الثلاثاء ١٩ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم عيسى حديبي

أنثى بين الرمال

بنت كوخا في منطقة صحراوية تدعى بلقبور(1)، بعد مدة تحول المكان إلى قبلة للعابرين من جهة حوض رود النوس(2).

امرأة تأقلمت مع جفاف الصحراء، وتحول المكان معها إلى رطوبة وأنس، وأمسى محطة للذين تعودوا وحدة وقساوة الطريق الممل. طريق لا ينتهي ويتمدد كالثعبان الأسود وسط الكثبان الرملية.

كم كان الطريق يخيف السائقين في شهر أفريل، لأن العاصفة لو تحركت يصبح الموت ممكنا في كل لحظة وبالتالي لا يعني شيئا، وكم كانت هذه المرأة ملتصقة بالمكان، وقد تحدّت كل خصائص الأنوثة وكسرت جميع قيودها.

المكان بوجودها انتفض من الموت إلى الحياة، إلى خضرة وماء ومعنى للأرض وللسماء.
أنثى بين الكثبان، بنت عشا وحدها، في نظر الناس كانت عاهرة وانتهى، وفي قاموس الحياة كانت إنسانة، يجد الناس عندها الأكل والشرب والمبيت والهدوء، و في أنفسهم إحساس خفي بالأمل للوصول أحياء إلى المحطة القادمة، يكملون كل مرة بقية الطريق المبعثر والمخيف. طريق في عمق الصحراء، فيه السراب والخراب ومغامرة الموت، جعلته هذه المرأة ممكن البداية والنهاية.

أكيد أن دوافعها كانت أقوى من أنوثتها كامرأة، ربما كان حبا قويا رماها في لجج الفراغ الأبدي، ربما يُتم مبكر وقحط وقهر واستغلال أحداث، جعل من معاناتها مطية هونت عناء السفر للعابرين، هل هي من أذنبت أم غيرها من تعدى وظلم، صك وجهه وتجاهل و أدبر واستكبر؟.

أنثى أمضت عمرها تسكب السعادة في كؤوس العطش، وكأن القدر اختارها بظروف معينة لرسالة في الصحراء، أخذ منها حياتها، لتبعث هي الحياة في مكان آخر، كان بداية موتها، بداية لجريمة كانت هي أول ضحية لها.

ما أصعب أم يمارس القتل على مخلوق ضعيف، وهو لا يزال يسهل الحياة لغيره، بوضع يسحق ذاته ويفرض عليه الإهانة مدى الحياة.
كان يحدث دائما مع معظم الزوار، أن تحاورهم وتسامرهم وتكشف ضعفهم، الذي يستحيل أحيانا على حبيباتهم وزوجاتهم.

تعرفت هذه المرة على كهل يبدو من علامات الحدادة على وجهه أن الحياة صفعته كثيرا، كان يرمقها خلسة بنظرة الغزل والرغبة، وكانت ترفض الأولى وترد على الثانية بابتسامة باردة غريبة لا تعني شيئا. يبدو أن بشاحنته عطب يتطلب أياما لإصلاحه، ونظرا لعلاقاتها المتشابكة والسريعة، عرضت عليه خدمتها بشكل غير مباشر، فطلبت من النادل مساعدته وسؤاله عن حاجته.

تمت الأمور كما تحركت لها الإرادة، وأمست الشاحنة على أهبة الرحيل، لكن السائق لم يكن سعيدا بذلك، وكأن العطب رسم له شيئا جميلا، شده إليه واستبقاه رهينة، فلم يرحب بالخروج من الحلم الجميل.
استيقظ صباحا ودار حول الشاحنة، تفرس جميع أجزائها، من العجلات في الأمام حتى المؤخرة، أشعل المحرك وجلس قبالة الشاحنة يرتشف قهوة ويبعث في الجو دخان سيجارة حائرة.

كانت هي في زاوية من المكان، تشاهده خفية، تطالعه وهو يصعد في القاطرة، ويذوب في الرمال كحبة سكر.
رجعت إلى خلوتها التي لم تستطع شاحنات الصحراء أن تخترقها. برغم محركاتها القوية وصراخ أصحابها المصدومين بعذاب السفر وقسوة الطبيعة، كل ذلك لم يتمكن من النفاذ إلى عالمها الصامت،

قلبت في صندوق عندها عن شريط قديم لا زالت تحتفظ به بعناية،

وضعته في الجهاز وراحت تسمع ..

ريم الرِيمات يا ريما ريم الريمات

اغْزَال الصحراء وِينْ ايْبَات ؟..

يا ريما...(3)

عيناها منبعثة في الأفق تسبح في واحة رمادية، تقول ولا تقول، توحي فجأة بيقظة شيء قديم، بانتفاضة عاطفة صلبها الجليد.

أصابتها الفوبيا واحتوت المكان حولها، كجني مارد أسدل جناحيه مثل الظلام في ليلة حالكة، بخوف شديد ارتعشت فرائسها، يبدو أنها نوبات الماضي حين تومض بالوجع كسكتة القلب، جرت نحو الجهاز أغلقته وسحبت خيط الكهرباء بقوة، ثم راحت تكلم نفسها كالمجنونة،
يبدو أني لا زلت ساذجة، ألا يكفي أني ارتميت في حضن الصحراء، هربا من عذاب الهوى، وما جناه علي حب رجل، اكتفى في النهاية بالرحيل؟ واليوم رجل آخر جاء ليذيب الجليد، على تمثال تصلب وتكسر كبقايا مزهرية، لم تعد تحمل شيئا من زهور تناثرت بفعل ريح صرصر عاتية!.

هل كنت لأنجو اليوم من عباب البحر لو كنت امرأة عادية؟، لم تلعب مع الحب لعبة الخطر والسادية المزمنة؟.

سأسكب ما تبقى من لوعة الحنين في وعاء الصمت، لن أخدع نفسي اليوم بحب قد يولد على الأنقاض، يرفض كل الفصول والألوان، كيف سيكون نوع هذا الحب لو كتبت له الحياة؟ سوف لن تتعدى الحكاية حدود المغامرة، ومجال الخطر الملغم عبر كل الطريق.

لست مرغمة على أسفار الخطر، التي لا تورث سوى الإنكسار والدمار، والعار الذي لا يعرف عنوانا محددا لتعريفه سوى نكاية النفاق.

هامش:

(1)،(2) بلقبور وحوض رود النوس منطقتان صحراويتان بالجنوب الجزائري (على خريطة الغاز الصناعية)،

(3) غزل من الملوف القسنطيني، وهي أغنية جميلة جدا.

الريمات: جمع ريم باللسان الدارج

وين ايبات: أين يمضي ليلته؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى