الخميس ٢١ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

الرجل الذي افتقدناه

ألفناه فأحببناه فبكيناه عند فراقه لنا. إذ طاف علينا يودّعنا الصغير قبل الكبير.. كنت في ذلك الحشد عند مضافة المختار. لا زلت أشعر بيده المصافحة وبالقبلة الحارة التي طبعها على خدي. قبلة الوداع. ولا زلت أتذكّره حين أقسم اليمين أمام وجهاء القرية، ومنهم والدي، أن ينتقم ممن كانوا سببًا في عنائنا وخذلاننا وتخلّيهم عن وطننا..

كنا صغارًا يومذاك.. نهابه ولكننا نتشوق لسماعهم وهم يروون حكاياته بفخر واعتزاز.. كانت التعابير التي سمعتها جديدة بالنسبة لي فكنت أسارع في الاستفسار عنها وحل لغزها.. فألفيناه شهمًا ووطنيًّا فصار مثلاً لنا. عرفناه شديدًا وقت الشدّة لكنّ متسامحًا مع غيره.. أحبّ العروبة فأحبته.. واعتزّ بقريتنا أيّما اعتزاز حتى ظلّ يردّد على مسامع الجميع: "هذه بلدتي التي عشقتها واستنشقت هواءها وأنا أعتز بها".. والحقيقة أنه أحبّها أكثر من أي مكان آخر لتطابقها مع اسم والده فصرنا نعتزّ به ونفخر بوجوده بين ظهرانينا. ولا عجب من عرض المختار عليه أن يزوّجه ابنته إلا أنه أبى. سمعته ذات مرة يحدّث جلساءه في الديوان بكلام حفظت منه قسمًا وظلّ عالقًا في ذهني وصرتُ أردده على مسمع من أصحابي مقلّدًا إيّاه:

«إني ابن الفقراء، شخص فقير عشت في حي الفقراء وقاسيت زمنًا طويلاً مرارة العيش ولكننا نملك الغنى غنى النفس وكنا نملك الغنى غنى الآباء.»

بإرادة ملكية، وهذا التعبير الأكثر تداولاً آنذاك، وصل مع فريقه الى قريتنا في الرابع عشر من شهر تموز الحارّ، ولعلّ التاريخ يشهد لهذا التاريخ شهادتين لكن الفارق بينهما هو عشر سنوات بالتمام. فما أن وصلت عساكره وتمركزت على تخوم أراضينا حتى أصدر أوامره لجنوده بالدفاع عن القرية وأراضيها من غير الدخول في أحيائها أو التعرض للمواطنين الآمنين أو لممتلكاتهم. ومن يخالف الأوامر يُضرب بيدٍ من حديد.

من مضافة المختار صارت تصدر أوامره العسكريّة، بعد أن يتفقد أحوال القرية قبل أن يتفقد جنوده المرابطين خارجها في جولة استعراضية بسيارة جيب عسكرية. يستشير لجنة الوجهاء ويشيرون عليه، وظلّوا يرسمون الخطط للدفاع عن الثغور واسترجاع البيارات التي افتقدوها حتّى وقعت المعركة الشهيرة وتحقق له كلّ ذلك. ولما وضعت الحرب أوزارها أخذ يعاون الناس في جني محصولهم الزراعي ثمَّ أمر بفتح شوارع جديدة في القرية وتعديل الشوارع الضيقة وإنشاء الساحات ومدّ خطوط الماء والزراعة.

تجمّع الصبية في ضحى أحد الأيام في الشارع المحاذي لبيتنا فأخذتُ أشاركهم في اللعب بالبنانير، وهي اللعبة التي كنت أفضّلها، فصرت تارة أتغلّب على بعضهم فأستولي على بنانيرهم وتارة يأتيني من هو أمهر مني فأخسر له البنور تلو البنور وأناوله إياها دون أن أنبس بكلمة.. وكان الخاسرون يقفون في صفّه مشجعين إيّاه انتقامًا لخسارتهم. ظللنا منهمكين في اللعب حتى جاء العصر وانقطعت حبال أفكارنا حين رأينا جنديين عراقيين يجريان بكل ما أوتيا من عزم يفرّان كما تفرّ الغزلان من القسورة. اتجها نحونا ثمّ انعطفا يساراً واختبآ في أحد البيوت. ما هي إلا لحظات حتى ظهرت سيارة جيب عسكرية وتوقفت قريبًا منّا، ترجّل عبد الكريم وعلى خصريه مسدسان يحمل بيده عصا من الخيزران. وقف على عتبة الباب فدقّه ثلاثًا. خرجت له امرأة فردّ عليها السلام ثمَّ سألها باللهجة العراقية: «آكو جندي عندكم بالبيت؟»

لا يا سيدي..

كنّا نعلم أن الرجل يحجم عن اقتحام المنزل بأية ذريعة.. تقدّم نحونا ووجّه لنا بعض الأسئلة أجبناه بالنفي وكانت حجتنا أننا لم نر ولم نسمع ونحن، كما يرى، منشغلون باللعب، فربّما قد فرّا من طريق آخر. وكنّا نعلم أن مخالفة الأوامر العسكريّة، وكثيرًا ما كنّا نتحدّث عن هذا، قد تؤدّي بهما إلى عقاب شديد. إن تنازل الضابط عن أمر تأكّد من وقوعه لن يثنيه بسهولة..

فاجتمع نفر من المارّة ومن الجيران ممن خرجوا لتوّهم يستطلعون الخبر فأمر أحد الأقارب بالدخول فورًا والبحث عنهما وإحضارهما مقيديْن بالأصفاد.. عشر دقائق مضت فخرج الرجل وقال لاهثًا:

ذرعتُ البيت وتفقدتُ فيه كل زاوية وشبر دون أن أعثر على شيء. وأوّد إعلامك سيدي أن للبيت مخرج من الطرف الآخر قد يكونان قد خرجا لتوهما منه وفرّا هاربين..

كانت هذه الحادثة قد تركت في نفسي أثرًا كبيرًا، لا لأنني صبي ساذج، وليس لأني ابن شقيق كبير القوم، بل لأنها الحادثة الأولى التي اضطررت فيها للتستر على أشخاص خالفوا التعليمات وأنقذتُهم من هلاك محتّم، وهذا من دافع ردّ الجميل لمن جاءوا من بلاد بعيدة للذود عن أرضنا.. ولأن الحادثة كانت قد وقعت أمام ناظري قبل رحيلهم بيومين. فتمنيتُ ليلتئذٍ لو ظلوا بين ظهرانينا ولم يفارقونا، أو ليتهم يأخذوننا معهم لنرى بغداد والموصل وسامراء والبصرة التي تعلمنا عنها في المدرسة.. شعرتُ بفراغ نفسيّ كاد يخنقني وأحسست أن الطالع قد يكون أسوأ لنا ولم يعد للقشة التي كنا نتمسك بها من وجود. سنغرق ولا ندري كيف نغرق ومن ينقذنا. وكأني به يقول لا بدّ لكم من الاعتماد على أنفسكم أيها أنتم أيها الأحرار ولقد خذلكم الخاذلون. فتذكرت قول ابن الرومي:

كأني به كالليث يحمي عرينه
وأشباله لا يزدهيه المجهجُ
يَكرُّ على أعدائه كرَّ ثائرٍ
ويطعنهم سُلْكَى ولا يتخلَّجُ

استقبلناه بالزغاريد والورود مرتين في تموز يوم داست قدماه أرضنا وفي تموز يوم صار رئيسًا للجمهوريّة.. وبكيناه مرتين مرة حين ودّعنا فافتقدناه بعد أن ألفنا صحبته ومرّة حين غادر الدنيا وهو صائم مكبّل اليدين.. ولا زالت حكياته تُروى.. عبد الكريم قاسم....


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى