الخميس ١٤ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم مصطفى أدمين

بائع الأكاذيب

مقر الشركة الوطنية لصناعة الآلومينوم.

في قاعة الانتظار المجاورة لمكتب الرئيس، رجلان شابّان: عمر، 27 سنة، وأحمد، 29 . عمر ينظر إلى الساعة الحائطية وعقربها الصغير لا يتزحزح عن الرقم 8 ، وأحمد ينظر في هدوء إلى صورة الرئيس بمقاييسه الحقيقية.

يُفتح باب مكتب هذا الأخير، فتخرج امرأة وتنادي على عمر. يدخل.

الرئيس: إن إدارة الشركة تفتخر بمجهودك وتقدّره، وتتوقّع أن تصير مديراً في أعلى المستويات، ولكن (اللجنة) اختارت زميلَك أحمد للترقية، وتعوّل على تفهُّمِك للوضع، وعلى تعاونك مع المدير الجديد؛ أعني صديقَك أحمد...

يخرج عمر وعيناه شبه دامعتان، ويقول لأحمد:

 مبروك عليك الترقية.

يعانقه أحمد، ويقول:

 أنا آسف. أعرفُ أنّك أحقّ منّي بها، ولكنّ القرار الأخير للإدارة.

يهمُّ عمر بالانصراف، فيسمع المرأة تنادي على زميله أحمد... ويقول في نفسه:[كلّ هذا التأخير من أجل ترقية رجل دون كفاءة سوى أنّه ابن أخ الرئيس]

على حافة الجرف المطل على المحيط، وقف عمر بجانب سيارته الجديدة التي اشتراها لغرض الأوصاف المديرية، وراح يعبُّ من قنّينة خمر فماً لِفم، وهو الذي لم يشرب خمرةً قط.

وسأل البحر:

 هل هناك عدلٌ في هذه الحياة الزبل؟

ثمَّ وضع القنّينة على مقدّمة السيارة، وأخرج سيجارة، وأشعلها، وشرع يشربُ دخانَها بنهم؛

وسأل البحر:

 أ هكذا يكون جزاءُ من أخلص لعمله وكان سبباً في أرباح كبيرة لشركته؟

وقال في نفسه:[لستُ أدري ماذا ستقول هُدى عندما ستعلم بأنّني لن أحقق وعودي لها بعدما صارت ترقيتي مستحيلة؟]

يخرج هاتفه المحمول ويركبُ رقم خطيبتِه:

 هدى! لقد..

فتردُّ عليه:

ـ أعرف. لقد أخبرني أحمد...

ـ أنا آسف يا حبيبتي... علينا تأخير موعد زواجنا... الوضع صار صعباً عليّ، وأريدُك أن تفهمي بأنّ ال...

تقاطعه:

 اسمع يا عمر! أحمد هنا في بيتنا، وهو يتحدّث مع أبي في شأن زواجه بي...
تستمرّ هدى في التفاصيل، لكنّ عمر لا يسمع. أبعد الهاتف عن أذنه واستمرّ في التدخين؛ ثمّ أقفل الخط.

يظهر رجل عجوز متسلقا الجرف وفي يده قُفَّة. يبدو واحد من أولئك الذين يبيعون أيّ شيء للسكارى الليليين: شراباً تكميليا، سجائر، مملحات، بيض مسلوق...

يتقدّم الرجل من عمر:

 يبدو أنّك مهموم يا ولدي... ما مشكلتُك؟... احكِ لي! فقد أساعدُك.

فيحكي عمر ما جرى له اليوم الليلة بدون تردد.

 المشكل كلّه هو أنت.

 أنا؟

ـ مشكلتُك هي أنّك كذّاب أقلّ من اللازم، وصريح أكثر من اللازم، ولو تعمل بنصائحي لاستعدْتَ ترقيتَك، وخطيبتك وتحقّقت جميع أمانيك.

ـ كيف ذلك؟

 انظر يا عمر، في هذه القفّة مجموعة من النصائح التي إنِ اتّبعتَها، تصلُ إلى كلّ ما يصبو له قلبُك.

 أنا لا أثق بمثل هذه الخُرافات.

ـ جرّب! جرّب نصيحة واحدة منّي، فإذا لم تنفعك، رُدَّ لي هذه القفة.
فردّ عمر:

 تبدو قفتُك هذه جميلة ونظيفة... وليس لي أيّة خسارة في أن أجرّب؛ فمهجي هو التجريب... هاتِها!

ـ سأعطيك إيّاها، ولكن ليس من دون شرط.

ـ ما هي شروطك؟

ـ شروطي بسيطة لأنّني أحبُّ مساعدة المظلومين... الشرط الأوّل: أن تشتري منّي هذه القفّة كما اشتريتُها من الشخص الذي علّمني حقيقة الحياة...

ـ والشرط الثاني؟

ـ أن تدخل يدك في هذه القفّة وتعمل بأيّة نصيحة تطلع إليك بالصدفة.

ـ والثالث؟

 ليس هناك بعدُ أيّ شرط.

ـ أمرٌ سهل... كم تريد في هذه القفّة العجيبة.

ـ مائة فلس؛ ثمن علبة السجائر التي اشتريتها قبل قليل.

في بيته الذي عند الساعة 12 ليلا، أدخل عمر يده في القفّة، فطلعت له رسالة تقول:[ستذهب إلى خطيبتك وتقول لها بأنّك ورثتَ ثروة طائلة من عمِّ كان مفقودا لك في أمريكا، وبأنّك ستشتري شركة الآلومينوم، وشركات الحديد، والنحاس، والفضّة، والذهب... والباقي عليك إذا كنتَ من الأذكياء]

تأمّل الرسالة وما نام عمر ليلته؛ وفي الغد ركّبَ رقم هاتف خطيبتِه الجحودة:

 هدى؟... هدى! عندي لك خبر بمليون دولار... لقد صار لديّ إرث عظيم...

أقفلت هدى هاتفها؛ لكن فتحته بعد دقائق:

ـ ماذا تقول أيُّها المجنون؟

ـ أقول بأنّنا صرنا أغنى من الأغنياء؛ لقد ورثت ثروة طائلة من عمّ كان يعيش في أمريكا...

ـ ولكنّ والدي واعد أحمد بالزواج منّي والبارحة قرآ فاتحة خطبتنا...

 أعرف. أعرف... لكن أحمد لن يسعدك كما سأفعل...

ـ ماذا تقصد؟

لم يعرف بم يجيب، فإذا بالقفّة بجانبه. فأدخل يده، وطلعت له منها رسالة:[قل:أخبرني والي الشرطة بأنّ لأحمد سوابق عدلية وهو مبحوث عنه، وهم يترقبون سقوطَه]

ـ أنا لا يمكن لي أن أرتبط برجل مجرم.

ـ هناك مشكل بسيط... لن تنتقل لي الثروة إلا إذا كان لي طفل... هذا هو شرط العمّ.
ـ أنا سأعطيك أطفالا.

ـ مشكل آخر... ما في إمكاني نفقات الزواج في هذه الساعة ...

ـ لا عليك؛ أنا سأتكلّف بالأمر.

ـ مشكل أخير يا مليكتي؛ ماذا عن أحمد؟

ـ لا تقلق يا مليكي، فلقد امّحى الآن من تفكيري وقلبي، وفهمتُ بأنّ لا رجل سيسعدني إلا أنت يا عمري.

استمرّ عمر يماطل في تنفيذ وعوده لِهُدى وعائلتها، وينهبُ ثروةَ والدها حتى أوصله إلى حدود الإفلاس وما بقي في قُفّة الأكاذيب سوى ظرفاً واحداً استأخره عمر للظروف القصوى.
وهو في العمل، جاءته هذه المكالمة الهاتفية:

ـ عمر... لقد اختطفواْ ابنتَنا هِنْد...

ـ ماذا تقولين يا هُدى؟ كيف يمكنُ أن تُختطفَ طفلة عمرها أربع سنوات؟... أين كنتِ؟... أين كانتْ الخادمة؟...

في البيت رنَّ الهاتف، وقال صوتٌ:

ـ إذا أردتَ أن تستعيدَ طفلتك، عليك أن تدفع مليون درهما... سأعطيك التعليمات فيما بعد، وإيّاك أن تخبر الشرطة، وإلاّ...

تسمّر في مكانه. لديه في حسابه الشخصي هذا المبلغ؛ لكنّه لا يريد التفريط فيه. [سأدّعي أنّني لا أملك شيئا وسألجأ إلى مال صهري]

ولكنّ والد هُدى أخبره بأنّه على حدود الإفلاس. ما العمل إذن؟ الوقتُ يضيق، ولقد أمهلوه أربع ساعات فقط.

[لعلّ القُفّة تنقذني ممّا أنا فيه] فاستخرج (النصيحة الأخيرة) فقالت له:[قل الحقيقة!]

(هذه نصيحة فاسدة) قال لنفسه. وقال لصهره:

ـ أنقذ طفلتي يا صهري العزيز!

ولكن الصِّهر أشبه بالفقير... وانقضت المهلة... وجاء طفل يقرع باب ﭬـيلاّ عمر وفي يده صندوق صغير:

ـ هذا الصندوق لك...

عندما فتح عمر الصندوق الصغير ورأى ما بداخله، صرخ صرخة دوّتْ لها الجدران والبيوت المجاورة... ومنذ ذلك الحين وهو يهيم في الشوارع، ويصرخ في الناس:[الله يلعن الأكاذيب... الله يلعن الأكاذيب... الله يلعن الأكاذيب...]


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى