السبت ٢٦ آذار (مارس) ٢٠١١
قضايا الدلالة في اللغة العربية بين الأصوليين واللغويين
بقلم مولاي إدريس ميموني

الحقيقة والمجاز

(الحلقة الثالثة)

أظهر علماء اللغة العربية القدماء تاريخيا، اهتمامهم الواسع والعميق بالبحث اللغوي في جميع مستوياته الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية.

وسنكتفي هنا بذكر بعض الملاحظات التي فطن إليها علماء العربية، فيما يتصل بعوامل نمو اللغة وتوسعها، مبينا مدى التفاتهم إلى هذه القضية أو تلك، خصوصا وأن إدراكهم الصحيح لطبيعة اللغة، باعتبارها أداة للفكر وصورته المادية، كان بمثابة اللبنة الأولى في بحثهم لبعض جوانب فكرة النمو اللغوي عبر الزمن.

وتندرج هذه المسألة ضمن قضية اللفظ والمعنى التي تناولها اللغويون والأدباء والنحاة والبلاغيون والمفسرون والفقهاء وعلماء الكلام بالدرس والتحليل، ولم يختص بها الدرس اللغوي وحده، بل دارت حولها مناقشات المفكرين وآراؤهم في القديم والحديث. وكان للأصوليين مع تقدمهم فيها رأي، ولعلهم أول من شغل بمشكل اللفظ والمعنى تاريخيا لارتباط ذلك بالحكم الذي يراد استنباطه وتطبيقه.

فاللفظ في تصور علماء أصول الفقه دليل الفكر، وهو خاضع للتبدل والتغير وفي ذلك يقول الغزالي:" فاعلم أن كل من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك، وكان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه. ومن قرر المعاني أولا في عقله، ثم أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى". ومفاد هذا الكلام، أن المعاني أسبق في الفكر أولا، ثم تقوم الألفاظ بعد ذلك بالتعبير عنها. وقريب من هذا الاتجاه الذي أورده الغزالي عبر عنه العالم الانجليزي (ستيفن أولمان) الذي يقول:" فالدورة يجب أن تبدأ عن طريق الفكرة أو الربط الذهني، أي عن طريق المحتوى العقلي الذي تستدعيه الكلمة، والذي يرتبط بالشيء." إلى أن قال: "وسوف نعرف اللفظ حينئذ بأنه الصيغة الخارجية للكلمة، وأما المدلول فهو الفكرة التي يستدعيها اللفظ". ولسنا في حاجة في هذا الصدد إلى أن نشير إلى أن المفهوم الدقيق لطبيعة اللغة وعناصرها، قد تم رصده من قبل اللغويين العرب في كل ما قدموه في علومهم، ومن قبل لغويين آخرين من أمثال الهنود في دراستهم للغة من الناحية الصوتية على وجه الخصوص، وغير هؤلاء كثير ممن بحثوا اللغة ووصلوا فيها إلى حقائق مرضية، ستجد مباركة وتتميما من لدن اللغويين في فترات متعاقبة إلى يومنا هذا. ولعل في اهتمام هؤلاء العلماء العرب بجوانب متصلة بالتغير والتبدل الدلالي أمر جدير بالتنويه والمتابعة، وهي من الأفكار الجديدة في حقل البحث اللغوي المعاصر، فلم يعرفها اللغويون المحدثون إلا في القرن العشرين. ويتصل بالتغير الدلالي الذي يلحق معنى الكلم، مبحث الحقيقة والمجاز، الذي سنبين من خلاله آراء كل من الأصوليين واللغويين موضحين مدى تقديرهم ومتابعتهم للتغير الدلالي وعوامله ومظاهره، وكذا لحياة اللغة ونموها واتساعها.

ومن بين المباحث التي أسهب القدماء في الحديث عنها مبحث الحقيقة والمجاز، وتكشف دراستهم له عن إدراكهم لجوانب هامة من التغير الدلالي حيث تتعرض ألفاظ اللغة على مدى الزمن، وفي ظل ظروف الاستعمال، وبفعل مؤثرات متنوعة، لأنواع من التغير الدلالي تتصل بحياة اللغة وتجارب أهلها المتعددة.
وما دمنا بصدد الحديث عن التغير الدلالي، الذي أدركه الأصوليون واللغويون ونبهوا إليه، نورد قول الآمدي فيه: "الاسم ينقسم إلى ما هو حقيقة ومجاز. أما الحقيقة فهي في اللغة مأخوذة من الحق، والحق هو الثابت اللازم وهو نقيض الباطل، ومنه يقال: حق الشيء حقه. ويقال حقيقة الشيء أي: ذاته الثابتة اللازمة، ومنه قوله تعالى:وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ أي وجبت، وكذلك قوله تعالى:حَقِيقٌ عَلَيّ أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ. أي واجب علي. وأما في اصطلاح الأصوليين، فاعلم أن الأسماء الحقيقية قد يطلقها الأصوليون على لغوية وشرعية ".

إذن فالحقيقة كما بينها الأصوليون، تنقسم إلى لغوية وشرعية، وتنقسم اللغوية إلى قسمين: وضعية وعرفية. والعرفية إلى قسمين: عرفية عامة وعرفية خاصة.

فالوضعية عندهم "هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا في اللغة، كالأسد المستعمل في الحيوان الشجاع العريض الأعالي والإنسان في الحيوان الناطق".

وأما العرفية "فهي اللفظ المستعمل فيما وضع له بعرف الاستعمال اللغوي". وهي كما ذكرنا سابقا تنقسم إلى قسمين: عرفية عامة وعرفية خاصة. فالعامة "أن يكون الاسم قد وضع لمعنى عام، ثم يخصص بعرف استعمال أهل اللغة في بعض مسمياته، كاختصاص لفظ (الدابة) بذوات الأربع عرفا، وإن كان في أصل اللغة لكل ما دب. وذلك إما لسرعة دبيبه أو كثرة مشاهدته، أو كثرة استعماله أو غير ذلك". والخاصة "أن يكون الاسم في أصل اللغة بمعنى، ثم يشتهر في عرف استعمالهم بالمجاز الخارج عن الموضوع اللغوي، بحيث إنه لا يفهم من اللفظ عند إطلاقه غيره".

أما الشرعية "فهي استعمال الاسم الشرعي فيما كان موضوعا له أولا في الشرع"، سواء كان ذلك الاسم ومسماه معروفا عند أهل اللغة، أو لم يكن معروفا. وإن شئت أن تحد الحقيقة على وجه يعم جميع هذه الاعتبارات قلت: الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا في الاصطلاح الذي به التخاطب". فهذا ما يتصل بجانب الحقيقة عندهم.

أما المجاز فهو "مأخوذ في اللغة من الجواز، وهو الانتقال من حال إلى حال. ومنه يقال جاز فلان من جهة كذا إلى جهة كذا". وهناك من الأصوليين من حده بقوله: "هو اللفظ المتواضع على استعماله في غير ما وضع له أولا في اللغة لما بينهما من التعلق، ومن لم يعتقد كونه وضعيا، أبقى الحد بحاله، وأبدل المتواضع عليه بالمستعمل".

وإن أردت التحديد على وجه يعم الجميع قلت:"هو اللفظ المتواضع على استعماله، أو المستعمل في غير ما وضع له أولا في الاصطلاح الذي به المخاطبة، لما بينهما من التعلق".

وقد شغلت مسألة البحث في الحقيقة والمجاز، جانبا هاما من جهود اللغويين الأوائل الذين اهتدوا فيه إلى نظرات ثاقبة، تدل على وعي بالتبدل اللغوي في جهة الدلالة عن طريق المجاز. يقول أحمد بن فارس في (باب سنن العرب في حقائق الكلام والمجاز) معرفا الحقيقة والمجاز بما نصه "إن الحقيقة من قولنا: حق الشيء إذا وجب. واشتقاقه من الشيء المحقق وهو المحكم، تقول ثوب محقق النسج: أي محكمه.. وهذا جنس من الكلام يُصدِّق بعضُه بعضاً من قولنا: حَقٌّ وحقيقة. ونصُّ الحِقاق. فالحقيقة: الكلام الموضوع موضِعَه الذي ليس باستعارة ولا تمثيل، ولا تقديم فيه ولا تأخير".

قال الشاعر:

تَسرْبل جِلد وجهِ أبيك إنّا كَفيناكَ المحقَّقَةَ الرِّقاقا

وأمّا المجاز عنده "فمأخوذ من جازَ، يَجُوزُ إذا استنَّ ماضياً تقول: جاز بنا فلان. وجازَ علينا فارِس، هذا هو الأصل. ثم تقول: يجوز أن تفعلَ كذا أي: يَنْفُذ ولا يُرَدُّ ولا يُمْنَع. وتقول: عندنا دراهم وَضَح وازِنَة وأخرى تَجُوزُ جَوَازَ الوازِنَة أي: إن هذه وإن لم تكن وازِنة فهي تجوز مجازَها وجوازها لِقْربِها منها. فهذا تأويل قولنا: مجاز أي: إن الكلام الحقيقيّ يَمْضي لِسَنَنَهِ لا يُعْتَرض عليه، وقد يكون غيره يجوز جوازه لقُربه منه، إلاِّ أنّ فيه من تشبيهٍ واستعارَة وكفٍّ ما ليس في الأول".

ونحن من خلال دراستنا للدلالة الحقيقية والمجازية، سوف لن نهتم بالناحية البلاغية على الشكل الذي عهدناه عند القدماء، إذ كلما ذكروا شيئا من المجاز إلا وقالوا إنه أبلغ من الحقيقة، وإنما اهتمامنا سيكون منصبا حول اعتبار الحقيقة والمجاز من مظاهر التغيرات الدلالية في اللغة، ومن ثم أصالة المنهج الدلالي في تناول العربية، وتلك سنة من سنن العرب كما قال ابن فارس في كتابه الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها.

المجاز والتأويل.

شكلت اللغة العربية منذ بداية البحث فيها – أداة أساسية من أدوات الدرس اللغوي التي ارتكزت عليها جهود كثير من علماء المسلمين، مثل المفسرين والبلاغيين والأصوليين والمحدثين وعلماء الكلام فضلا عن علماء اللغة، وما ذلك الاهتمام إلا لكونها تمثل المادة الأولى التي ينطلق منها البحث في جميع العلوم العربية الإسلامية على تعددها وتنوعها. ولذلك كثرت إشارات هؤلاء العلماء في تآليفهم إلى موضوعات اللغة المختلفة مما له علاقة بالعلم المبحوث فيه،كما اتخذت اللغة في ذاتها وعلى تعدد مستويات البحث فيها، أساسا للجدل والاحتجاج. ففي التفسير مثلا نجد ابن جرير الطبري يضع لكتابه جامع البيان مقدمة تدور في كثير منها حول مسائل لغوية منها حديثه عن (البيان عن اتفاق معاني آي القرآن، ومعاني منطق من نزل بلسانه، من وجه البيان. والدلالة على أن ذلك من الله جل وعز هو الحكمة البالغة، مع الإبانة عن فضل المعنى الذي به باين القرآن سائر الكلام)، ثم تكلم فيها عن (بيان الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب وألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم)، ثم تحدث بعد ذلك عن (اللغة التي نزل بها القرآن من لغات العرب). وهو يلفت النظر في بداية هذه المقدمة إلى معاناة رياضة العلوم العربية –كما يسميها – ومعرفة تصاريف وجوه منطق اللسن السليقية الطبيعية، مع العلم أن تفسير الطبري في أغلبه يقوم في جانب كبير منه على اللغة مستندا عليها في دفع آراء القدرية التي لا تتفق مع معتقده السني.

وقريب من هذا المسلك، منهج علماء الأصول في تعاملهم مع قضايا اللغة، فمنذ أن وضع الإمام الشافعي رسالته، نراه يعرض في مفتتحها "لعربية القرآن واتساع اللسان العربي"، معللا هذه المقدمة بما يكشف عن أهمية تلك الموضوعات بقوله: "وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره، لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها. ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها".

وتوسع الأصوليون بعد الشافعي في هذه المقدمة اللغوية، وهي في أغلبها تدور حول دلالة الألفاظ، لأهمية هذا الجانب من اللغة في علم الأصول كما أشار إلى ذلك الغزالي في (المستصفى) في فصل (طرق الاستثمار)، وكان اعتناء الأصوليين باللغة نابع من علمهم بأن العلوم الشرعية التي هي مجال بحثهم عربية، ولذلك لن يستكمل المرء خلال الاستقلال بالنظر فيها ما لم يكن ريانا من النحو واللغة، على حد تعبير الجويني في البرهان في أصول الفقه.

وقد نتج عن الاهتمام باللغة من لدن الأصوليين، أن وصلوا إلى تقديم بحوث في اللغة تعد اليوم من صميم البحث اللغوي الحديث، نحو مبحث مبدأ اللغات، والقياس، والحقيقة والمجاز، والتأويل، فضلا عما قدموه في مباحث الدلالة، وقد درسوا هذا كله في إطار ما يعرف اليوم بتحليل الخطاب، مما ما يزال حديث عهد بالدراسة في مجال اللسانيات الحديثة اليوم. وكمثال على هذا النموذج الحديث في دراسة اللغة، نجد الغزالي قد خلص وهو بصدد مناقشته لموضوع (مبدأ اللغات) إلى ما خلص إليه البحث اللغوي الحديث - من استبعاد الحديث في (نشأة اللغة)- بعد عرضه لآراء القائلين بالاصطلاح وآراء القائلين بالتوقيف، وما نتج عنهما من خلافات وسجالات بين العلماء بعدت الشقة بينهم يقول: "ولا مجال لبرهان العقل في هذا، ولم ينقل تواتر، ولا فيه سمع قاطع. فلا يبقى إلا رجم الظن في أمر لا يرتبط به تعبد عملي، ولا ترهق إلى اعتقاده حاجة. فالخوض فيه - إذا فضول لا أصل له". وكأننا بالغزالي يقول بعبارة أخرى إن مجال البحث في اللغة واضح، وأهدافه محددة، ومعرفتها اليقينية تكون إما ببرهان عقلي، أو بتواتر خبر، أو سمع قاطع. وهو ما لا مجال فيه لهذه القضية اللغوية، أضف إلى ذلك أنه أمر لا يرتبط به تعبد عملي، ولا تدفع إلى اعتقاده حاجة.

وعلى مثل هذا المنهج سار علماء الكلام في الاعتناء باللغة، لقد بدأ هؤلاء العلماء يبحثون في كثير من مسائل العقيدة والإيمان، ويختلفون فيها أشد الاختلاف، ثم تظهر آثار هذا الاختلاف في الجانب اللغوي لكل فرقة، في ضوء معتقداتها ومبادئها، وتصورها الخاص باللغة ووظيفتها، بما يختلف عن تصورات الفرق الأخرى.
فأهل السنة مثلا وهم أصحاب منحى نقلي في فهم النص الديني، نظروا إلى اللغة من زاوية تتفق وهذا المنهج. فقالوا بالتوقيف عندما ناقشوا موضوع نشأة اللغة، بل ذهب ابن فارس في كتابه (الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها)، إلى القول به عند تناوله لنشأة الكتابة والعلوم العربية مثل النحو والعروض وغيره من العلوم، وهو في هذا إنما يوجه في رأيه اللغوي بمعتقد أهل الحديث من أن الله تعالى خالق لأفعال عباده. ويفسر لنا هذا المعتقد نفسه ما ذهب إليه أهل السنة من غلبة الحقيقة في اللغة . ففكرة تقسيم المدلول إلى حقيقة ومجاز يدخل فيها عامل ديني يتصل بفكرة الخلق، وهل يصح أن يضاف الخلق إلى غير الله أم لا. ولعلنا نتذكر حديث البلاغيين العرب ومناقشاتهم الطويلة، لأمثلة دالة على وجود المجاز في اللسان العربي وإفراده بالتصنيف، كما فعل أبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة (210هـ) في كتابه مجاز القرآن، وعز الدين بن عبد السلام المتوفى سنة (660هـ) من الشافعية في كتابه (الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز)، كما أشار ابن قتيبة في وقت مبكر إلى قضية الطعن في القائلين به في القرآن الكريم، قائلا:

"وأما الطاعنون على القرآن بالمجاز فإنهم زعموا أنه كذب، لأن لجدار لا يريد، والقرية لا تسأل، وهذا من أشنع جهالاتهم، وأدلها على سوء نظرهم وقلة أفهامهم، ولو كان المجاز كذبا، وكل فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلا، كان أكثر كلامنا فاسدا، لأنا نقول: (نبت البقل) و(طالت الشجرة)، و(أينعت الثمرة)، و(رخص السعر)". وذلك ما زكاه الجرجاني بقوله: "ومن قدح في المجاز، وهم أن يصفه بغير الصدق فقد خبط خبطا عظيما، ويهدف لما لا يخفى"، وقد رفض الظاهرية القول بالمجاز في القرآن رفضا جازما، إلا أن يثبت بدليل من القرآن نفسه، لأن مُوّقّف الأسماء الذي هو الله تعالى، له أن يسمي ما شاء بما شاء، ولا يسمى هذا كذبا كما قال بعضهم، "بل هو الحق بعينه، لأن الحق هو ما فعله تعالى، والباطل ما لم يأمر به، أو لم يفعله" وقد رفض ابن حزم أن يكون النقل عند حدوثه من الله تعالى كذبا، كما ذهب إلى ذلك الجازمون برفضه فقال: "وإنما يكون كاذبا من نقل منا اسما عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر، يلبس به بلا برهان، فهذا هو الكاذب الآفك الآثم. وكذلك لو اصطلح اثنان على أن يسميا شيئا ما اسما ما- مخترع من عندهما أو منقول عن شيء آخر- يتفاهما به، لا ليلبسا به فلا كذب في ذلك، فإذا جاز هذا بيننا، فهو للذي يلزم للجميع أن يعبدوه ويطيعوه ما أمكن. وهو بذلك تعالى أولى.

" ومن هؤلاء الرافضين للمجاز نذكر أبا مسلم الأصفهاني من المعتزلة، وابن تيمية، وبعض الشافعية، وقسم من المالكية. وقد ارتكزت حجة هؤلاء في الرفض بكون المجاز أخو الكذب، والقرآن منزه عنه، ثم إن المتكلم لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا إذا ضاقت به الحقيقة، أو عجز عن التعبير بها فيستعير، وذلك محال على الله تعالى.

يقول ابن تيمية: "ولكن المشهور أن الحقيقة والمجاز من عوارض الألفاظ. وبكل حال فهذا التقسيم هو اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة، لم يتكلم به أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم، كمالك والنوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي، بل ولا تكلم به أئمة اللغة والنحو، كالخليل وسيبويه وأبي عمرو بن العلاء ونحوهم..وإنما هذا اصطلاح حادث، والغالب أنه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين". وقد اتبع الشنقيطي ابن تيمية في رفضه للمجاز في كتاب سماه (منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز) معضدا رأيه بما قاله أبو إسحاق الاسفراييني وابن تيمية وغيرهما من المنكرين لوجود المجاز في اللسان العربي، وانتهى إلى إبطال تقسيم الألفاظ إلى ثنائية الحقيقة والمجاز قائلا:"هذا التقسيم لا حقيقة له، وليس لمن فرق بينهما حد صحيح يميز به بين هذا وهذا. فعلم أن هذا التقسيم باطل، وهو تقسيم من لم يتصور ما يقول، بل يتكلم بلا علم، فهم مبتدعة في الشرع، مخالفون للعقل".

ومن هذا المنطلق المكثر في القول بالمجاز (المعتزلة مثلا)، أو المبالغ في الرفض له (أهل الظاهر وابن تيمية مثلا)، أنكر أهل السنة على هذه الفرق إسرافها في استخدامه في التأويل خدمة لمذاهبها، ووصف تأويلاتها بالبعد والإلغاز والاستكراه، ولا شك أن اعتماد هذه الفرق على التجوز والتوسع اللغوي، هو ما فتح لها أبواب التأويل على مصراعيه، مما يتنافى عند أهل السنة مع حقيقة اللغة.

بيد أن الأشعرية لم تر غضاضة في استعمال التأويل ردا على المغالين في عدم استعماله، مما يوضح المرونة التي اتسمت بها المناهج عند المسلمين وكيف اختلفت في استخدام طاقات اللغة.

أما المعتزلة التي رفعت من قدر العقل إلى مرتبة القياس والدليل في أمر العقيدة والإيمان، باعتبار العقل وحده مناط التكليف، وكانوا يهدفون بذلك إلى تنزيه العقيدة مما علق بها، ودفع الطعن عنها، فقد كان لهم تصور آخر للغة تباينت تبعا له وظيفتها لديهم عما رأيناه عند أهل السنة، فذهب علماء المعتزلة إلى أن اللغة اصطلاح وتواضع وليست وحيا وتوقيفا، وعلى هذا الأساس قالوا بخلق القرآن، ولم يذهبوا إلى أن اللغة وحي وإلهام، لأن ذلك لا ينسجم مع قدرة الإنسان، ولذلك قالوا بالاصطلاح، لكونه نابع من مبادئهم في التوحيد من ناحية، والعدل أو حرية الإرادة من ناحية أخرى. أضف إلى ذلك أن الطريق الوحيد الذي يكفل لهم تطويع النص الديني لهذه المبادئ الاعتزالية، إنما يكمن في قابلية اللغة للتوسع والتجوز استنادا لما فيها من مجاز، وهكذا قالت المعتزلة بغلبة المجاز على الحقيقة و" أنه لا كلمة في مواضعتها إلا وهي تحتمل غير ما وضعت له، فلو لم يرجع إلى أمر لا يحتمل لم يصح التفرقة بين المحكم والمتشابه".

وكان التأويل هو وسيلة المعتزلة في البحث عن سند شرعي من النصوص الدينية، يعضد آراءها ومعتقداتها، والتأويل المعتزلي تأويل عقلي لغوي "يستند إلى أدوات العقل الذي ينصر أصول الاعتزال، واللغة التي حظيت بجانب كبير من اهتمامهم، وأخضعوها لمنهجهم العقلي، والخبرة الممارسة للتأويل". وهم بهذا يخالفون التأويل الباطني عند المتصوفة والإسماعيلية.

فاللغة عن المعتزلة إذا ظاهرة اجتماعية، يصنعها الإنسان الذي يملك القدرة على صنعها، وهي قابلة للنمو والتغير تبعا لتغير المدلولات والظروف والمتعاملين بها، وفيها من طاقات التوسع ما ينبغي استغلاله للمواءمة بين النصوص الدينية والمبادئ العقلية التي تسعى أصلا إلى تنزيه العقيدة والدفاع عنها. بينما كانت اللغة عند أهل السنة هبة إلهية، وإلهاما سماويا، لا يملك الإنسان- وهو ليس له قدرة في نظرهم، مع قدرة الخالق تعالى- صنعها أو تغييرها وإدخال الجديد فيها، بل عليه أن يتقبلها ألفاظا وضعت له من جانب الملهم، غير قابلة للتوسع أو التجوز، وليس ثمة ما يدعو إلى المعاني المجازية التي لم توضع لها الألفاظ، وأهل السنة لا يريدون وراء ظاهر النصوص شيئا، ومن ثم لا تعوزهم الحيلة أو الوسيلة في فهمهم وتأويلهم للنصوص.

وفي ضوء هذا التصور للغة لدى أهل السنة والمعتزلة، وارتكازا على الأصول الاعتقادية عند كل منهما، قامت احتجاجاتهما مستندة إلى مقياس غالب في اللغة، بما فيها من تراكيب نحوية وصرفية ودلالية، واللغة المحتج بها في هذه الجدليات مأخوذة من كلام العرب، على اختلاف ضروبه، شعرا ونثرا، وعلماء اللغة عندما يطلقون هذا المصطلح (كلام العرب) إنما يعنون به اللغة المستعملة المتكَلَّمة التي حظيت بالشيوع والانتشار، ومن هنا تكون قوة الاستشهاد بها على لغة النص الديني الذي نزل مجاريا للسان العرب وسننه.

التغير الدلالي وأوجه التمييز بين الحقيقة والمجاز.

يتبين من خلال التعريفات، التي سبق تقديمها في بداية هذا البحث مدى أهمية ما ذهب إليه القدماء عند تناولهم لموضوع الحقيقة والمجاز، الذي هو موضوع من أدق وأوسع مراحل التغير الدلالي للألفاظ، وما أسفرت عنه هذه الدراسات من تقسيم كل من الحقيقة والمجاز إلى أقسام منها اللغوي، ومنها الشرعي، ومنها العرفي خاصا أو عاما.

وهكذا نفهم من هذا التقسيم لأنواع الحقيقة – كما يقول الدكتور عبد العالي الودغيري- أن ألفاظ اللغة، إما أن تكون ألفاظا عامة كبحر وأسد وصحراء وجبل، وضعت ابتداء وأساسا للدلالة على مسمياتها، وهذا ما يسمونه بالحقيقة اللغوية و"هي استعمال اللفظ فيما وضع له أولا". وإما ألفاظا وضعها الشارع كالصلاة في معناها المعروف في الشرع، وكذا الزكاة والحج والصوم والركوع والسجود، وتسمى الحقيقة الشرعية و"هي استعمال الاسم الشرعي فيما كان موضوعا له أولا في الشرع". وإما ألفاظا اصطلح عليها أهل فن أو علم، كاصطلاح أهل النحو على كلمات مثل النصب والفتح والجر، لتحقيق المعاني المتعارف عليها بينهم. وكاصطلاح أهل الحديث على كلمات مثل: العزيز والغريب والمشهور، وهي كلمات ذات دلالات في علم مصطلح الحديث تخالف استعمالها اللغوي العام. وتسمى عند أصحاب كل فن الحقيقة العرفية الخاصة. وإما ألفاظا نقل متكلمو اللغة مدلولها من شيء إلى شيء آخر، فأصبح المدلول الثاني عرفا شائعا بينهم كلفظ (الدابة) وقصره على ذوات الأربع عرفا، بعد أن كان استعماله لكل ما يدب على الأرض، وهذا النوع من الحقيقة يصطلحون عليه اسم الحقيقة العرفية العامة.

وقد نبه الأصوليون إلى أن الحقيقة العرفية، وإن كانت حقيقة بالنسبة إلى تواضع أهل العرف عليها، فإنها لا تخرج عن كونها مجازا بالنسبة إلى استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولا. وقد أشار الأصوليون بهذا الصدد إلى نوعين من التغير الدلالي الذي يعتري الألفاظ المسماة بالوضعية فتسمى بالعرفية وهما:
- تخصيص المعنى بأن يكون الاسم قد وضع لمعنى عام، ثم يخصص بعرف الاستعمال اللغوي ببعض أفراده كلفظ (الدابة).

 انتقال المعنى بأن يكون الاسم في أصل استعماله بمعنى ثم يشتهر في عرف استعمالهم بمعنى مجازي آخر خارج عن معناه الأول، بحيث لا يفهم من اللفظ عند إطلاقه غيره. كلفظ (الغائط) فهو في أصل اللغة للموضع المطمئن من الأرض، بيد أنه قد اشتهر في عرفهم بالخارج المستقذر من الإنسان، حتى إنه لا يفهم من ذلك اللفظ عند إطلاقه غيره. والتغير هنا غير مقصود. ولذلك وصفت الحقيقة اللغوية هنا بأنها عرفية عامة. أما العرفية الخاصة – وقد سبقت الإشارة إليها- فتتمثل في التغير الدلالي الذي يعتري الألفاظ حين تستعمل مصطلحا للعلوم وهو تغير غير مقصود أيضا. ولهذا كان الأصوليون على جانب من الدقة حين وضعوا لهذا النوع من المجاز الشائع من قبل المجتمع مصطلح (الحقيقة العرفية). وللنوع الآخر ( الحقيقة الشرعية) .

أما المجاز فهو في اصطلاح الأصوليين عبارة عن انتقال اللفظ إلى غير ما وضع له لوجود علاقة بين محل الحقيقة ومحل المجاز. يقول الآمدي في حد المجاز: "هو اللفظ المتواضع على استعماله أو المستعمل في غير ما وضع له أولا في الاصطلاح الذي به المخاطبة، لما بينهما من التعلق". وينقسم هو الآخر إلى لغوي وعرفي وشرعي:
 فالمجاز اللغوي كانتقال الاسم من الحقيقة اللغوية إلى المجاز اللغوي، كما في إطلاق لفظ الإنسان على الناطق عموما عن طريق التجوز.
 والمجاز العرفي كاستعمال لفظ (الدابة) لكل ما يدب على الأرض بعد استقراره عرفا بذوات الأربع، وذلك بالنظر إلى مبدأ التجوز، وهو انتقال اللفظة إلى غير موضوعها.
 أما المجاز الشرعي فهو كاستعمال لفظ (الصلاة)، الذي استقر في الشرع بدلالة خاصة تحوي أقوالا وأفعالا تؤدى بصورة معينة، ثم يستعمل هذا اللفظ بعد ذلك للدعاء.

وقد ميز العلماء بين الحقيقة والمجاز بعدة وجوه نذكر منها:
 أن يوقفنا أهل اللغة على أنه مجاز ومستعمل في غير ما وضع له، كما أوقفونا في استعمال أسد وشجاع وحمار، في القوي والبليد، وهذا من أقوى الطرق في إثبات المجاز.
 أن توجد صفة مشتركة بين ما وضع له اللفظ للدلالة عليه أصلا وبين ما نقل له. قال القاضي عبد الوهاب في كتاب الملخص:"فمن وجوه الفرق بين الحقيقة والمجاز أن يوقفنا أهل اللغة على أنه مجاز ومستعمل في غير ما وضع له، كما أوقفونا في استعمال أسد، وشجاع، وحمار، في القوي والبليد. وهذا من أقوى الطرق في ذلك ".
 أن تكون الكلمة تصرَّف بتثنية وجمع واشتقاق وتعلق بمعلوم، ثم تجدها مستعملة في موضع لا يثبت ذلك فيه، مثل لفظة (أمر) فإنها حقيقة في القول لتصرفها بالتثنية والجمع والاشتقاق، تقول (هذان أمران) و(هذه أوامر الله) و(أمر يأمر أمرا فهو آمر) فيطلق هذا الاسم على كل (آمر) إذ هو حقيقة فيه، فيشمل ذلك من كان في زمن واضع اللغة، و من يأتي بعده قياسا. ثم هي مجاز عندما تستعمل في الحال والشأن والأفعال، عارية من هذه الأحكام، كما في قوله تعالى:وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي ليس شأنه وجملة أفعاله صوابا. فالمجاز لا يشتق منه النعوت والتفريعات، ولا يقاس عليه، فلا يقال: (اسأل البساط)، و(اسأل الحصير)، و(اسأل الثوب) بمعنى صاحبه، قياسا على و(اسأل القرية)..وإن كان قد يقال: (سل الطلل والربع) لقربه من المجاز المستعمل. ثم إن الحقيقة والمجاز في كلمة (أمر) يفترقان في الجمع، فجمع (أمر) الذي هو ضد النهي (أوامر)، وجمع (أمر) الذي هو بمعنى القصد، (أمور) .

 أن تطرد الكلمة في موضع ولا تطرد في موضع آخر من غير مانع، فيستدل بذلك على كونها مجازا، وذلك لأن الحقيقة إذا وضعت لإفادة شيء وجب اطرادها، وإلا كان ذلك ناقضا للغة، فصار امتناع الاطراد مع إمكانه دالا على انتقال الحقيقة إلى المجاز، وذلك كتسمية الجد أبا، فإنه لا يطرد، وكذا تسمية ابن الابن ابنا.
 تقوية الكلام بالتأكيد من علامات الحقيقة دون المجاز، فأهل اللغة لا يقوُّون المجاز بالتأكيد، فلا يقولون (أراد الجدار إرادة) ولا (قالت الشمس قولا) (كطلعت طلوعا). وكذلك ورد في الشرع لأنه على طريق اللغة كما في قوله تعالىوَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً. فتأكيده بالصدر يفيد الحقيقة، وأنه أسمعه كلامه، وكلمه بنفسه، لا كلاما قام بغيره.
 وجود زيادة في الأسلوب كما في قوله تعالى:لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. فالكاف الزائدة حققت عدم المثلية، فهي لم تستعمل فيما وضعت له أصلا وهو التشبيه، والواضح أنها حققت عدم تكرار الصورة في غير المتصف بها. وفي ذلك يقول النسفي: "إن كلمة التشبيه كررت لتأكيد نفي التماثل، فتقديره (ليس مثله شيء) وقيل (مثل) زيادة. وتقديره (ليس كهو شيء) كقوله تعالى: فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وهذا لأن المراد هو نفي المثلية".
 وجود نقص في الأسلوب بحيث لا يترتب على هذا النقص إخلال في الفهم، كما جاء في قوله تعالى:وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ. والمقصود أهل القرية، فترتب على النقص في الأسلوب الأول مدلولا لم يتضمنه وهو أهل، وهذا النقص اعتادته العرب، فهو توسع وتجوز.
 أما ابن حزم الذي يرفض القول بالمجاز دون دليل نص أو إجماع أو طبيعة، فقد اشترط للتمييز بين الحقيقة والمجاز في القرآن دليلا من القرآن يبين نقل الله تعالى الاسم عما كان علقه عليه في موضع، إلى موضع آخر. قائلا: "وأما ما نقله الله تعالى عن موضوعه في اللغة إلى معنى تعبدنا بالعمل به دون أن يسميه بذلك الاسم فهو المجاز"
وتثبت هذه الفروق بين الحقيقة والمجاز بأمرين اثنين هما: التنصيص أو الاستدلال.
 أما التنصيص فمن وجهين:
أحدهما: أن يقول الواضع: هذا حقيقة وهذا مجاز، أو يقول ذلك أئمة اللغة مع ضرورة توفر شرط الثقة في الناقل والمنقول عنه، لأن ثبوت اللغة لا يتم دون ذلك.
الثاني: أن يقول الواضع هذا حقيقة أو هذا مجاز، فيثبت بهذا أحدهما وهو ما نُص عليه.
 أما الاستدلال فيثبت بالعلامات، ومنها تبادر الذهن إلى فهم المعنى، والعراء عن القرينة، أي إذا سمعنا أهل اللغة يعبرون عن معنى واحد بعبارتين، ويستعملون إحداها بقرينة دون الأخرى، عرف أن اللفظة حقيقة في المستعملة بدون قرينة.

ومعنى هذا، أن المجاز هو وسيلة يعاد بها توظيف اللفظ توظيفا جديدا ليدل على معنى لم يكن يؤديه في وضعه الأول، وهو ما عبر عنه عبد القاهر الجرجاني بقوله: "إذا عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة وصف بأنه مجاز، على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلي، أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أولا". وهذا كما يقول عبد العالي الودغيري: "بمثابة نوع من الاشتقاق خاص بالمعاني، كما أن الاشتقاق المعروف خاص بالأشكال التلفظية. وهي وسيلة لشحن اللفظ بطاقة جديدة من الدلالة لتوسيع مجال استخدامه في أغراض شتى، لم يكن يؤيدها من قبل. ذلك أن الألفاظ كما قيل متناهية، والمعاني غير متناهية، فلهذا تلجأ اللغة إليه اقتصادا في الألفاظ، أي استغناء بالألفاظ الموجودة عن ألفاظ يحتاج إلى وضعها".

والواضح أن الأصوليين لا يتناولون قضية الحقيقة والمجاز في اللغة من ناحية الوضع الأول للألفاظ، وإنما ينظرون إليها من ناحية الاستعمال واستقرار الدلالة مما يحدد حقيقة اللفظة أو مجازها، وفي ذلك يقول الآمدي:" الألفاظ الموضوعة أولا في ابتداء الوضع في اللغة لا توصف بكونها حقيقة ولا مجازا، وإلا كانت موضوعة قبل ذلك الوضع، وهو خلاف الفرض، وكذلك كل وضع ابتدائي حتى الأسماء المخترعة ابتداء لأرباب الحرف والصناعات لأدواتهم وآلاتهم، وإنما تصير حقيقة ومجازا باستعمالها بعد ذلك".

وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار جزء كبير من الألفاظ الشرعية والعرفية التي ذكروها كأنواع تتفرع إليها الحقيقة، هي في الواقع ألفاظ مجازية. فلفظ (الصلاة) مثلا كان في وضعه الأول يدل على الدعاء، ثم تجوز به في الإسلام ليدل على العبادة المخصوصة، وكذلك لفظ (النصب) في العرف النحوي (أي العرف الخاص). و(الدابة) في العرف اللغوي العام.

فالحقيقة يكتسبها اللفظ عن طريق الاستعمال إذا استقرت دلالته وأصبحت مرتبطة به، أما المجاز فهو اكتساب اللفظ للدلالة عن طريق الاستعمال أيضا، ولكن في غير ما وضع له يقول الآمدي: "وعلى هذا فلا يخفى حد التجوز عن الحقيقة العرفية والشرعية". وقال أيضا "والحقيقة العرفية وإن كانت حقيقة بالنظر إلى تواضع أهل العرف عليها، فلا تخرج عن كونها مجازا بالنسبة إلى استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولا ولا تناقض. وإذا عرف معنى الحقيقة والمجاز، فمهما ورد لفظ في معنى وتردد بين القسمين، فقد يعرف كونه حقيقة ومجازاً بالنقل عن أهل اللغة، وإن لم يكن نقل، فقد يعرف كونه مجازاً بصحة نفيه في نفس الأمر، ويعرف كونه حقيقة بعدم ذلك. ولهذا فإنه يصح أن يقال لمن سمي من الناس حماراً لبلادته أنه ليس بحمار، ولا يصح أن يقال إنه ليس بإنسان في نفس الأمر، لما كان حقيقة فيه.". ويقول في موضع ثالث "وبالنظر إلى ما حققناه في معنى الحقيقة والمجاز، يعلم أن تسمية اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا حقيقة، وإن كان حقيقة بالنظر إلى الأمر العرفي، غير أنه مجاز بالنظر إلى كونه منقولا من الوجوب والثبوت، الذي هو مدلول الحقيقة أولا في اللغة على ما سبق تحقيقه".

وإلى مثل هذا الكلام يشير السيوطي بقوله" قد يجتمع الوصفان في لفظ واحد، فيكون حقيقة ومجازا، إما بالنسبة إلى معنيين وهو ظاهر، وإما بالنسبة إلى معنى واحد، وذلك من وضعين، كاللفظ الموضوع في اللغة لمعنى، وفي الشرع أو العرف لمعنى آخر، فيكون استعماله في أحد المعنيين حقيقة بالنسبة إلى ذلك الوضع، مجازا بالنسبة إلى الوضع الآخر".

ويقول في موضع آخر"ومن هذا يعرف أن الحقيقة قد تصير مجازا وبالعكس. فالحقيقة متى قل استعمالها صارت مجازا عرفا. والمجاز متى كثر استعماله صار حقيقة عرفا. وأما بالنسبة إلى معنى واحد من وضع واحد فمحال، لاستحالة الجمع بين النفي والإثبات ".

3 - أحكام المجاز بين الإنكار والإثبات.

إن الاتجاه العام لدى الأصوليين واللغويين، هو إثبات وقوع المجاز في اللغة والشرع، ظهر ذلك جليا مما سقناه آنفا لكل من السيوطي والآمدي اللذين حاولا تطويق الخلاف الذي بدا بين علماء المسلمين حول هذه القضية، وبسبب من وضوح المجاز ووقوعه في اللغة، نجد كلا من إمام الحرمين والغزالي يشككان في صحة ما نسب إلى الاسفراييني من إنكاره له، وقد رد (ابن برهان) على المنسوب إليه بما يدل على إدراك حقيقة التغير الدلالي، الذي يعتري ألفاظ اللغة في مراحل حياتها، وبين أن الجهل بتاريخ هذا التغير لا يقوم دليل على إنكاره. وقد نسب إلى أبي علي الفارسي أيضا إنكاره للمجاز، وقد علق السيوطي على ذلك أنه لا يصح أيضا، فابن جني تلميذ الفارسي، وهو أعلم الناس بمذهبه، ولم يحك عنه ذلك، بل حكى عنه ما يدل على إثباته.

وإلى مثل هذا ذهب الشوكاني بقوله:" .. وما أظن مثل أبي علي الفارسي يقول ذلك (أي عدم وقوع المجاز)، فإنه إمام اللغة العربية الذي لا يخفى على مثله مثل هذا الواضح البين الظاهر الجلي، وكما أن المجاز واقع في اللغة فهو أيضا واقع في الكتاب العزيز عند الجماهير وقوعا كثيرا، بحيث لا يخفى إلا على من لا يفرق بين الحقيقة والمجاز، وقد روي عن الظاهرية نفيه في الكتاب العزيز، وما هذا بأول مسائلهم، التي جمدوا فيها جمودا يأباه الإنصاف، وينكره الفهم ويجحده العقل". ولعل أهم من تصدر من الظاهرية مقولة رفض المجاز في الكتاب والسنة ابن حزم، الذي يشترط في كل مجاز دليلا من القرآن أو السنة يبين لنا فيه نقل اللفظ من موضوعه إلى موضوع آخر فيقول:"وأما ما دمنا لا نجد دليلا على نقل الاسم عن موضوعه في اللغة، فلا يحل لمسلم أن يقول إنه منقول، لأن الله تعالى قال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فكل خطاب خاطبنا الله تعالى به، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو على موضوعه في اللغة، ومعهوده فيها، إلا بنص أو إجماع أو ضرورة حس، تشهد بأن الاسم قد نقله الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم عن موضوعه إلى معنى آخر، فإن وجد ذلك أخذناه على ما نقل إليه"، وقد ميز ابن حزم بين ما نقله تعالى من مكانه إلى مكان آخر، بين نوعين من الألفاظ:

النوع الأولى: كل كلمة نقلها تعالى عن موضوعها في اللغة إلى معنى آخر وتعبدنا بها قولا وعملا، كـ(الصلاة والزكاة والحج والصيام والربا وغير ذلك..) فليس شيء من هذا مجازا، بل هي تسمية صحيحة واسم حقيقي لازم مرتب من حيث وضعه الله تعالى.

النوع الثاني: ما نقله الله تعالى عن موضوعه في اللغة إلى معنى تعبدنا بالعمل به، دون أن يسميه بذلك الاسم، فهذا هو المجاز كقوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً فإنما تعبدنا تعالى - يقول ابن حزم - "بأن نذل للأبوين ونرحمهما، ولم يلزمنا تعالى قط أن ننطق. ولا بد فيما بيّننا بأن للذل جناحا، وهذا لا خلاف فيه وليس كذلك الصلاة والزكاة والصيام، لأنه لا خلاف في أن فرضا علينا أن ندعو إلى هذه الأعمال بهذه الأسماء بأعيانها ولا بد". ولا بد ونحن في معرض الحديث عن رأي الرافضين للمجاز أو المضيقين لوجوده إلى حد الإنكار، أن نذكر برأي ابن تيمية الذي سقناه سلفا القائل برفض المجاز بدعوى عدم وجود حديث عنه في القرون الأولى، أن هذا الرأي الذي تبناه ابن تيمية له ظاهر وباطن، أما ظاهره فمؤداه رفضه للمجاز، وأما باطنه فإننا نعتقد فيه أن رفضه للمجاز في اللغة لم يكن رفضا من أجل الرفض، بل كان يروم فيه الحد من الغلو والمبالغة المفرطة في استعمال المجاز، واستخدامه في التأويل لأغراض مذهبية ضيقة، غالبا ما كانت تتستر وراء النصوص بلي أعناقها، وتطويعها في جهات مخالفة لحقيقتها وطبيعتها، مما دفعه إلى اتخاذ موقف متصلب اتجاهها حدا للفوضى التي وقع فيها كثير من المغالين في استخدماه.

المجاز والتوسع الدلالي في اللغة.

إذا عدنا إلى ابن جني باعتباره أحد القائلين بوقوع المجاز في أكثر وأغلب ألفاظ اللغة، نجده يخلص من مناقشة قضية الحقيقة والمجاز إلى أن أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة. "وذلك عامة الأفعال، نحو: قام زيد، وقعد عمرو، وانطلق بشر، وجاء الصيف، وانهزم الشتاء. ألا ترى أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية فقولك: قام زيد معناه: كان منه القيام أي هذا الجنس من الفعل، ومعلوم أنه لم يكن منه جميع القيام، وكيف يكون ذلك وهو جنس، والجنس يطبِّق جميع الماضي وجميع الحاضر وجميع الآتي الكائنات من كل وجد منه القيام. ومعلوم أنه لا يجتمع لإنسان واحد (في وقت واحد) ولا في مائة ألف سنة مضاعَفة القيام كله الداخل تحت الوهم، هذا محال عند كل ذي لب، فإذا كان كذلك علمت أن (قام زيد) مجاز لا حقيقة".

لقد خلص ابن جني وهو بصدد دراسته لمبحث الحقيقة والمجاز إلى أمر فتح من خلاله أفقا جديدا في اللغة برهن فيه عن سبب العدول من الحقيقة إلى المجاز بقوله: "وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة، وهي الاتساع، والتوكيد، والتشبيه، فإن عدم هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتة ". ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفرس هو بحر. ففيه المعاني الثلاثة:
 أما الاتساع فلأنه زاد في أسماء الفرس التي هي: فرس وطِرف وجواد ونحوها البحر.
 أما التشبيه فلأن جريه يجري في الكثرة مجرى مائه.
 وأما التوكيد فلأنه شبه العرض بالجوهر وهو أثبت في النفوس منه.

ومنه قوله تعالى:وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا وهذا مجاز فيه الأوصاف الثلاثة:
 أما السعة فلأنه زاد في أسماء الجهات والمَحال اسما هو الرحمة.
 وأما التشبيه فلأنه شبه الرحمة بما يجوز دخوله.
 وأما التوكيد فلأنه أخبر عن العرَض بما يخبر به عن الجوهر، وهذا فيه تعال بالعرض، وتفخيم منه، إذا صير إلى حيز ما، يشاهد ويلمس ويعاين. والشاهد على ذلك قول بعضهم ترغيبا في كل جميل: (ولو رأيتم المعروف رجلا لرأيتموه حسنا جميلا) ففي الترغيب تنبيه وتعظيم، ورفع لقدر الشيء حتى تتصوره النفوس على أشرف أحواله، وأنزه صفاته، شخصا متجسما، لا عرضا متوهما، وأمثلة هذا كثيرة في اللسان العربي.

والأهم في قول ابن جني، إضافة إلى ما يضفيه المجاز على الكلام من صور بلاغية فائقة الدقة، أنه يقع بغرض الاتساع، أي في زيادة قدرة اللغة على التعبير عن الدقائق والظلال في الفكرة، إذ نجد الألفاظ المفردة، وقد اكتسبت عن طريق المجاز دلالات جديدة من كثرة الاستعمال، لم تكن مرتبطة بها من قبل، فتنسى الحقيقة ويبقى اللفظ مستعملا على مجازه. وهذا ما عبر عنه ابن جني في موضع آخر بقوله :" فإذا كان كذلك علمت أن (قام زيد) مجاز لا حقيقة، وإنما هو على وضع الكل موضع البعض للاتساع والمبالغة وتشبيه القليل بالكثير".

لقد رأى ابن جني وغيره من المكثرين في القول بالمجاز في اللغة تجاوزا للفظ بهذا التعبير حدود الصور المحسوسة، إلى غيرها من المعاني المجردة التي تتسع معها دائرة الخيال فيفارق الذهن الأشكال المحسوسة الضيقة، إلى عوالم المعاني غير المتناهية، فالقمر في العربية بهاء وضياء، واليد نعمة وقوة، والزهرة نضارة، والغصن اعتدال ورشاقة، والأسد قوة وشجاعة، والجمل صبر وتحمل... وفي هذا الأسلوب خروج لهذه الألفاظ عن المعنى الأول المعتبر حقيقة إلى معان أخرى تسمى مجازا، ليكثر تلذذ النفس بها وترتاح في فهمها والإقبال عليها. يقول ابن القيم الجوزية (تـ 751هـ) "فإن المعنى الذي استعملت العرب المجاز من أجله، ميلهم إلى الاتساع في الكلام وكثرة معاني الألفاظ ليكثر الالتذاذ بها، فإن كل معنى للنفس به لذة، ولها إلى فهمه ارتياح وصبوة، وكلما دق المعنى رق مشروبه عندها، وراق في الكلام انخراطه، ولذ للقلب ارتشافه، وعظم اغتباطه. ولهذا كان المجاز عندهم منهلا موردا عذب الارتشاف، وسبيلا مسلوكا لهم على سلوكه انعكاف، ولذلك كثر في كلامهم حتى صار أكثر استعمالا من الحقائق، وخالط بشاشة قلوبهم حتى أتوا منه بكل معنى رائق، ولفظ فائق، واشتد باعهم في إصابة أغراضه، فأتوا فيه بالخوارق، وزينوا به خطبهم وأشعارهم حتى صارت الحقائق دثارهم، وصار شعارهم".

وقد ذكر فخر الدين الرازي أن العدول عن الحقيقة إلى المجاز قد يكون لأجل اللفظ أو المعنى أو لأجلهما.
فالذي لأجل اللفظ، إما لأجل جوهره، أو لأجل أحوال عارضة للفظ، بأن تكون الحقيقة ثقيلة على اللسان، إما لثقل وزنه، أو تنافر تركيبه، أو لأجل مفردات حروفه، ويكون اللفظ المجازي عذبا، بأن يكون صالحا لأصناف البديع دون الحقيقة.

والذي لأجل المعنى، إما لعظمة في المجاز، أو حقارة في الحقيقة، أو لبيان في المجاز، أو للطف فيه: أما التعظيم فكما يقال (سلام على لمجلس العالي). وأما التحقير، فـ (كقضاء الحاجة) بدلا عن التغوط. وأما زيادة البيان، فقد تكون لتقوية حال المذكور مثل قولنا (رأيت أسدا) للشجاع، إذ لو قال (رأيت إنسانا)لم يكن مثله في البلاغة. وأما الذي يكون لتقوية الذكر فهو المجاز الذي يذكر للتأكيد.

وقد يؤتى بالمجاز لأجل التلطف وهو أن النفس كما قال الرازي لو وقفت على تمام المقصود، لم يبق لها شوق إليه أصلا، لأن تحصيل الحاصل محال، أما إذا عرف الشيء من بعض الوجوه دون الأخرى، فإن القدر المعلوم يشوقها إلى تحصيل العلم بما ليس بمعلوم، فيحصل للنفس بما علم لذة، وبما حرمت منه ألم، واللذة إذا حصلت عقب الألم كانت أقوى، وشعور النفس به أتم وذلك ما أشار إليه السيوطي بقوله:"إنه لا شوق إلى الشيء مع كمال العلم به، ولا كمال الجهل به، بل إذا علم من وجه شوق ذلك الوجه إلى الآخر، فتتعاقب الآلام واللذات، ويكون الشعور بتلك اللذات أتم. وعندها فالتعبير بالحقيقة يفيد العلم، والتعبير بلوازم الشيء الذي هو المجاز لا يفيد العلم بالتمام، فيحصل على دغدغة نفسانية، فكان المجاز آكد وألطف".

ضوابط نقل المعنى من الحقيقة إلى المجاز.

ينطلق علماء اللغة العربية في تحديدهم للمعنى المجازي من ضابط العلاقة الجامعة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي للفظ المجاز "فالمجاز مفعل من جاز الشيء يجوزه إذا تعداه، وإذا عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة، وصف بأنه مجاز على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلي، أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أولا". ولا يكتفون في هذا التحديد بهذا الضابط، بل يأتون بضابط آخر متمم له متمثل في العلاقة الجامعة بين الأصل والفرع المتحكمة في عملية النقل التي تبين إرادة المجاز لهذا اللفظ دون الحقيقة يقول عبد القاهر الجرجاني: "ثم اعلم بعد: أن في إطلاق المجاز على اللفظ المنقول عن أصله شرطا، وهو أن يقع نقله على وجه لا يعرى معه من ملاحظة الأصل، ومعنى الملاحظة أن الاسم يقع لما تقول أنه مجاز فيه بسبب بينه وبين الذي تجعله فيه".

ويتتبع الجرجاني هذا الأمر عبر نماذج لغوية يوضح فيها العلاقة المناسبة بين اللفظ ومعناه قائلا:"إن اليد تقع للنعمة وأصلها الجارحة لأجل أن الاعتبارات اللغوية تتبع أحوال المخلوقين وعاداتهم وما يقتضيه ظاهر البنية وموضوع الجبلة، ومن شأن النعمة أن تصدر عن اليد، ومنها تصل إلى المقصود بها والموهوبة هي منه...".
فالانتقال من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي لا بد من أن تراعى فيه المناسبة، وفي ذلك تأكيد لوجود صلة بين المعنى الوضعي للفظ في علاقته بمعناه المجازي الذي نقل إليه لعلاقة المناسبة بينها. وكما يجب أن تراعى العلاقة بين الحقيقة والمجاز في كل دراسة لهما، لابد أيضا في نظر الجرجاني من استحضار علاقة المناسبة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي في اشتقاق المجاز. يقول: "وأما المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها، لملاحظة بين الثاني والأول فهي مجاز، وإن شئت قلت : كل كلمة جزت بها ما وقعت له في وضع الواضع إلى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوز إليه، وبين أصلها الذي وضعت له في وضع واضعها فهي مجاز".

وقد أكد الجرجاني كلامه حول المجاز في كتابه دلائل الإعجاز جاعلا من النقل أمرا فاصلا بين اعتبار اللفظ حقيقة أو مجازا فيقول "وأما المجاز فقد عول الناس على حده على حديث النقل، وإن كل لفظ نقل عن موضوعه فهو مجاز".والحديث عن ضابط النقل لتحديد علاقة اللفظ بمعناه حقيقة أو مجازا لا يتم خارج ضابط الاستعمال، إذ هو المبين لجهات استعمال اللفظ، ومدى جواز النقل فيه أو لا، يقول ابن جني (تـ 392هـ) "الحقيقة ما أقر في الاستعمال عن أصل وضعه في اللغة، والمجاز ما كان بضد ذلك". ولقد ظل مضمون هذا التعريف متداولا من قبل اللغويين الذين جاؤوا بعد ابن جني دون أن يضيفوا إليه جديدا، يقول السكاكي(تـ626هـ) "المجاز هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها، مع قرينة مانعة عن إرادة معناه في ذلك النوع".

ويقول ابن الأثير (تـ637هـ) "المجاز ما أريد به غير المعنى الموضوع له في أصل اللغة، وهو مأخوذ من جاز هذا الموضع إلى هذا الموضع إذا تخطاه إليه". بينما جاء تعريف (شهاب الدين النويري) (تـ733هـ) معقبا وشارحا لرأي عبد القاهر الجرجاني فقال:"والمجاز من جاز الشيء يجوزه إذا تعداه، فإن عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة وصف بأنه مجاز، على أنهم قد جازوا به موضعه الأصلي، أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أولا، لأنه ليس بموضع أصلي لهذا اللفظ، ولكنه مجازه ومتعداه يقع فيه، كالواقف بمكان غيره ثم يتعداه إلى مكانه الأصلي".

لقد تأكد من جملة الآراء الواردة سلفا على لسان ابن جني والجرجاني والسكاكي وغيرهم، التأكيد على ضابط المناسبة في إثبات المعنى الجديد المقترن باللفظ في علاقته بالمعنى الأول المتصل بالوضع، وفي كل لفظ يراد استعماله خارج دائرته المعهودة الأولى، وذلك ما تؤكده لنا جميع المعاجم اللغوية، فبرجوعنا إليها نجد أن الحقيقةُ في اللغة هي: ما أُقِرّ في الاستعمال على أصل وضْعِه. وهي خلاف المجاز. أو هي ضِدُّ المجازِ الذي هو مستمد من قولهم جزت الطريق، وجاز الموضع جوازا ومجازا، أي سار فيه وسلكه، وجاوزت الموضع بمعنى جزته، والمجازة الموضع. وقد ظلت هذه العلاقة قائمة، وهذا المعنى متضمن في التعريف الاصطلاحي للمجاز، الذي ليس سوى اجتياز اللفظ لحدود استعماله الأول إلى معنى جديد في الإرادة الاستعمالية المتجددة له، التي تدل عليها قرائن الأحوال المتعددة والمتنوعة، دون إلغاء للمعنى الأول الذي يدل عليه أصل الوضع.

وقبل إنهاء هذا البحث نود الإشارة إلى أن الأصوليين واللغويين يختتمون بحوثهم في الحقيقة والمجاز بالإشارة إلى أن هناك نوعين من الكلام لا مجاز فيهما – الأعلام باعتبارها أسام وضعت للتمييز بين الذوات، وليس للتمييز بين الصفات، إلا أنه قد يتخذ من بعض الألفاظ الموضوعة للصفات أسماء للإعلام، فيكون ذلك عن طريق المجاز، كالأسود بن الأبيض "هو أحد الصحابة. وعلى هذا الوجه لا يراد باللفظ الصحة التي وضع لها أصلا، وإنما يراد به المجاز باستخدامه اسما لعلم. وهناك أيضا الأسماء التي لا يحد من عموميتها شيء، وتقتصر في الدلالة على المقصود منها فحسب، كلفظ (المعلوم والمجهول) فتلك لا يدخلها المجاز بحال من الأحوال.

وصفوة الكلام في هذا الباب نقول: إن موضوع الحقيقة والمجاز باب واسع ومتشعب، تتداخل فيه العقيدة مع الأحكام الشرعية واللغوية، مما يجعل البحث فيه محفوفا بكثير من الصعوبات، إن لم نقل الخطورة، وخصوصا عندما يكون مجال البحث هو القرآن الكريم (تأويل آيات الصفات مثلا) والحديث النبوي الشريف. ومع هذا فهو مبحث دلالي لتنشيط عملية التأويل، وفتح آفاق جديدة رحبة لمستعملي اللغة قصد استيعاب المتجدد من المعاني فيها، واحتواء جميع أصناف المتخاطبين بها، ولذلك اعتبره علماء العربية سنة من سنن اللسان العربي، وعادة من عادات المتكلمين به، فضلا عن كونه مجالا لتنمية العربية، ولاسيما بالمصطلحات العلمية، وأسماء المخترعات الحديثة. ولعل فيما أثبته الزمخشري (تـ 538هـ) في معجمه (أساس البلاغة) من ضروب المجاز يعطي صورة دقيقة لأثر المجاز في نمو العربية عن هذا الطريق، وفي عمله هذا تنبيه لجانب من جوانب النمو والتوسع اللغوي، فضلا عما يضفيه من جمال في التعبير بما يروق للنفس ويزيد من قوتها.

(الحلقة الثالثة)

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى