الثلاثاء ١٢ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم أحمد بابانا العلوي

صراع العقائد وأزمة الحضارة المعاصرة

المفكر الدكتور المهدي بن عبود (1919- 1999) رحمه الله يعتبر علما من أعلام الفكر الإسلامي الحديث، جمع الحكمة من أطرافها: حكمة الشريعة العرفانية، وحكمة المعرفة العقلية، وحكمة الطب، يعالج شتات الإنسان، من جسم، ونفس، وروح، ويوجهها لسلامة المبنى، والمعنى، (فالأديان لا تقوم إلا بسلامة العقول والأبدان).

كان يملك رؤية مؤصلة، حول صراع العقائد، وأزمة الحضارة المعاصرة، نجدها في سائر كتاباته التي دبجها منذ الستينيات، من القرن الماضي..

وهذه الرؤية الفكرية العميقة تربط في بوتقة واحدة، بين المعرفة العرفانية، والمعرفة العقلية أو بين الباطن ، والظاهر، وبين العقل والقلب وذلك من منظور العلمية، والمنهجية الصالحة.

تخرج الدكتور المهدي بن عبود من كلية الطب بفرنسا سنة 1950، وعاد إلى المغرب وفتح عيادته بمدينة الدار البيضاء. سافر إلى الولايات المتحدة سنة 1951 للمساهمة في فتح مكتب للدفاع عن القضية المغربية...، وفي سنة 1955 سيعزز صفوف المقاومة المغربية، ويصبح أحد أطرها الفاعلة.

بعد الاستقلال مباشرة عينه الملك محمد الخامس –رحمه الله- سفيرا بالولايات المتحدة الأمريكية، وفي سنة 1962 ستتم إقالته من السلك الدبلوماسي وسيعود إلى مزاولة مهنته بمدينة سلا، القريبة من العاصمة الرباط. ومدينة سلا مدينة مغربية عريقة، يفصلها عن الرباط نهر أبي رقراق، وهي موطن أسرة المفكر الدكتور المهدي بن عبود.

سنة 1966 عين أستاذا بقسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس، وأسندت إليه تدريس مادة علم النفس المرضي، ومادة سيكولوجية المشكلة الاجتماعية ومادة المذاهب الفكرية المعاصرة ومادة العقيدة الإسلامية.(1)

يعتبر المهدي بن عبود، هرما ثقافيا، ودائرة معارق بحق: (طبيب وفيلسوف، وفقيه، وأديب، وشاعر، وصوفي، ودبلوماسي، وداعية إسلامي) اهتم بالحضارة الغربية المعاصرة وكشف آلياتها، ومقوماتها وخصائصها، وأغراضها المتهافتة، من موقع العارف المطلع...

هذه الشخصية العظيمة لا يمكن اختزالها بأي حال من الأحوال ، فالرجل حباه الله بمعرفة عميقة وعلم واسع بثه في الصدور ودونه في الصحف، ليكون قبسا ينير الطريق للنفوس الحائرة، والعقول الشاردة.

كان المهدي ثاقب الذكاء، خفيف الروح، مشرق الوجه، متبتل، قوام، صوام، حليم، صبور...(2).
نشأ في بيت صلاح وورع وعلم، يقول بهذا الصدد " تربيت في بيئة مسلمة، من أب زاهد ورع. كان يمشي في الأسواق، يعلم الناس مناسك الصلاة والزكاة والصيام..، ومع أن معلوماته لم تكن تتعدى حفظ القرآن الكريم، لكنه كان يغوص في معانيه..، قليل المطالعة، كثير الاستبصار والنفوذ إلى أعماق النفس. كان يقول لأصحابه، أتدرون لماذا صوت الكمان رخيم؟ لأنه خال من هموم الدنيا.

ومن مؤلفات والده المخطوطة: الرسالة القرآنية يقول في تفسير قوله تعالى: [وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون] فالإنصات وسيلة لفهم المعاني، والفهم وسيلة للتصديق والتصديق وسيلة للخشية، والخشية ثمرة العلم، والعلم هو الفهم وعدمه الجهل. والتصديق هو الإيمان، والتكذيب هو الفكر، فمن لا فهم له، لا علم له ومن لا علم له، لا تصديق له، ومن لا تصديق له، لا إيمان له، وأي رحمة أعظم، من رحمة القلوب، بالعلم والإيمان والخشية. قال تعالى [إنما يخشى الله من عباده العلماء] (3).

لقد أثرت شمائل الأب الصالح في شخصية المهدي، وطبعت سلوكه وفكره فنهلت روحه، من مناهل العرفان، فاتسم فكره بالعمق والاعتدال والوضوح الذي لا التباس معه، والإخلاص الذي لا رياء فيه..(4) ، وقد انعكس ذلك كله على سلوكه، وأخلاقه.

في بيئته التي خيم عليها التصوف والزهد والعبادة، ارتوت روحه من نبع العارفين، وتيقن بأن العزوف عن فهم السالكين، إنما يرجع على الكسل الفكري أو إلى في الحكم الناتج عن قصر النظر، والجهل بحقيقة الكائن البشري(5)

كان صاحب ثقافة موسوعية، ورؤية شمولية وتصور عميق الجذور، بعيد النظر في استشراف المستقبل.

يقول عنه الدكتور المهدي المنجرة: "إن الدكتور المهدي بن عبود، يعد اليوم مؤسسة بالنسبة لأولئك الذين ما فتئوا يولون أهمية للضمير المحرك للحياة، والإيمان بالله..، ومن هنا تنبع روح هذا العالم الطبيب النضالية، وينبع التزامه الصامد، للدفاع عن كرامة الإنسان.
والرجل ذو فكر حر، لا ينفصل فيه بحيث المعرفة عن الشروط الأخلاقية، والطموحات الروحية، والطرق الهادفة إلى تحسين وضعية البشر."(6)

كان شغوفا بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، متمكن من اللغتين الإنجليزية والفرنسية، مما أتاح له توسيع دائرة اضطلاعه ومعرفته العلمية وقد إمتاز بظاهرة قلما تتوفر لدى غيره، وهي معرفته الدقيقة بالكتب السماوية، إضافة إلى اضطلاعه الواسع على تفاسير القرآن الكريم.(7)
ومن التعريفات المعتمدة للمثقف أو المفكر، التعريف الذي أورده عالم الاجتماع إدوارد شيلز ويقول فيه: "يوجد في كل مجتمع بعض الأشخاص الذين يتمتعون بحساسية فذة للقداسة، وبقدرة خاصة على تأمل طبيعة الكون، الذي يعيشون فيه، والقواعد التي تحكم مجتمعهم، وتوجد في كل مجتمع أقلية من الأشخاص الذين يتمتعون بمقدرة، تفوق طاقة سواهم من البشر العاديين على التساؤل، والبحث ، وتحفزهم الرغبة في التواصل المتكرر مع الرموز، الأعم والأشمل، من المواقف العلمية في الحياة اليومية، وهي الرموز ذات الدلالات الأبعد والأوسع زمنا ومكانا" (8)

كان المهدي صوتا، لا مراء في صدقه ونزاهته، يقف في وجه الإستيلاب الثقافي، ويعتبر المعرفة مقدسة لأنها وسيلة لمعرفة الحق، ولتكوين نظرة عامة على الوجود علما و عملا، تربط الذات بالموضوع (أي النفس بالكون)، فلا بد للإنسان من هذه النظرة الصائبة، حتى لا يعيش في الخيال والوهم، وخداع العناوين، ولا يصير ضحية الفراغ المعنوي المؤلم بعبثه و قلقه وظلمه، ودورانه المضطرب في مجال الإيديولوجيات(9) نظرة كونية على عالم الشاهدة وعالم الغيب، والغاية من هذه النظرة هي طلب المعنى.، فلا مناص للإنسان من تعلق قلبه بمثل أعلى تلبية لطبيعته الفطرية المجبولة على ربط العقل والقلب بهدف سامي.
ويرى المهدي بأن القلب الإنساني، ينفر من فراغ، فلا بد له من عقيدة تملأه، وتسير به وتجعله يقلب الجبال.

فالحضارة أسلوب حياة وعيش، والثقافة أسلوب تفكير فالثقافة بالنسبة للحضارة كالروح بالنسبة للجسد، والحضارة بالنسبة للثقافة كالمظاهر بالنسبة للجوهر.
فالحضارة الشاملة الجامعة هي التي تتوفر فيها شروط الإيجاب وبناء ما يحتاجه الإنسان في هذا الوجود (من ناحية الروح وناحية النفس ومن ناحية الجسم) إن جوهر الحضارات هو قيام الحياة الإنسانية على الحق.

أما إذا تشابه الجوهر مع اختلاف في المظهر فمعنى ذلك أن ألإنسانية تعيش في فراغ..، وهذا مؤشر على الإنهيار. رغم القوة ورغم الجاه و رغم المال.."(10)

إن المعارف العرفانية قوام الإيمان الذي بدونه تصبح الحياة عبثا. والمسألة رقم واحد كما يرى الكاتب الفرنسي رومان رولان، أن أزمة الغرب تتجسد في فقدان إيديولوجية ثابتة.
ويعلق الدكتور المهدي على هذه المقولة، بأن العالم اليوم في حاجة إلى إيدولوجية رغم كون لفظة عقيدة أعمق وأثبت من هذه اللفظة التي ظهرت في القرن التاسع عشر، الجاف من المعارف العرفانية.. وبالتالي من المستحيل عقلا ونقلا أن يخرج العالم من أزمته، ما لم يرجع إلى الطبيعة البشرية ومتطلباتها..(11)

وفقا لمطابقة العقل، مع الواقع النفساني والروحي بحيث تشمل كل ما يتسع له الذهن الإنساني من وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها، وخصائصها.
فالعقل الإيماني، هو العقل الذي يعصم الضمير، ويدرك الحقائق ويميز بين الأمور، ويوازن بين الأضداد، ويتبصر ويتدبر..(12)

ومن تم فإن الفكر لا يكون صحيحا إلا إذا قام على معرفة صحيحة قادرة على الموازنة والتحكم على الأشياء والمعاني. ضمن هذا المنظور تندرج أطروحة المهدي بن عبود، حول صراع العقائد، وعقيدة المستقبل.

لا شك بأن النظر إلى حقائق الوجود، تبرز أن هناك حركة دائبة، وصراع مستمر بين ضدين متعارضين، والمتسائل أمام تضارب الأقوال، والأفعال، في هذا العصر الذي نعيش فيه، يجد خللا في التفكير يعتبر هو السبب في هذا التناقض والتضارب (13)

الصراع هو مجابهة بين الحق والباطل، والخير والشر، والجمال والقبح، والصواب والخطأ، في عالم يسير على نظام رباني محكم، وسنن ثابتة لم تجد لها تبديلا، والسبب يعود إلى الإنحراف عن الحق مع طغيان الأهواء.

إثر الحرب العالمية الأولى تزعزعت ثقة الغرب بنفسه، وخيم على النفوس غمام التشاؤم بل اليأس، عند أناس كانوا يتبجحون بالتقدم والتفوق والرقي حتى ظنوا أنهم قادرون على تدبير الأرض على شاكلة خالقها..، تهوروا في الجحود والنكران للنعمة [نسوا الله فأنساهم أنفسهم] ففقدوا نعمة الطمأنينة والسكينة وأصبح العالم مجرد عبث وهباء لا معنى له كما تقول الوجودية..

ويقول المفكر البلجيكي ليوبولد فلام صاحب كتاب "الإنسان والضمير المأساوي" "l’homme et la Conscience Tragique " بأن الإنسان المعاصر لا يفكر أو أنه لم يفكر بعد ولكنه بعلم أكثر، والنتيجة تقدم الآلات وتأخر النفوس.

إن إمعان النظر في هذه الصراعات المزمنة يبين أن ورائها فكرة أو مذهب أو عقيدة.. تلازمها من بدايتها إلى نهايتها، في تطورها، وصيرورتها.

عندما تفسد الثقافة، فإن الناس ينظرون بنظر أعور، ولا يرون إلا المادة نتيجة فقدان نور البصيرة التي أصبحت مطموسة.(14)

إن تاريخ البشرية عرف إزدواجية في فكرة العقيدة، فقط الحضارة المعاصرة وحدها تتسم بالنظرة المادية إلى الوجود، مع ظهور وثنيات جديدة (كالحرية والإباحية، وعبادة الرؤساء، والديمقراطية المزيفة، والتقدم وخداع العناوين كالعقلانية)

نتيجة طغيان المادية الصرفة على جميع مناحي الحياة أصبح الإنسان عبدا للمال، ويزداد عبودية كل يوم، تستعبده البضائع الاستهلاكية.

وسيطرة البضائع الاستهلاكية تندرج ضمن مخطط السيطرة والتحكم العام والحقيقة أن الإنسان لم يتقدم، وإنما تآخر وهو في كل يوم يتآخر، الأدوات في يديه هي التي تقدمت وتحول هو من صانعها إلى خادمها ثم إلى عبدها. (15)

إن التقدم لا يعني نمو الأدوات، وإنما نمو الإنسان وسموه الأخلاقي ورقيه الروحي والجمالي وذلك بتطهير العقول والقلوب من كل ما من شأنه أن ينحدر بالكرامة الإنسانية.

أما فيما يتعلق بصراع المذاهب، فإن المفكر الألماني "هرمان كنزرلين" في كتابه العالم الناشئ، الصادر سنة 1929، يرى بأن المستقبل يتجه نحو مذاهب عالمية.

فهناك مجموعة العالم الإنجلو سكسيوني، ومجموعة العالم الإسلامي الشامل ولو أنه غير واضح المعالم، لأنه كثير الانقسام من الوجهة السياسية ورغم كونه ضعيفا، في ظاهره، فإنه يكون مركزا ذا حركة وحيوية عظيمة.

المجموعة الثالثة والأكثر أهمية هي المجموعة الأسيوية، وسوف يكون لها شأن بعد تحرير آسيا وإعادة بنائها تماما.

المجموعة الرابعة هي المجموعة الأوروبية، ويرى كنزرلين أنه من الصعب تصور كيف يمكن أن تتحد قارة كثيرة التنوع والتباين...( 16)

يعلق المهدي على ما كتبه المفكر الألماني بأن كل ما كان وسيكون يرجع دائما إلى صراع بين مجموعة من أفكار ومعاني على الأرجح...

إن تاريخ الإنسان ما هو إلا صراع بين الحق والباطل.

أما الوحدات المذهبية فهي المعسكر الإسلامي والمعسكر الليبرالي والمعسكر الشيوعي.. وهناك معسكر خطير غاب عن أغلبية المفكرين الغربيين وهو المعسكر الصهيوني العالمي.. له نفوذ واسع في جميع المجالات (في الفكر، والتعليم والعلوم والشرائع والحياة المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإعلامية والفنية والمسرحية والسنمائية.)(17)
ويضيف بأن الإنسانية تدور حول أفلاك ثلاثة:

فلك العلم الرباني

فلك الضلال والخطأ والتباس والتخليط بين التنزيه والتجسيم.

فلك البعد عن الحق، بغيا وعمدا واستكبارا وكفرا ( الكفار أي الساترين للحق)

إن البنية العقائدية هي بمثابة كائن حي له روح و جسد أو جوهر ومظهر.

ثم إن العقيدة لها أسس ثلاثة: مبادئها التي تبنى عليها صرح هندستها وتعاليمها وأنواعها.
الأساس الأول النظرة التنزيهية المطلقة الجامعة (الذين تعلقت همتهم بنور السماوات والأرض فكانت عزتهم به وكانوا يعاملون المخلوقات بالاحترام والحكمة والرفق الكريم) (18)
الأساس الثاني التجسيم القائم على الحلول والتشبيه والشرك وتندرج في سلكة جميع الوثنيات.

الأساس الثالث، الفكرة الأرضية للدين والدولة والحياة، والاقتصار على التصور المادي للوجود.
بعد انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية، حلت محلها الصراعات المذهبية العالمية... إلا أن الحيرة المسيطرة على النفوس، جعل الناس يتطلعون إلى مذهب شامل جامع مانع يهدئ روع الضمير ويضمن الطمأنينة.

إن فشل الحضارة المعاصرة هو الذي جعل القلق يخيم على النفوس وجعل الناس يتطلعون إلى الحقيقة العليا النظرية والعلمية للجمع بين السماء والأرض والدين والدولة. وكذلك بتوضيح العلاقة بين الإنسان والكون، والفرد والجماعة. وتحديد المسؤولية، وترابط الشعوب والأمم في الزمان والمكان ضمن دائرة الحقيقة المطلقة الشاملة لعالم الشهادة وعالم الغيب.

وهذا يتطلب الإنخراط في سلك الرسالة التي تلقى أمانتها على الإنسان... ثم لا بد من الأخذ بالجديد الصالح مع الثبات على المبدأ الحقيقي الذي لا يبلى... فالجديد بمعنى المعارف الصناعية وما يرتبط بها من علوم... والقديم بمعنى العلم الرباني المطلق، والسلوك على أساس الفطرة الطاهرة والحكمة وهي جعل الشيء في وضعه بمقتضى سنن الكون المادي والمعنوي النفساني والروحاني والعقلي.

التحلي بالعقل العلمي ورفض التقليد الأمي والغلو، ثم الاحتراس من اضطراب الميزاج... إن التقليد الأعمى والغلو هو نوع من التهور عند المتفيقهين والمتحذلفين والطفيليين على مائدة العلم الحقيقي والحكمة الرشيدة...(19)

لا شك بأن للواقع وجهان، محسوس، ومعقول، ظاهر وباطن، في عالم الأجسام، وعالم الأرواح، ولا بد من الجمع بينهما، لإتمام صورة الواقع في ذهن البشر، فمن العبث أن يقتصر الإنسان على صورة المعاش في الوجود كأنه خالد، ويهمل صورة الخلود الروحانية التي بدونها لا يبقى معنى للحرية والمسؤولية. إن إنكار المطلق عناد صرف، وجهل مظلم وضلال مطلق، والفطرة السليمة تركز على مفهومي يقومان على نوعين من الواقع وفقا لقانون إزدواجية الاستقطاب المبنى على وجود الضدين...(20)

إن التاريخ هو مختبر الزمان وميدان التجارب الوحيد لإقامة البرهان على بطلان الخطأ في التفكير والسلوك، ونظرا لجو التيه الغير المحدود الذي يحيط بالفكر المعاصر بحيث أصبح من العسير تحديد إطاره فإن الدكتور المهدي تطرق إلى هذه المسألة ووضع تصورا لملامح عقيدة العصور المقبلة والشروط اللازمة لقيامها.

أن تكون علما يقينيا لا ريب فيه، وهذا الشرط مستحيل خارج الوحي الإلهي.

أن تجمع شتات الفكر في نسق مفتوح منظم وغير مغلق على نفسه.

الشمول للظاهر والباطن، والشهادة والغيب، والزمان والمكان والعقيدة والشريعة.

أن تضمن للمؤمن بها العامل بها سعادة الدنيا والآخرة.

أن يصحبها النهضة والازدهار ورغد العيش ما دامت مطبقة .

أن توحد بين المرء ونفسه، وبين أمة وأمة على كلمة سواء بين الناس.

أن توحد نظرة الإنسان إلى الوجود فلا تفصل بين الجسد والروح والدين والدولة والدنيا والآخرة، وظاهر وباطن.(21)

هذه الشروط لا توجد إلا في الدين الإسلامي، وعلى هذا الأساس يكون الإسلام هو دين الحاضر والمستقبل.

إن الطريق المستقيم الذي يهدي المخلوق إلى القرب من الخالق أوله العلم الحق وآخره النعيم الأرضي والأبدي، ولذلك من المستحيل عقلا ونقلا أن يعيش الإنسان بدون عقيدة مهما كان مضمونها ومنهاجها، ومسألة المسائل كلها ترجع إلى شيء واحد وهو اختيار العقيدة ورفض غيرها، بشرط ضروري وهو أن تكون هذه العقيدة قائمة على الحق وهو الجمع بين الحقيقة أي العلم والعمل به، والحق هو علم الله، لأنه علم مطلق يزود الإنسان بمجموع الحقائق عن طريق الوحي، وبالنهج القويم عن طريق الشريعة.

إن جدلية الصراع يؤدي لا محالة إلى المحافظة على التوازن والاعتدال بين عوامل متضاربة من أضداد متعارضات ومتناقضات. كالحق والباطل، والخير والشر، والأعمال الجميلة، والأعمال القبيحة، والحركات الهدامة، والمشاريع البناءة والمعتقدات الصادقة والظنون الوهمية، ومقام اليقين واضطراب الشك وبهجة الإيمان، وقسوة الجحود، إلى ما لا حصر له ولا نهاية من الظروف والأفكار والأحوال.(22)

الحياة إمتحان وابتلاء، مستمر غايتها أداء الأمانة الملقاة على عاتق الإنسان، من أجل تعمير الأرض، وتسيير شؤونها بالحكمة، والشريعة حتى تجري الأمور بحسب القوانين الأرضية في الظاهر والباطن.

فمن بين سنن الكون الكبرى السعي، وراء فكرة الاكتمال والتقدم والرقي... ونظرا للشعور الإنساني العام بالنقصان، فإن الصراع في الوجود بأخذ صورة بين طرفين و(السالب والموجب)، والعدل والظلم حتى يسير الوجود على أساس التوازن، (صراع بين الأضداد أو بين المتعارضات أو بين المتناقضات) (23)

إن للأطراف المتعارضة وجوها، وأشكالا، متعددة حسب زاوية النظر... فالأضداد كالوجود والعدم، لا يجمعان في وقت واحد، لا بد من إلغاء أحد الطرفين... أما المتعارضات، يمكن تجاوزها، دون الجمع بينهما (تحافظ على كيانها) بجانب الطرف الآخر، كالآراء المتعارضة من أفكار ومعتقدات ومذاهب فلسفية، وعقائد دينية، دون الإقدام بالعنف على تنحية الواحد منها، لبقاء الآخر.
بفضل العقل والعدل والإنصاف والاعتدال، يمكن المحافظة على التوازن بين المتعارضات وتجاوزها وإعطاء الحرية للأفراد للبحث عن الحقيقة وذلك وقاية من الإرهاب الفكري الذي هو الإكراه الذي لا ينتهي إلا بالقهر والتعسف والخوف (24) أما التناقضات فتشبه الأضداد في ضرورة رفع أحد الطرفين للإبقاء على الآخر. ولكن مع الاحتفاظ بوجود طرف واحد فقط، دون الآخر مثلما نشاهده في مملكة النحل..، وقد يجمع التناقض في شخص أي حالة تأرجح التناقض في الحياة النفسية والأخلاقية والاجتماعية، والخلاصة أن للصراع مع النفس ومع الضمير وجوها متنوعة، بعض أشكالها التضاد أو التعارض أو التناقض... إلا أن الصراع من أعظم أنساق الوجود الأرضي، غايته المحافظة على التوازن والاعتدال بين العوامل من أضداد ومتعارضات، ومتناقضات...(25)
ويمكن تصنيف الصراع على أساس المقولات والمفاهيم العامة، فهناك الصراع الديني، والصراع الفكري لتشويه مناهج التفكير عند الخصم والصراع الثقافي والحضاري لإظهار الآخر بأنه مجرد أعمى ضعيف التفكير كما يقول الغرب، (ذوبان المغلوب في ذهنية وثقافة الغالب القوي) حتى ينعدم التنافس بينهما، ويحتكر القوي مناطق النفوذ في أغلب قارات المعمور...

أما الصراع اللغوي، وهو من الأهمية، إذ تدوم اللغات بدوام قوة أصحابها، فتنتشر معهم وتموت... فاللغة مرآة الشعوب، وبواسطتها تتسع رقعة النفوذ الحضاري والثقافي وبالتالي الروحي بين النظرة الكونية والعقدية والإيديولوجية بمساعدة العوامل السابقة... (26).

هكذا يتبين بأن أسرار الصراع تكمن في تمكين الفرد والجماعة من الارتقاء طلبا للوجود الثابت الحق، في دائرة النور... فالجهاد صراع الاستمرار والاستقرار والحركة الدائمة على تكامل السلب والإيجاب..

فالصراع المقدس هو كالفضيلة، ويحافظ على التوازن بين رذيلتين، فبضدها تتميز الاستياء، فالعقيدة الصالحة يكتب لها البقاء والدوام والإظهار. (27)

إن بلوغ الحقيقة، يكون بواسطة المعرفة، بالعقل، والعرفان، وبالذوق أو العلم بالوحي، فالمعرفة مجهود بشري يصل إلى العلوم والمعارف المتعلقة بالمحسوسات والمعقولات، غايتها إدراك العلاقة بين الأشياء وإفراغها في قوالب تعبيرية، تسمى قوانين، وقواعد، والعرفان هو النظرة العامة القلبية العاقلة، حول الكون والوجود، وحكمة الأشياء وحقائقها.

القاعدة الأولى في هذا السياق وركيزة الركائز هي الإيمان وإذا فقد الإيمان فقد المعنى ولم يعد للموجودات والشرائع والعلوم والمعارف أي قيمة... وبالتالي تتساوى الفضيلة والرذيلة.
والأساس الثاني العقل الذي بدونه يرتفع التكليف، لأنه مفتاح المعرفة التجريبية، والعرفان الذوقي: "اقتران القلب والعقل"

إن الوجود يسير بمقتضى السنن الكونية، والمطلوب من الإنسان أن يتوافق مع هذه السنن، ولن يتأتى له ذلك إلا إذا أدرك حقائق هذا الوجود بعقله وبصيرته.

فالعقل لا يكون عقلا إلا إذا عقل من العلم والحكمة، وعقل نفسه من مخالفة هذا العلم والحكمة ليهتدي به في الحاضر والمستقبل مستنيرا في نفس الوقت بالماضي.(28)
إن مأساة الإنسان تكمن في ضميره الممزق كما يرى ليبولد فلام، وذلك بسبب قطعه الصلة بالماضي أي بالحكمة التي قام البرهان على حقيقتها فالعالم فيه تيارات كثيرة، وحتى نتجنب التيهان بدون هدى، فلا بد أن نختار العقل الواسع أو العقل النوراني الذي يقترب معناه من القلب الحدسي الذوقي، واستعمال العمليات المنطقية حتى لا يقع الإنسان في التناقض.
وهو يجيب على الأسئلة: لماذا خلقنا؟ وما هي الحياة؟ وما هي النفس؟ وما هي الروح؟ وما هي المادة؟ وما هي المعرفة؟ وما هي شروطها وحدودها؟ وما هي قيمتها؟ وما هي فلسفة التاريخ إلى غير ذلك من التساؤلات والإشكالات التي يجيب عنها العقل الراشد.(29)
تقوم العقيدة على فكرة الوحدة والتوحيد (وحدة العقل ووحدة النفس ووحدة الحقوق والواجبات، ووحدة الأديان ووحدة المصير) وحدة ضمن الاختلاف طبقا للقوانين الكونية.. والغاية هي البحث عن الحق والخضوع له، فالعبادات وسيلة للترقية والبحث عن إشراق بدل الانحدار باسم التقدم إلى منزلة الحيوان في مجتمع الاستهلاك حيث يزيغ العقل و تنحرف المعرفة (Réversion de la connaissance).(30)

إن الله يرفع من شأن الأمة برفع مستوى عقلها، بعمق التفكير وعندما تدخل الأمة في عصر الانحطاط التدريجي يكون ذلك مصاحبا لانخفاض التفكير وخفوت نور العقل.
فالسر العظيم في العقيدة الإسلامية، أنها جمعت التعاليم العليا الخالدة فهي عقيدة التوحيد بامتياز (توحيد الحكمة والعقيدة والشريعة) ليتحقق بذلك توحيد الفكر والمصير الإنساني على أساس العقيدة الجامعة بين النظري والعلمي، والاعتقاد والتشريع، منهجا يستقيم عليه ويهتدي به، وشرعة يأتمر بها، ودينا قيما يوصله إلى الحق المبين.

أما الحضارة الغربية فقد تقدمت فيها الآلات والصناعات وتأخرت النفوس. مع فساد وضلال في التفكير، وانحلال في الأخلاق، أذواق سقيمة وقلوب مريضة ومشاعر مضطربة.
إن الغرائز والجوارح وظائف ذات قيمة عالية.. فهي وسائل لا غايات وكل فلسفة أو نظرية تبيح المحرمات، والسموم المادية أو المعنوية فهي جهل في صورة علم، إذ تجهل حقيقة وظائف الأعضاء في تكوينها وغايتها...(31)

أما التفكير السليم فهو الذي يغوص في باطن القلوب وينفذ إلى حقائق الأشياء ولبها، ويبحث عن أسرار الحكمة العليا بفضل استقامة الحكم المنطقي، لأن ملكة الحكم تتصل بها ملكة الحكمة.

ولا مراء أن لكل عقيدة أثر بالغ وعميق في واقع الأمة لأنها تشكل فكرها ونظرتها إلى الوجود، وهذه النظرة إلى الوجود، تسمو بالحياة العاقلة والمدركة لتسلك سبيل الحق والخير والجمال...
إن الفكر لا يكون على صواب إلا إذا تعلق بالحق... ويكون على ضلال إذا فتح الباب لطغيان المال، والفساد، والاستغلال وتعسف الجاه والسلطان والأهواء.

ومعايير الأفضلية بين نماذج الفكر بين الأمم كثيرة منها:

صدق النظرة إلى الوجود لإشراق النفس وتنويرها.

إقبال النفس على العقيدة الدائمة رغبة من العقل المستنير في طاعة الحق دون إكراه أو تعسف.

عدم التناقض بين تعاليم العقيدة ونتائجها العملية من جهة وبين منطق العقل وسير الواقع كل ذلك في نظرة شاملة للظاهر والباطن.

توافق المحصول العلمي المتجدد مع العقيدة وتعاليمها السامية.
محافظة العقيدة على سلامة الظاهر والباطن في الجسم والعقل والروح دون الفصل بين هذه المكونات أو إلغاء بعضها.

الجمع بين الزمان والأزل، فالحياة ثلاث مراحل: حياة الدنيا، وحياة البرزخ والحياة الآخرة.(32)
إن أبرز صفات العقل هو الحقيقة أي مطابقة العقل للواقع، فيحركه منطلقا من العلم الصحيح، بعيدا عن الأوهام والخيالات وسراب الظنون في الخلط بين الحق والظن...(33)

ومن خصائص العقل أنه يتأمل، فيما يدركه، ويقبله، على وجهه، ويستخرج منه بواطنه، وأسراره، ويبني عليها نتائجه، وأحكامه، وهذه الخصائص في جملتها تجمعها ملكة "الحكم" وتتصل بها ملكة الحكمة...(34)

أما القلب فأبرز ميزاته نفوره من الفراغ بأي وجه من الوجوه...، ذلك أن الدوران في فراغ يؤدي إلى فساد في التفكير واعوجاج وخطر في المعرفة، وبلبلة في الرؤية والتصور، وبالتالي انحراف عن النهج القويم.

فالقلب لا بد له من أن يتعلق بشيئ وأهم التعلقات هو عقيدة أو (مثل أعلى) فالإنسان مجبور على التعلق فهو إما يعبد الله او يعبد نفسه أو يعبد غيره بشرا كان أو فكرة.

فعبادة الله تخرجه من تناقض الجمع بين الأضداد...، ومن اعوجاج في التفكير، وطغيان الأهواء، واضطراب النفوس، وسطحية في المعرفة والتشبث بالقشور والأعراض عن اللباب، والاستبداد في السياسة و التلاعب والتهاون في الدين وما إلى ذلك من أمراض الحضارة..(35)

ومن أمراض الحضارة الجهل العالمي الحضاري وهو الذي يطغى في العصر الحديث حيث أصبح ضمير الإنسان ممزق (La Conscience Tragique) بفعل كثرة المعارف وضعف التفكير، وفساد الأذواق وانحلال الأخلاق، وطمس البصائر واضطراب النفوس التي خيم عليها القلق واليأس.

وفي هذا المناخ يسود الشعور بسقوط الحضارة، نتيجة الاختلالات الكبيرة، الظاهرة أو الخفية.
إن الانهيار يتأصل من خراب النفوس ، ومن تعطيل السنن، والتنكر للنواميس المادية والمعنوية وقلب الحقائق، فيفسد السلوك، والتدبير، وينتشر بالخلل المتفشي في الحضارة.. (36)
إن الأزمات أعراض مرضية ومظاهر إنذارية تنم عن خلل جسماني أو نفساني أو حضاري عام وشامل.

ومن أعراض الأزمة الحضارية ومظاهرها الأزمة الروحية وهي نفي المطلق ونكران روح التقديس، ونفي الخلود، ومن تم غياب الحكمة والتبصر..، والجهل بأسرار الوجود، ومعاني الخلود،
واستمرارية الحقيقة، ورفعة الأذواق المعنوية، وعظمة الإيمان، والأخلاق ونظام الكون ودقائق المعاني الرقيقة، مثل الجمع بين الجوارح والفضائل والظاهر والباطن...

فبضياع روح التقديس، تتسرب الفوضى، وتزيغ العقول وتتحجر القلوب، وتفسد المعرفة...(37)
إن الترابط الوثيق بين مقومات الإنسان ونتيجة للتأثير والتأثر (المتبادل) يجعل من الحتمي أن تنتج عن الأزمة الروحية الحضارية أزمة مادية تجعل الظاهر يفضح الباطن..
ومن نتائج هذه الأزمة الروحية الأزمة العقلية وهي أساس الفوضى القائمة على الفكر المضطرب نظرا لفساد المعرفة وفساد القصد.

ومن مظاهر هذه الأزمة الحضارية الروحية العقلية، حيرة العقول والقرائح، ففلاسفة العلوم يتكلمون عن لا "مادية" المادة ولا جوهرية الجوهر، ولا شيئية الأشياء...، بمعنى أن كل ما نشاهده، ما هو إلا نسيج من العلاقات والمظاهر..، أي ما يقع على الحواس من أشياء مجهولة الكنه والمدلول العميق..، إنه الجهل بكنه المادة، والغرور الجاحد بوجود مجردات كما لوكان من الممكن أن يتحرك العقل بدون تجريد.

إن كلمة إنسان أو فرس أو شجر وغيرها من الأوصاف والتحديدات إنما هو مفهوم مجرد، تندرج فيه عدد كبير من المفاهيم، وكلها مجردات رغم وجود الأوصاف الحسية التي لا تعدو أن تكون محض ارتسامات وأحاسيس ذهنية...(38)

إن اضطراب التفكير يؤدي إلى اضطراب في الفهم، وقد سمى أوجست كونت هذه الحالة بالفوضى العقلية، وقد أدت هذه الفوضى العقلية إلى فساد في الأخلاق والسلوك...، وأدى فساد الأخلاق والسلوك إلى فساد شامل في مختلف فروع الحياة الاجتماعية.. لأن الحياة قائمة على دعائم من الأخلاق والمثل، فبفساد هذه الدعائم وانهيارها، تفسد جميع فروع هذه الحياة وتتقوض أركانها...(39)

ويمكن أن نؤكد أن من مظاهر الفوضى العقلية موقف الحضارة الحديثة من الدين كل الدين. فقد نشأت في جو من الشرود من الكنيسة والنفور من الدين، و وقع ذلك "الفصام النكد" بين الدين والحضارة الحديثة.

بحيث طغت التصورات الغربية والنظرة المادية للوجود والحياة ولمركز الإنسان في الكون ولغاية وجوده الإنساني.

وأدى هذا المنهج المادي إلى اختلال في الفكر واضطراب في الفهم وخطأ عقلي في التقدير والتدبير الرشيد.

كما نتج عن هذا الاضطراب التمزق المأساوي لضمير الإنسان..

ولعل شهادة الدكتور أليكسي كريل Alexis Carrel في كتابه "الإنسان ذلك المجهول" (L’homme cet Inconnu) حول الحضارة الحديثة تعتبر حجة بالغة الدلالة على ما تتسم به الحضارة الغربية الحديثة من فوضى عقلية تهدد الخصائص الأساسية للإنسان. يقول كاريل: لقد أهمل تأثير المصنع على الحالة الفسيولوجية والعقلية للعمال إهمالا تاما، عند تنظيم الحياة الصناعية إذ أن الصناعة العصرية تنهض على مبدأ الحد الأقصى من الإنتاج بأقل قدر من التكاليف حتى يستطيع فرد أو مجموعة من الأفراد أن يحصلوا على أكبر مبلغ مستطاع من المال. دون أي تفكير في طبيعة البشر الذين يديرون الآلات ودون اعتبار للتأثيرات التي تحدثها طريقة الحياة الصناعية"

" ويقول: وهؤلاء النظريون يبنون حضارات، بالرغم من أنها رسمت لتحقيق خير الإنسان، إلا أنها تلائم فقط صورة غير كاملة أو مهولة للإنسان، إن نظم الحكومات التي أنشأها أصحاب المذاهب، في عقولهم عديمة القيمة ، فمبادئ الثورة الفرنسية، وخيالات ماركس ولنين، تنطبق فقط على الرجال الجامدين (أشباه أموات) فيجب أن نفهم بوضوح أن قوانين العلاقات البشرية ما زالت غير معروفة، فإن علوم الاجتماع والاقتصاد علوم تخمينية، افتراضية...)
ويقول "يجب أن يكون الإنسان مقياسا لكل شيء، ولكن الواقع هو عكس ذلك، فهو غريب في العالم الذي إبتدعه، إنه لم يستطع أن ينظم دنياه بنفسه. لأنه لا يملك معرفة عملية طبيعية، ومن ثم فإن التقدم الهائل الذي أحرزته علوم الجماد على علوم الحياة هو أحد الكوارث التي عانت منها الإنسانية.

إننا قوم تعساء لأننا ننحط أخلاقيا وعقليا، إن الجماعات والأمم التي بلغت فيها الحضارة والصناعة أعظم نمو وتقدم هي على وجه الدقة الجماعات والأمم الآخذة في الضعف والتي ستكون عودتها إلى البربرية والهمجية أسرع من عودة غيرها إليها ولكنها لا تدرك ذلك"
ويقول "إن الآمال العريضة التي وضعتها الإنسانية في الحضارة العصرية، قد أخفقت هذه الحضارة في إيجاد رجال على حظ من الذكاء والجراءة يقودونها عبر الطريق الخطر الذي تتعثر فيه، وإن أكثر ما يعرض الأمم العصرية للخطر هو النقص العقلي والأدبي الذي يعاني منه الزعماء السياسيون"

ويقول: "إن العقل وقوة الإرادة والأخلاق، ترتبط ارتباطا وثيقا بيد أن الإحساس الأدبي أهم بكثير من العقل. وحينما ينعدم هذا الإحساس من أحد الشعوب، فإن كيانه الاجتماعي كله يبدأ في الانهيار البطيء ..."

ويقول:" إن المادية البربرية التي تتسم بها حضارتنا لا تقاوم السمو العقلي فحسب بل إنها تسحق أيضا الشخص العاطفي واللطيف والضعيف والوحيد وأولئك الذين يحبون الجمال ويبحثون عن أشياء غير المال"

"لقد ارتكبت المدنية الحديثة خطأ كبير دائما بتضحية العقل في سبيل المادة. خطأ تزداد خطورته يوما بعد يوم لأن لايثور ضده،احدا ولأن الجميع يتقبلونه بسهولة كما يتقبلون الحياة غير الصحية من المدن الكبرى والسجن في المصانع"(40)

هذه بعض الفقرات من شهادة عالم غربي مرموق حول الحضارة الحديثة وهي غنية عن كل تعليق. لأنها دليل صارخ وحجة دامغة على ما يكتنف الحضارة الحديثة من فوضى عقلية، وأزمة روحية متأصلة. كما أنها تتسق مع رؤية المفكر الدكتور المهدي بن عبود حول اختلالات الحضارة المعاصرة التي تناولها في العديد من أبحاثه ودراساته وشغلت حيزا مهما من مشروعه الفكري والثقافي.

وصفوة القول أن العقل الذي يفكر ويستخلص من تفكيره زبدة الرأي، يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح...

ثم إن أسرار العقيدة أعمق وأصدق مما يدور بأوهام منكريها، وأنها ذخيرة من القوة وحوافز الحياة، تمد الجماعات البشرية بزاد صالح لا يستمد من غيرها...(41)

الهـوامــش

الأعمال الكاملة للدكتور المهدي بن عبود/ رصد الخاطر-1- جمع وترتيب ومراجعة الدكتور محمد الدماغ الرحالي ـ ط ـ 1 ـ 2005، ص 26.

ن. م ، ص 7

ن . م، ص 12

ن . م، ص 12

ن . م ، ص 14

د/ المهدي بن عبود /عودة حي بن يقظان / كتاب ملسلة شراع عدد 16/ ص 129
المصدر السابق ص 130

أدوار سعيد / المثقف والسلطة، ترجمة ذ/ محمد عناني/ رؤية / ط 1، 2006/ ص 76
الدكتور المهدي بن عبود الأعمال الكاملة، ج 1، ص 55.

أحمد فراج/ نور على نور/ كتاب الهلال/ دار الهلال/ ص 96.

ن. م ، ص 23

عباس محمود العقاد/ التفكير فريضة السلامية/ المكتبة العصرية، بيروت/ ص 17

الدكتور المهدي بن عبود / رصد الخاطر، أفكار ونظريات وخواطر حول صراع العقائد وعقيدة المستقبل/ دار النجاح الجديدة، الدار البيضاء /ط1/1996/ص 4

ن. م ، ص 98

د/ مصطفى محمود/ الشيطان يحكم/ دار المعارف/ ط 3، ص 51

رصد الخاطر أفكار ونظريات وخواطر. (م. س) ص 21

ن. م ، ص 24

ن. م ، ص 28

ن. م ، ص 28

ن. م ، ص 29

ن. م ، ص 42

ن. م ، ص 47

ن. م ، ص 48

ن. م ، ص 49

ن. م ، ص 50

ن. م ، ص 57

ن. م ، ص 57

ن. م ، ص 67

ن. م ، ص 70

ن. م ، ص 78

ن. م ، ص 95

ن. م ، ص 113

ن. م ، ص 122

العقاد، المصدر السابق، ص 8

أفكار ونظريات وخواطر (م، س) ص 123

المهدي بن عبود / الأعمال الكاملة، ص ، 1، ص 64

ن. م ، ص 69

ن. م ، ص 79

الدكتور علي عبد الواحد وافي، مقدمة ابن خلدون ـ ج 1ـ ط 3ـ ص 220

بالنسبة للفقرات التي أوردتها من كتاب ألكسي كاريل فقد اعتمدت على كتاب الأستاذ
سيد قطب: الإسلام و مشكلات الحضارة / دار الشروق/ ط13/ 2005
عباس محمود العقاد. (المصدر السابق) ص 10


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى