الاثنين ٢٨ آذار (مارس) ٢٠١١

في قلبها وليس في رحمها

مروى محمود هديب

كانت كواليس المسرح تعج بالطلبة الخريجين وهم يستعدون لحفل تخرجهم الكبير اضواء كثيرة وكاميرات هنا وهناك ضحكات هنا وضحكات هناك وكأن الكواليس اشبه بخلية النحل الكل يعمل ويجري هنا وهناك وهم في قمة حماسهم.

وحده من كان يتطلع حوله وهو يشعر بقلق بالغ فهو من سيلقي كلمة التخرج نيابة عن الطلاب بما انه قد نال الامتياز مع مرتبة الشرف في العلوم الانسانية. كانت تنتابه مشاعر غريبة كونه قد وصل الى مرحلة التخرج فهو لم يصدق بعد بانه .. قد انهى اربع سنوات دراسية وهنا يبدأ شريط الذكريات يمر في مخيلته منذ ان كان في الصف الاول الى ان وصل الى هذه اللحظة التي هو فيها الآن.. احس انه يريد ان يغادر المسرح ليذهب الى شكر والدته التي كان لها كل الفضل في ما وصل له حتى اليوم.. وفجاة خطرت له فكرة جميلة قد تفي ولو بجزء بسيط ما قدمته له والدته عبر كل تلك السنوات..

وبينما كانت الافكار تتزاحم في مخيلته سمع فجاة صوت عريف الحفل يقدمه لكي يلقي كلمة حفل التخرج بالنيابة عن الطلبة.. اعتلى خشبة المسرح وهو لا يفكر الا بما كان قد خطط له منذ لحظات حتى انه قد نسي للوهلة الاولى كل ما قد حفظه من كلمات ليلقيها في الحفل.. كان تفكيره مركزا على تلك المراة الضئيلة الحجم التي تجلس امام ناظريه كانت برغم سنواتها الخمسين لا تزال تحتفظ بجمالها ودفء نظراتها كان يحس بأن روحه ستقفز من بين جنبيه من شدة الفرح لكون تلك السيدة هي والدته.. وبعد ان استجمع قواه والقى بكلمات الترحيب بالحضور وأهالي الطلاب وبعد ان شكر اساتذته وادارة الجامعة على كل ما قدمته لهم خلال السنوات الدراسية طلب من الحضور الهدوء واستأذن من الاساتذة الجالسين ان يوجه كلمة شكر لانسانةٍ عزيزة على قلبه وهي تجلس بين هذه الجماهير الغفيرة.. كانت نظراته معلقة بنظرات والدته الرقيقة التي فهمت على الفور ما سيقدم عليه فوجهت له نظرة توسل تناشده فيها الا يفعل او يقول شيئا ولكنه ولأول مرة لم يفكر ان يعير طلبها الاهتمام فهو مصر على موقفه وسيبدأ الحديث ولم تجد والدته امامها الا ان تتهاوى في مقعدها وتستمع لحديثه..

بدأ بالكلام وهو يقول اسمحو لي ايها الحشد الكريم وانا اقف هنا ان اقدم خالص شكري الذي لا ينضب وعميق امتناني الذي لا يكفي في شيء الى تلك السيدة الجالسة بينكم اليوم اسمحو لي ان اشكر امي التي لم ارى في حياتي أحن وأطيب منها فوسط تنكر جبان من أبوين غير شرعيين لي انا منذ ان كنت طفلاً عندما قدمت الى الحياة وبدل ان يمنحوني الحب والحنان منحوني لقب (لقيط) و تركوني وحيدا لأصارع مصيراً مجهولاً، ففتحت عيناي على هذه الدنيا لكنني لم اكن بين يدي امي الحنونة أو ابي وهو يكّبر لي بل وجدت نفسي ملقىً في أكثر الاماكن وحشة وقذارة.. في حاوية القمامة!!!!!

لم يحاولوا ان يكرموني ويضعوني امام مستشفى او بيت من بيوت الخير أو حتى مؤسسة لأيواء اللقطاء بل فضلوا حاوية القمامة ليضعوني بها بلا ذنب او خطيئة ارتكبتها !!! فمولدي كان بلا فرح ولا حلوى توزع ولا نقود تدفع من والدي الى من تبشره بمولوده الجديد. ولا تهاني لا تبركات فلم تقم الولائم على شرف مجيئي الى هذه الحياة !!!!! لأنني كنت ثمرة ليلة عابرة بين رجل لم يتق الله.. وامرأة لم تصن عرضها..وتستحي على شرفها من الله.. لست هنا في صدد محاكمتهم حتى انني لم ارغب يوما في معرفة حقيقتهما او من يكونان!!!! ما اود قوله هنا هو انني لن اعرف يوما طريقة فريدة اشكر فيها تلك المرأة التي تجلس بينكم والتي احتضتني بقلبها الى ان نشات وكبرت فمع انني لست طفلها ومن صلبها الا انها هي سبب بقائي على قيد الحياة فبعد ان تم الاعلان عن عثوري في حاوية القمامة تقدمت الى مركز الشرطة بطلب رسمي لاحتضاني وتربيتي لاكون ابناً لها .. لم تحاول ان تخفي علي شيئا حول كيفية قدومي الى الحياة لانني ان لم اسمع منها سأسمع ممن هم حولي فرحلتي في هذه الحياة كلقيط الكل يعلم بها فكم كنت اعود اليها من المدرسة باكياً عندما اسمع همسات من حولي يقولون لي بانني لقيط !!! لكنني عندما كنت اشتكي لها كانت تقول لي لو انني املك القدرة على اعادة الزمن الى الوراء لكنت قد محوت من عقول الجميع تلك الحقيقة التي اعلم بانها تؤلمك ولكنك يجب ان تكون قويا ولا تهتم بما يقوله لك الاخرون انت ابني ولا يهمنى سوى ذلك فانت يا حبيبي طفلي الذي لم الده ومهجة قلبي وفرحة عمري التي تملأ علي دنياي وطفلي الذي لم انجبه يوما لا انكر بأنني لم احملك في رحمي لكنك جزء مني حتى وان لم تكن من صلبي يا فرحتي في هذه الدنيا.. لو انني املك القدرة يا حبيبي لازيل بصمات الألم الذي زرعه والداك الحقيقيان فيك لازلته ولكنني لا املك الا ان اقول لك بأن هذا يجب ان يكون دافعا لك لان تتقدم فانا معك يا بني وهذا ما يهم..

اشكرها لانها وحدها من جعلتني اتجاوز لحظات التعقيد التي كانت تمر علي حين كنت اتذكر بأنني حين خرجت الى هذه الحياة كنت ثمرة أناسٍ يطلق عليهم بالخطا كلمة أب و أم، هي من علمني ان أتعامل مع نظرات المجتمع القاسية التي تارة تجلدني دون رحمة او هوادة وتارة تتجاهلني وكانني احمل مرضا معديا كانت دائما تقول لا تحزن إن رأيت ظلم المجتمع وجحوده... فأنت سترى الكثير ممن سيعتبرونك خطيئة تمشي على قدمين وأن المجتمع سيلفظك بأسم الفضيلة فهناك الكثير ممن يعتبرون أن الدين أشبه باللوحات والشعارات التي ترفع متى شاءوا وتخفض متى شاءوا.!!!!!!!!!؟؟؟؟؟ 

هي من علمني ان لا اشعر بالحزن او الحسد عندما أرى رجلاً وامرأة يحملان طفلاً ويضحكان من فرط سعادتهما به !!! هي من دفعتني الى عدم التفكير بالوقوف أمام المرآة والتساؤل بيني وبين نفسي الآآآآف المرات عما اذا كنت اشبه ابي وامي الحقيقين ؟؟؟؟ لم تجعلني اتساءل او احتار عن ماهية الاسباب التي دفعت بذوي الى التخلي عني بتلك السهولة وتركي لمواجهة قدري وحدي كالورقة في مهب الريح??.

كانت تقول لي حاول ان تغفر لهما يوما ما ظروفهما التي دفعتهما لاتخاذ مثل هذا القرار الخطير بنبذك وانت على قيد الحياة بسبب خوف من الفقر والحاجة أو فراراً من تهمة الزنا... هي من كانت تقول لي دائما وابدا بأن الله قد ارسلني اليها والى والدي رحمه الله لاعوضهما عن عدم مقدرتهما على الانجاب وبانني سبب سعادتهما طوال اثنين وعشرين عاما...... وعندما نظر الى مكان والدته شاهد دموعها تنهمر على خديها وهي جالسة فآلمه منظر دموعها وقال لها: امي الحبيبة ارجوك لا تبكي.. فانت لا تستحقين سوى السعادة لانك أم عظيمة.... مهما قلت او فعلت لن استطيع ان اوفيك جزءا من حقك الذي احمله امانة في عنقي فانت من احتضني ومسح دموعي وبلسم جروحي فكيف اصفك ومن اين آتي بعبارات أقدر لك فيها رقتك شكرا قد تكون كلمة تافهة امام كل ما قد قدمته لي لكنني لا استطيع الا ان اقول لك شكرا لانك منحتني الحق بالبقاء والتمتع بحنانك وعطفك اللذين لا ينتهيان فلا حدود لعطفك ولا مقياس لحنانك ولا معايير لعطائك شكراً لانك منحتني الحق في التمتع بنطق كلمة ماما وبابا كل الاطفال تنشأ وتولد من ارحام امهاتها لكنني اختلف عن بقية الاطفال في أنني قد نشات وترعرت في قلبك وليس داخل رحمك قلبك الكبير كان احن علي من رحم تلك المرأة المجرمة التي لم تعرف يوما ما هي روح الأمومة فهي حملتني في بطنها عاراً ولم ترغب يوماً في معرفة شكلي او حتى فكرت في لحظة في البحث عني لكنك وحدك من علمني ان اتحدى هذا المصير وهذه الحياة التي اتيت اليها بقلب كسير.... اشكرك لأنك كنت موجودة من اجلي وسمحت لي ان اكون جزءاً منك اشكرك لانك الى الآن صامده وبقوتك تجعلينني أقوى من كل شىء.

وترك المنصة ليهرع الى احتضان أمه التي تنتظره باكيةً سعيدة بأن جهودها في تربية طفلها لم تذهب سدى ً وانه يقدر لها كل ما فعلته من اجله..

مروى محمود هديب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى