الثلاثاء ١٩ نيسان (أبريل) ٢٠١١

وبعدما أشرقت الشمس...!!

ملكة احمد الشريف

انتابته لحظات من الجنون وهو يبحث عن بقايا حياته...

ينبش الركام بيديه العاريتين،

يفتش في أكوام الحجارة والحصى المتناثرة بفعل الانفجار الذي هز جنبات المكان.
ينشب يديه في أكوام الرمال المختلطة بدماء فلذات كبده الزكية، يبحث في كل ركن،
يلفه الزمان والمكان... تجتاحه آلام اللوعة والفراق...

هول فاجعته جعله يتمنى الموت مرارا...

الجميع حوله ذاهلون لهول فاجعته،

ينتشل بقايا صورة أبيه من الركام،

يحتضنها...

يضمها... يقبلها... ينظر فيها مليا... ويعود ليحضن الصورة من جديد...

أحس بأن رجولته ليس لها مكان أمام القهر الذي يسري في بدنه،

الكل من حوله يطلبون منه الكلام...

الصراخ،

البكاء، أو... حتى النحيب،

عله يخفف ألمه،

ولكن..!!

لا مكان للكلام أو الدموع في حالته هذه...

استعاد ذكرى أبيه... فهو الذي علمه أن يعيش الواقع، وهو الذي ربّاه كيف يواجه الحقيقة، حلوها ومرها،

وتذكر... تذكر كم مرة كان أبوه يتعوذ من قهر الرجال،

الآن فقط فهم ماذا كان يعني بهذا القهر!!

... ... ...

استرجع صورة المكان... استعاد صورة البيت بأكمله...

هناك كان يجلس أبي متعللا بنسمات أيلول، وهنا كان صغيراي يلعبان...

وفي ذلك الركن البعيد كانت زوجتي تسكب لنا الطعام،

وهذه بقايا شجرة البرتقال التي كنا نتفقد أزهارها، ونعدها...

وتلك آثار خضروات جافة جمعتها أمي بدقة لتخزينها...

وهناك تقلدت صغيرتي طوق الياسمين الذي ألبستها إياه جدتها،

وهذه بقايا الأرجوحة التي وقفنا جميعا نثبتها بين أغصان شجرة التوت العجوز، التي كنا نقضي ليالي الصيف نتسامر حولها، وضحكات زوجتي... لا زالت تطن في أذني، عندما احتلت مكان صغيرتنا على تلك الأرجوحة..!!

... ... ...

استجمع القليل من قواه المنهارة ليصرخ: أينكم...؟؟؟؟ أينكم...؟؟؟

صوته المكلوم جعل الجميع حوله ينتحبون من جديد...

إن هذا المكان لم يعد لي، وهذا الزمان لم يعد يجديني، والحياة كلها ليست لي...

لقد أصبحت بلا عائلة، وبلا بيت، وبلا عنوان...

... ... ...

ومع رحيل شمس ذلك النهار

عاده من جديد نشيج الذكريات... وبين جوانحه تتصادم أمواج الحزن والألم، فأحباؤه الذين رافقوه طوال السنين قد رحلوا...

فما أصعب لحظات الشوق إليهم، وما أقسي فقدانهم، و ما أصعب أن تحتاج لنبضة شوق، أو همسة عتاب، فتلتفت تبحث عن الجميع فلا تجدهم، وما أقسي أن تناديهم فلا يجيبك سوى صدى صوتك يردده المكان...

... ... ...

في اليوم التالي...

وبعدما أشرقت الشمس... نبهته العصافير من حزنه وهي تشدو لحنا حزينا، وكأنها تشاركه لوعة الفراق،

فتذكر فتات الخبز التي كان يلقيها لها الصغير...

وتذكر شجيرات اللوز، والبرتقال، والزيتون التي زرعها هو وأبوه في "بيارتهم" غير البعيدة من البيت المنكوب...

تذكر أنها لا زالت بحاجة إلى عنايته،

وتذكر أن أباه كان قد وضع لها السماد، وأنها الآن بحاجة لريها بالماء...

وبخطوات متثاقلة قام يحمل فأس أبيه ليكمل ما بدآه من قبل في تشجير المكان...

مع شكري وتقديري لأستاذي الفاضل: محمود عيد

ملكة احمد الشريف

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى