في سكون الظلام بصوته الأخّاذ، فتصحو قلوبنا مع صوته الرخيم الحنون، ونتركه وحده يجرح غشاء الليل الشفيف، ليسيل منه العنب الأحمر أو النجوم، ليلوّن ليلنا بذلك الإيقاع الملتاع البعيد المحيط.
والعجيب أن السجّان لم يعترض، ولم يصرخ فيه ليسكت، ولم يهدد، ولم يقرع الباب ببسطاره أو عصاه الغليظة، بل كُنّا نسمع السجّان يفتح باب الزنزانة، ويطلبُ من السجين بلطفٍ ورجاء أن يُغني أغنية لناظم الغزالي: عيّرتني بالشيب وهو وقار، ليتها عيّرت بما هو عارُ.

وفي الليل التالي، يفتحُ السجّانُ البابَ على مُغنّي الزنازين، ويرجوه أن يغني لفريد الأطرش أو لعبد الوهاب أو لأم كلثوم؛ لأن المغنّي لا يحفظ شيئاً لمطربي العراق الذين يحبّهم السجان أمثال: حضيري أبو عزيز والقبّنجي وسليمة مراد وبدرية حسّونة.

ومقابل ذلك، كان السجان، من دون طلبٍِ من السجين، يفتح أبوابَ الزنازين فنخرجُ إلى المراحيض، نقضي حاجتنا، ونغسّل أيدينا ووجوهنا، ونشطف ما أمكن من أجسادنا، ثم يوزّع علينا السجائر، ويعيدنا ثانيةً إلى القبور الحجرية المصفّحة.

كان السجّان عراقياً، هاجر إلى فلسطين مع عائلته اليهودية، لكن قلبه ظلّ عربيّاً، ومزاجه كربلائيّاً، ووجدانه غزاليّاً.

كنتُ أنظر إلى وجهِهِ المتغضِّنِ الحنطي وشاربِه الكثِّ وكرشِه المتدلي، وأبتسم متعجّباً من فِعله، فينظر إليّ ببلاهة وحيادية، ويسألني بلكنته العراقية: إيش بيك؟ فأقول له: هل أتوا بك إلى هنا لتصبح سجّاناً يحمل هراوة ويعذّب الشباب؟! أما كان حريّاً بك أن تبقى على شواطئ الفرات وتحت ظلال النخيل، وتأكل العمبة والتمَّن والمسجوف؟ هل جئت لتصبح خادماً للأشكناز الذين لا يعرفون ناظم الغزالي؟

يجنّ جنونه، ويأمرنا بعصاه أن نعود إلى الزنازين، وهو يسبّ ويشتم ويكفر!

وفي إحدى الليالي أخرجني من الزنزانة، وقال لي: لا تِحْكي ولا كلمة، روح الحمّام وإنت ساكت، مفهوم؟

أجبته بإيماءة من رأسي.

وعندما انتهينا من الاغتسال والتدخين، وكنتُ أقف قبالة الزنزانة، قلت له: كان الهنود الحُمر يقولون: إنّ في داخل كل إنسان ذئبين، ذئباً للحبّ، وذئباً للكراهية.

فقال: مَنْ ينتصر منهما؟

قلتُ: الذي تطعمه أكثر!

فدفعني إلى داخل الزنزانة، وهو يتمتم بشتيمة أصابت كبد السماء!

بعد أسابيع قليلة، نقلوا زميلنا المغّني إلى زنازين بعيدة أو إلى سجن آخر! فخسرنا بهجة النغم والخروج دقائق إلى الحمّام، وعادت الهراوات على الصفيح السميك.

يا زميلي البهيج الصلب الكليم! لا أدري أين صرتَ، أو أين حطّت بك القيود، لكنّي على يقين من أنَّ السجّانين يريدونك أن تفتح صوتك وتغنّي، ليسرقوا الذهب من فمك!

بقي أن نقول، إن المتوكل طه الذي أثبت حضوره العالي في الشعر، وبرز كباحث ودارس، واجترح الكثير من الأفكار، ويعتبر عنواناً كبيراً في الثقافة الوطنية الفلسطينية، نجده اليوم قاصّاً يزاحم كُتّاب القصّة، مثلما اخترق عالم السرد، وحقق مشاركته السردّية عبر غير كتاب.

محمد الخطيب الكسواني

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى