الثلاثاء ١٢ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم أوس داوود يعقوب

فلسطين تحتفي بالشاعر علي الخليلي المتجدد

لمناسبة يوم الثقافة الوطنية الفلسطينية، الذي صادف ذكرى مولد الشاعر الكبير محمود درويش (13 آذار / مارس)، أعلنت وزارة الثقافة في رام الله الأديب والشاعر علي الخليلي شخصية العام الثقافية 2011م.

وذكر بيان صادر عن الوزارة أن اختيار الخليلي جاء «لما له من دورٍ ومساهمةٍ في المشهد الثقافي والإبداعي، وكونه شاعراً متجدّداً وحداثياً من جيل الآباء الذين أسسوا للشعر الفلسطيني الحديث، ودفاعه من خلال منجزه الثقافي عن القيم الإنسانية المبنية على التعددية الفكرية والثقافية، وترسيخه القيم الديمقراطية النبيلة».

ويعد الخليلي من أبرز شعراء وأدباء فلسطين المحتلة، وقد صدر له أكثر من أربعين كتاباً بين الشعر والرواية والدراسات النقدية، وهنا أذكر قولاً للإعلامي الفلسطيني الراحل يوسف القزاز، يوم تكريم الشاعر عام 2007م، قال القزاز: «إذا كانت البرازيل تفتخر بكرة القدم، نحن هنا في فلسطين نفتخر بعلي الخليلي برازيل الثقافة الفلسطينية».

ويرى الكاتب والأديب محمود شقير، رئيس اللجنة الوطنية للاحتفالية، أن علي الخليلي أديب متميز في مختلف صنوف الكتابة الإبداعية، من شعر، ورواية، وأدب أطفال، ونقد، ودراسات فلكلورية، ومقال سياسي وغير ذلك.. ويضيف شقير: «حين يرد اسم علي الخليلي يخطر على بالي ذلك الرجل المجد المجتهد المهذب.. ذلك الرجل الذي كان له دور كبير في تبني ورعاية الكثير من المبدعين عبر مجلته «الفجر الأدبي».. لقد تبنى جيلاً من الشعراء، ولا يزال.. هو يحب مساعدة الجميع، وحين يتجه نحو النقد فإنه يكتبه بحساسية مرهفة وبطريقة مهذبة».

وكان شقير ـ الحائز هذا العام على جائزة محمود درويش، في شقها العربي ـ قد كتب عام 2007م مقالاً عن مكانة ودور الخليلي في الساحة الثقافية الفلسطينية، جاء فيه: «للأديب علي الخليلي حضور بارز في مشهدنا الثقافي الراهن تؤكده شواهد كثيرة، وهو علم من أعلام ثقافتنا المعاصرة، يوزع إبداعه ونشاطه العقلي على عدد من أجناس الكتابة وحقولها. يكتب الشعر في شكل أساسي، ثم تتعدد اهتماماته، يكتب الرواية والسيرة الذاتية والقصة المكرسة للأطفال والبحث الأدبي والدراسة الفولكلورية والمقالة النقدية الأدبية علاوة على المقالة السياسية...

وقد استمر علي الخليلي يطور قصيدته منوعاً في طرائق كتابته الشعرية ما بين قصيدة قصيرة مكثفة ذات نهاية مباغتة، وقصيدة طويلة تستلهم التراث على نحو ما، وتستلهم في الوقت نفسه مأساة شعبنا الممتدة من منظور فكري أكثر عمقاً وإحاطة، بلغة جديدة متقنة فيها بساطة اليومي ورصانة التراثي، تعبر في حالات غير قليلة عن شغف علي الخليلي بالمكان والتصاقه الحميم به، خصوصاً حينما يتعلق الشعر بنابلس، مدينة طفولته وصباه، أو بالقدس، مدينة نضجه وتبلور رؤاه».

وفي جواب للخليلي حول « متى وكيف بدأت رحلته مع الشعر »؟ أجاب شاعرنا:

«الشعر هو همس الروح والصدق مع النفس، وقد بدأت رحلتي مع الشعر مبكرة جداً حيث كتبت الشعر وعمري لم يتجاوز الرابعة عشرة ونشرت أول قصيدة لي بعنوان «لابد أن نعود» عام 1957م حيث كنا نحلم بالعودة إلى حيفا ويافا. وكانت القضية الفلسطينية هي الشغل الشاغل في قصيدتي، إضافة إلى الهموم الإنسانية العادية حيث أقف إلى جانب الإنسان في أية أرض وفي أي مكان وهو يواجه القمع والظلم، وعندي إحساس عميق بأن الشعر يستطيع أن يصل إلى الآخر بطريقة بسيطة عبر غنائية القصيدة وقدرة الشاعر على التقاط التفاصيل الصغيرة للناس العاديين ولذلك أضيف: ليست القضية الفلسطينية هي التي تشغلني وإنما كل قضايا التحرر في العالم كله، فكتبت عن فيتنام وهي تحارب في مرحلة الستينات ضد الغزو الأمريكي، وكتبت عن ثورة الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي، وعن ثورة كوبا، والثائر الإفريقي لومومبا الذي تم اغتياله في الكونغو .

وما أود التأكيد عليه هنا أنه لا يمكن أن أكون شاعراً فلسطينياً من دون الكتابة عن القضية، بل أقول إنه لا يمكن لشاعر عربي أن يحقق الصدق في شاعريته إن لم يكتب على الأقل قصائد عن فلسطين، لأن فلسطين هي جوهر الذاكرة العربية، ومادامت محتلة ومغتصبة من قبل الصهاينة ستظل تؤرقنا جيلاً بعد جيل، وأي شاعر إنساني يؤمن بحقوق الشعوب في التحرر من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب لابد أن يكتب ولو حرفاً عن فلسطين».

وشعر الخليلي من منظور الناقدة الأكاديمية الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي «يمثّل اتجاهاً تجريبياً واضحاً في الشعر الفلسطيني المعاصر ويتجلّى في قصائده التزامه العميق بمشكلات الوجود الفلسطيني تحت الحصار، كما تتجلّى فيه أيضاً تجربة القمع والحصار اليومي الذي يتعرّض له الفلسطينيون في الأرض المحتلة ». تضيف الجيوسي: « إن شعره مزج بارع للشخصي بالعام، للمشكلات الجماعية التي تندمج بنضال الفرد إذ يواجهها يومياً في الحياة الفلسطينية العسيرة».

ويذكر الدكتور راضي صدوق في كتابه «شعراء فلسطين في القرن العشرين ـ توثيق أنطولوجي» أن لغة الخليلي الشعرية « تقترب من صور الشارع الفلسطيني في الأرض المحتلة بعيداً عن الخطاب المباشر».

بين الشعر والسرد والنقد ..

ولد علي فتح الله الخليلي (أبا سري) عام 1943م في حي الياسمينة _ القصبة/ نابلس وأنهى دراسته الثانوية فيها، لينتقل عام 1962م إلى بيروت، حيث درس في جامعتها العربية وحصل على الإجازة في الإدارة العامة من كلية التجارة عام 1966م.. ليقفل عائداً إلى أرض الوطن فيدير جريدة «الفجر» المقدسية ويترأس تحرير مجلة «الفجر الأدبي».. قضى سنوات من عمره في ليبيا. عمل رئيساً لتحرير «الفجر الثقافي» ثم عمل رئيساً لتحرير جريدة «الفجر» المقدسية.

كتب ضد الاحتلال واكتوى بناره، فقد دخل السجن ، وتعرض للحبس الإنفرادي، وكان رئيس أول اتحاد للكتاب الفلسطينيين، في فلسطين. تولى موقع مدير عام المراكز الثقافية، وعمل قبل أن يتقاعد وكيلاً مساعداً لوزارة الثقافة. تتنوع كتاباته في الشعر والتاريخ والتراث والدراسة الفولكلورية والرواية والسيرة الذاتية والقصة المكرسة للأطفال والبحث الأدبي والمقالة الأدبية إضافة إلى مسيرته الصحافية الممتدة لأكثر من أربعين عاماً.

والخليلي أديب غزير الإنتاج، من أبرز مؤلفاته: في الشعر: «جدلية الوطن»، 1972م ـ «تضاريس من الذاكرة» 1977م ـ «تكوين للوردة» 1989م ـ «سبحانك سبحاني، من طينك طوفاني» 1990م ـ «هات لي عين الرضا هات لي عين السخط» 1996م «ألقرابين إخوتي» 1996م ـ «حيلة خاسرة» 2008م. وفي الإبداع السردي له: «المفاتيح تدور في الأقفال»، (رواية)، 1979م ـ «ضوء في النفق الطويل»، (رواية) مؤسسة الأسوار، عكا، 1979م ـ «عايش تلين له الصخر» (حكايات للأطفال)، 1978م ـ «الكتابة بالأصابع المقيدة» (حكايات وجدانية )، 1979م ـ «موسيقى الأرغفة»، (رواية للفتيان) 1998م ـ «بيت النار» (سيرة ذاتية) دار الشروق، عمان، 1998م.

ومن كتبه النقدية: «شروط وظواهر في أدب الأرض المحتلة» 1984م ـ «التراث والنقد» 1987م ـ «الانتفاضة والصحافة المحلية» 1989م ـ

«الصحافة الديمقراطية» 1990م ـ «الصحافة الفلسطينية تحت الاحتلال» 1991م ـ «مرايا السخرية» 1995م ـ «النص الموارب في الخطاب الثقافي السياسي» 1998م ـ «خرائط وخيول» 1998م ـ «الورثة الرواة» 2001م ـ «مختارات من الشعر الفلسطيني» 2006م. وتضم هذه المختارات ثبتاً باثنين وثلاثين شاعراً وشاعرة، ولد أولهم وهو سليم حسن أبو الإقبال اليعقوبي عام 1880م وتوفي عام 1941م، وولد آخرهم وهو وسيم الكردي، عام 1960، أي أن المختارات تغطي مساحة زمنية وسعها اثنان وعشرون عاماً زيادة على قرن كامل من الزمن. وهذه المساحة الزمنية شهدت حربين عالميتين ساخنتين وحرباً باردة، ونشوء أول نظام اشتراكي وانهيار المنظومة الاشتراكية، وصولاً إلى ولادة النظام العالمي الجديد. كذلك شهد شعراء هذه المرحلة سلسلة الثورات الفلسطينية ونشوب حروب النكبة والنكسة والعبور وانفجار أطول انتفاضة في التاريخ العربي. وبين الاثنين والثلاثين شاعراً الذين اختارهم واختار لهم المؤلف، لم تظهر إلا شاعرتان، هما، فدوى طوقان المولودة عام 1917 وسلمى الخضراء الجيوسي المولودة عام 1929 حسب التاريخ المسجل في الكتاب !!.
وللخليلي أيضاً، «قصص على مدار قرن، تداعيات التراجيديا، مكابدات السرد»، " مقالات ورؤى نقدية" 2008م.

وله في دراسة التراث والموروث الشعبي: «التراث الفلسطيني والطبقات» 1977م ـ «البطل الفلسطيني في الحكاية الشعبية» 1977م ـ «أغاني الأطفال في فلسطين» 1979م ـ «أغاني العمل والعمال في فلسطين» ـ «أين الغول: مدخل إلى الخرافة العربية» 1980م ـ «النكتة العربية» 1981م.

«شرفات الكلام» .. ضمير المقاومة

صدرت نهاية العام المنصرم عن الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين مجموعة شعرية للخليلي حملت عنوان«شرفات الكلام»، وهي تقع في (128 صفحة من القطع المتوسط)، وعلى الغلاف الخلفي كتب الشاعر الخليلي:

« شعرنا لا يطلق الرصاص. ولكنه يطلق ضمير المقاومة من خناق الأسلحة، في مواجهة أعداء مدججين بكل أنواع الأسلحة، غزاة، قراصنة، غاصبين، يكرهون الشعر. ويقتلون الشعراء، والأدباء والفنانين. هم قتلوا الشاعر الزجّال نوح إبراهيم، وهم قتلوا الكاتب الروائي غسان كنفاني وهم قتلوا الشاعر كمال ناصر، وهم قتلوا الرسام الفنان ناجي العلي، وهم قتلوا القاص ماجد أبو شرار، وهم يواصلون القتل والتدمير والسلب والنهب، في حروبهم العدوانية، من إسرائيل إلى الولايات المتحدة، وما بينهما من أتباع وعملاء وجبناء.

ونحن نواصل الحياة، نحبّ الشعر ونكتبه وننصت إليه، ونطوّق أعناق الشعراء بالبنفسج البريّ والامتنان. ونحبّ القصّة والرواية والمسرحية واللوحة التشكيلية والرقص والموسيقى والسينما، وكل أشكال الفنون والآداب، ونجعل من عيوننا وقلوبنا منازل ومنابر لكل المبدعين.
ونحن ننتصر.»

تذهب معظم قصائد المجموعة التي قاربت العشرين، نحو الذاكرة والهوامش الصغيرة للحياة، فيما يشبه استعادة لجوهر الأشياء، الأسئلة التي تنشأ من التأمل تواصل بحثها في القصائد التي يشوبها خيط من الخسارات، الشجرة والبيت والحديقة، البحر والجبل والظلال، «شاشة الكمبيوتر» والعمر والصوت.

من جهته أعلن الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين في بيان له، إن إصداره لمجموعة الخليلي يأتي انحيازاً لدور الخليلي ورياديته في المشروع الثقافي الفلسطيني، فقد لحق بالشاعر والكاتب علي الخليلي ظلم كبير، وقد أغنى المكتبة الفلسطينية والعربية بما يزيد على خمسين إصداراً ولم يحظ بالتكريم والاهتمام الواجب، وهذا الإصدار هو للتأكيد على مقولة الشاعر والكاتب علي الخليلي ودوره الناجز.

ونقرأ من أجواء «شرفات الكلام»:

عن الغياب
وصلتُ لبيتي
فما كان لي فيه نافذة أو كتاب
ولا ضوء ذاكرة
فظننتُ بأني وصلتُ إلى القبر
حتى سمعتكِ قربي
تدقين شيئاً على شكل باب
فناديتُ يا.. يا
فردّ الصدى
في الفراغ المهيمن يا.. يا
فأدركتُ أني بعيد
وأنكِ موغلة في الغياب
وصلنا إلى أين؟
قال العجوزُ لصاحبه في الطريق إلى المقبرة
هل على الأرض من حرج لبقيةِ ظلٍّ يدلّ علينا
وهل بيننا ما يفيضُ على الموتِ من قصصٍ
قالت القصصُ النخرة
كلّ ما فات مات
وما مات فات
ولا تملك الأسئلة
غير حيرتها المقفرة
وعلى مهلها
دمعةً دمعةً
ربما تسقط القبّرة
من خرائبها المهملة
فيظنّ الذي ما يزالُ على مهله في خرائبه
أنها قطرة من ندى
أنها قصة
وتظنّ الخرائبُ أنّ الغياب غبار
يمرّ ويمضي
ويبقى البياضُ على حاله
دون موت
وأنتَ كما أنتَ باقٍ
بظنك في ثوب ذاك القديم المعريّ لما
«كأنّ الظنّ علاّم الغيوب»
على غبش الأمثلة
بين صحو ونوم
كأنّ المجازَ حقيقتك المبهرة
والأمانيّ سقفٌ لروحك أو شجرة
تصطفيك من الميتين
وقد سكتَ العارفون عن المعرفة
وطوتْ دارساتُ الديار
حديقتها المزهرة
كأنك قنطرة تقتفي قنطرة
في فراغ المدار
وقد رحلوا واحداً واحداً في السنين
لك الحلمُ المستحيل
وما شئتَ من زمن الانتظار
ولكنّ شيئاً هنا تحت عينيك يلهو ويلعبُ
حيناً
وينسى ويكذبُ
حيناً
ولا هو طفلٌ فترضى
ولا هو ذئبٌ فتخشى
ولا هو إلاّك أنتَ
فماذا ربحتَ
وماذا خسرتَ
سوى قصة قلتَ ما قلتَ فيها
ومتّ
تعالَ إليكَ
لتشهدَ أني عرفتك من قبل أن يبدأ الانكسار
ومن قبل هذا الفراغ المبين
بما يشبه الخطأ المطبعيّ
لعلك تبدو كما أنتَ تبدو كلاماً
على وجع في الكلام
يهدهدُ قصتك العاصية كي تنام.
 
-نماذج من أشعاره:
تكوين للوردة
 
-1-
لأنّني أكدح مثل نملةٍ
أمتدُ مثل نخلةٍ
لأنّ قلبي في لساني
ولساني وردةٌ
أموت.
وباعةُ الجرائد القديمة
تفوحُ من أنوفها رائحةُ
الجريمة
 
-2-
أريدُ أن أعصر ثدي الغيمْ
أن اصعد بئر الداءْ
أريدُ أن اُطعم كلَّ الفقراءْ
أريدُ...
من يدفعني إلى الوراءْ
من يُمرّر خنجراً في رئتي
المفتوحة
 
-3-
يجوعُ هذا الحجر الطيَّبُ
يثورْ !
يصحو كالقطّ المضروب
على أنْفِه
يسحبُ كلََّ جبينٍ ذَلَّ
 
-4-
فإذا جاءكِ بالنبأِ الفاسق
حُراّسُ السّادةِ
قالوا باسم الحجّاجِ تموتين
وصفَّق كلُّ السفّاحينْ
تعاليَ
في بُرْدَةِ هذا الغسَق جموعُ
التّكوين
(من ديوان « تكوين للوردة »، (ص70) ـ 1974م).
لكم حبكم، ولي في المكائد حبي
أكتفي بالإشارة من عابرين بعيداً
إلى نقطة غامضةٍ،
في السفوح المهيضةِ، من جبلِ طأطأ
الرأس للساقياتِ،
وأوثِرُ صمت المسافةِ،
كي ارتقى درجات السلالم سراً،
إلى ذروةٍ كدتُ أنكرها،
حين أَنكرني كلُّ أهلي،
على بابهم، حين مزَّقني سيفُهم في المنافي،
وفي الوطن المُستقر على كبدي
مثلما شاء، أو شئتُ، أَصلي وفَصلي
فياضيعتي، لو يضيع،
وياضيعتي، لو يضيعون دوني
ولا من إشارتهم، بارقٌ
أو أكفّهمُ رافقتني إلى الصافنات
ولكنني كنتُ أحملهم فوق زادي
وقربة مائي،
ودائي بهم من دوائي، وراحةُ نفسي بهم من
شقائي
ومشرقةٌ في عروقي بهم عابساتُ الظلام،
وهادلةٌ في ثيابي بهم، نائحاتُ الفجيعة
فيهم،
فمن ذا يُقاربني في ندائي،
ومن ذا يُقرِّبني في فدائي،
لكم ما افتديتُ، ولي في المطارح فقري
وذُلَّي
أُواصل وَصْلي،
وأبعث خَيلي
إلى كل باقيةٍ في البلاد
لتملأ خابيةٌ من نجيعيَ،
وتملأ ساكتةٌ من رميمي،
وتملأ شاهدةٌ من رمادي
بشائر قمحي ونخلي
لكم ما شبعتم، ولي حُلُم الجائعين
ولي قمر الياسمين،
ولي وجع الوالداتِ،
ولي حاضناتُ الجنين
على خافقٍ من رخام السنين
فمن ذا هو الضدّ مني،
ومن ذا هو المُستجار الأمين
لكم ما عشقتم، ولي هَجْر عاشقتي،
حين تدعو، ألبّي،
واهتفُ، هيهات، هيهات أنسى،
لكم حبّكُم في الكلام المُباح،
ولي في المكائد، حبّي
حمائمُ، يا هذه، هذه في دمائي
إذنْ، أَينعتْ مثلَ أشجارها،
فوق قلبي
وأَسرجت الروحَ، في الدَّوحِ،
أو لملمتْ من بكائي
مناديلَ طالعةً كالبيارق، يا هذه، هذه
في سمائي
إذنْ، كيف غَافَلها العابرون بعيداَ
إلى نقطةٍ غامضة،
وألقوا على دمعها، حفنةٌ من غبار؟

(جزء من قصيدة، من ديوان « ألقرابين إخوتي »، (ص131-133) ـ 1996م).

جدليّة الوطن

-1-
 
دونَ الغيمةِ والوردةِ والحلُمِ الوثنيِّ هوامشُ ما بقيَ من
الوعد.
غيرَ العشّاقِِ، الآنَ، همُ العشّاق،
غيرَ القَتَلةِ فيك همُ القتَلَة.
يا وطناً يغرقُ في الرمزِ الصوفيِّ، وفي الدم.
يا مفقوداً،
علِّمنْا أن نوجدَ في عصرِ الأشياءِ المفقودةْ،
علِّمنْا أن نفتحَ أبواباً موصدةً،
نزرعَ أرضاً ماحلةً،
نكتشفُ الغيمةَ والوردةَ فيك،
نفجِّرُ كلَّ الطبقاتِ المكدودةْ.
يا وطنَ الأشياءِ المفقودةْ،
علِّمنْا أن نحبلَ بالشجرِ وبالأطفال،
لمّا تحتجبُ وتنكشفُ الشمسُ الموعودةْ
والريحُ الموعودةْ،
علِّمنْا أنّ الظاهرَ فيك هم القَتَلة
والباطنَ فيك هم المقتولون.
 
-2-
 
المجدُ لمن ماتوا، انتشروا في الناس،
اشتعلوا:
ـ .. من يحرثُ في النار؟!
ـ .. سرقوا كلّ الأسرار؟!
ـ .. الآن؟!
تكأْكأَت القردةُ حولَ النارِ المرصودةْ !
 
-3-
 
أمطرت الآفاقُ المسدودةْ،
من يوقفُ نهراً بين الإصبعِ والإصبع؟!
من يسرقُ قمراً ينبتُ في أعراسِ الفلاّحين البسطاء؟!
يا وطنَ الوالدةِ المولودةْ،
خبَّأنا جرحاً، وكشَفْنا جرحاً،
عاصَرْنا الدمَ ماءً، والماءَ دماً..
لم نسقطْ.
دونَ الغيمةِ والوردةِ والحلُمِ الوثنيِّ جسورٌ ممدودةْ
دون المشنقةِ، الزنبقةِ،
الجثثُ الخضراءُ المطويّةُ في كُتبِ القرّاءِ العاديّين،
وفي ذاكرةِ الطبقاتِ المكدودةْ..
شائكةٌ قمم الموت، ونبراتُ الصوت المشدودة،
رائعةٌ قممُ الموتِ، فمن يملكُ موتَه
مشطورٌ بالسُبُلِ المغلقةِ المحدودةْ..؟!
 
-4-
 
مرُّوا في غسقِ الثورةِ، والأشياءِ المفقودةْ،
من يملكُ صدقَ الموت؟
تشطَّرت الألواحُ المعهودةْ:
الموتُ بلا موتٍ،
والصوتُ بلا صوتٍ،
والوطنُ بلا وطنٍ،
... وحْدَهم الفقراءُ، الحرّاثون، المنبوذون،
الصفوةُ في غسَقِ الثورةِ، باقونَ
على الجرحِ، وصدقِ الموت، ومعنى الأنشودةْ.

(موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر، الجزء الأول: الشعر، ص209- 210).

البَحرُ
إلى شاطئ ٍ مُهمل ٍ من بقايا الوَفا
حملَ البحرُ حيرتـَه واستراح
وقيلَ غفا
وقيلَ اختفى
في بيوتِ الظلال ِالبعيدةِ خلفَ الرياح
وقيلَ كلامٌ كثيرٌ
ولكنه لم يعدْ كي يقول
ونحنُ غفونا
وقيلَ اختفينا
وقيلَ اختلفنا
فصولا ً وراءَ الفصول
على دافئات الأماني
لعلّ النوارسَ من أهله الأقدمينَ تعودُ
وتمسحُ عنه وعنا النعاسَ
لعلّ الحروبَ التي مزقتنا
تغيبُ قليلا
لنعرفَ أنّ الطريقَ إلى البحر ِ باقية
ولعلّ اليباسَ
غشاءٌ يزول
*
هنا ما نحبّ
هنا ما نريدُ
هنا ما تكدّ وتشقى الأماني
تباعا إلى كلّ وعدٍ
حملناه عبئاً ثقيلا
وحلماً جميلا
لنبنيَ فوقَ بيوتِ الظلال
بيوتَ الوصول
إلى البحر
*
هل نامت الأعينُ النُجلُ يوماً عن الوجع المستبدّ
سألنا بقايا الوَفا
فبكتْ ألفُ عينٍ
ولم نفهم الدمعَ
حتى اصطحبناه جيلاً فجيلا
لماذا يصيرُ البكاءُ خيوط َ وشاح
على البحر
زُرقته آية من قبائل ِ قتلاه حيناً
وحيناً من الصمتِ
لما نراه بعيدا
ولما نراه يحاولُ أنْ يستريحَ
ولما نراه يفتشُ عنا
على رهقٍ
في بيوتِ الظلال
*
كأنكِ يا نفسُ لم تقرعي البابَ قبلَ الدخول
إلى المقبرة
كأنكِ لم تعرفي لغة َ العابرين من المهدِ للـّحدِ فينا
خِفافاً
كأنك قنطرة ٌفي جوانحنا المتعبة
لا تمدّ يدَ القنطرة
إلى أحدٍ
*
وهل البحرُ ماتَ
لنكتبَ مرثيةِ الموتِ
كلاّ
ولكننا ميتون
بلا أيّ نقش يدلّ
سوى سيرة مقفرة
تركتها الظلال
على شاطئ مُهملٍ
*
أيها البحرُ، يا بحرُ يا بحرُ
خُذنا إليك
حفاة ً عراة ً وأشتاتَ ناس
غرسنا وأينَ الغراس
وعشنا فأينَ الحياة
ومتنا فأينَ الممات
فهل نحنُ بينَ الخلائق ِ حالُ التباس
*
تمائمنا لم تزلْ في جدائل ِموجِكَ
سابحة ً
مثلما يسبحُ الدمُ في الجرح ِ
والجرحُ في الدم ِ
تدنو وتنأى
وتنأى وتدنو
ووحدكَ دانٍ
فلا تطو ِ يا بحرُ يا بحرُ وجهكَ عنا
وتنسى .
( من موقع جهة الشعر www.jehat.com)

أهم المصادر والمراجع:

أحمد عمر شاهين، موسوعة كتاب فلسطين في القرن العشرين، دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية، 1992م.

راضي صدوق، شعراء فلسطين في القرن العشرين ـ «توثيق أنطولوجي»، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2000م.

سلمى الخضراء الجيوسي، موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر، الجزء الأول: الشعر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1997م.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى