الجمعة ٢٢ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم صلاح السروي

تأملات فى تجربة الثورة

تبرز الثورات العربية الراهنة ممثلة لظاهرة لافتة ومفاجئة لكثير من المراقبين والدارسين . حيث ظهرت تصريحات عديدة تفيد بأن أحدا لم يكن يتوقع انفجار الأوضاع على هذا النحو الكاسح. وقد ارتكز عدم التوقع هذا على ما ران على الجماهير العربية من استسلام وخضوع وعدم فاعلية طال أمده وامتد عقودا طويلة من الزمن، بفعل عمليات التفريغ والتجهيل السياسى التى مارستها السلطات العربية على مدار العقود الماضية، بغية عزل المواطنين عن قضاياهم المصيرية، والهائهم فى قضايا جانبية وفرعية. وفى الوقت نفسه جرت عمليات واسعة من التعتيم وتزييف الوعى والتجهيل عبر الأجهزة الاعلامية الجبارة والتى أنفق عليها عشرات الملايين. حتى ان أحداثا كبرى جرت فى الواقع السياسى العربى المعاصر ومرت دون استجابة مناسبة من قبل هذه الجماهير. مثل احتلال العراق، الذى يقدر مجموع م خرج من الجماهير للاحتجاج عليه فى كل البلدان العربية بما يقل عن المحتجين فى الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، وهى البلد الذى أرسل بالجيوش المهاجمة !! وكذلك الأمر فى رد الفعل الجماهيرى على الجرائم الصهيونية المتواصلة داخل الأرض الفلسطينية . بل داخل الأقطار العربية المعنية ذاتها .. مثل تزايد الفقر والبطالة، ومشاريع التوريث السياسى للسلطة، والهدر المتواصل للموارد، وتهديد مصالح ومكتسبات القوى العاملة ، فضلا عن الانتهاكات الفادحة لحقوق الانسان وجرائم التعذيب والعنف السلطوى.. الخ.

غير أن مالم يلتفت اليه أحد هنا هو أن هذه العقود الماضية لم تكن خالية من الفعل الاحتجاجى الرافض لممارسات هذه السلطات. (وسوف أقصر حديثى هنا على التجربة المصرية دون غيرها لخبرتى الخاصة بها وتوفر المعلومات عنها وبروز ملامحها). فكانت هناك العديد من الحركات الاحتجاجية، السياسية والفئوية، على حد سواء. مثل حركة كفاية وحركة 9مارس لاستقلال الجامعات، والحملة الشعبية من أجل التغيير، والجمعية الوطنية للتغيير، وحركة 6 ابريل.. الخ. الى جانب حركات الاحتجاج العمالية والمهنية والطلابية المتعددة.

وعلى الرغم من ان هذه الحركات قد بقيت على الدوام: اما حركات نخبوية مقصورة على أعداد محدودة من المثقفين والمهنيين، أو ذات طبيعة فئوية - من حيث التكوين – وجزئية - من حيث المطالب، فكان تأثيرها المباشر ضعيفا وواهنا وغير ذى مردود واضح أو ملموس .. الا أنها كانت ذات أثر تأسيسى وتجهيزى بعيد المدى، أفرخ نتائجه وفعاليته - الى جانب عوامل أخرى بالطبع - فيما شهدناه من ثورات.

ويمكن اجمال ما حققته هذه الحركات من انجازات فيما يلى:

أنها حققت ما يمكن تسميته بحراثة وتحريك الواقع السياسى وابقائه على درجة عالية من التوتر والقابلية للانفجار.
تجهيز المسرح الاحتجاجى، عن طريق خلق حالة من عدم الرضا، واذكاء ثقافة الرفض باعتبارها الاطار والعنوان الأبرز للمرحلة.

تسليح الشباب والأجيال والقوى الثورية الجديدة بالخبرة التنظيمية والتدريب العملي اليومى على مهارات الاحتجاج والثورة، وكذلك تسليحهم بالوعى السياسى والاجتماعى اللازمين لتغذية روحية الفعل النضالى.
نزع المهابة والقدسية عن السلطة الحاكمة وشخص الرئيس التى استمدها من تراث تأليه الحكام الشائع لدينا، وتكريس مفهوم جواز الاحتجاج والخروج عليه، وامكانية تخطيئه وتناوله بالنقد والمحاسبة.
كسر حاجز الخوف ، واكساب الجماهير الجرأة اللازمة والجسارة المطلوبة للممارسة الثورية .. وهو الأمر الذى يؤدى الى تحول نفسى وروحى خاص جدا عند الثوار.

فكانت هذه الحركات بمثابة مدرسة مفتوحة للتدريب على الفعل الثورى. وهو ما أحدث نوعا من التراكم (الكمى) للمفاهيم والمواقف واشكال الوعى والفكر الذى ينتظر تحوله (الكيفى) النوعى فى اللحظة المناسبة. ولقد جاء هذا التحول (الكيفى) عندما بات واضحا أن النظام ، قد فقد كامل كل أرصدته من الاحترام والثقة لدى الكتلة العريضة من المواطنين العاديين غير المسيسين وغير المشغولين بالقضايا الكبرى، والذين جرت تسميتهم ب "الأغلبية الصامتة". حيث يمكن القول بأن جوهر الصراع فى المرحلة الماضية، كلها، كان عبارة عن محاولة الوصول الى وعى ووجدان هذه الكتلة الحرجة، التى يخبرنا تاريخها بأنها اذا خرجت وتحركت فانها خروجها يكون حاسما. من هنا كانت أهمية الكفاح من أجل اقناعها بجدوى وضرورة الحركة والانتفاض والخروج الى الشارع. وبأن النظام الحالى قد أصبح وجوده مرفوضا وغير شرعى وغير محتمل.. وكذلك (وهذا أمر بالغ الأهمية من الناحية السيكولوجية) أن سقوطه ممكن ووارد، ان لم يكن قد بات حتميا وبصرة قاطعة. وتلك كانت النقطة الفاصلة التى أحدثت المعجزة الكبرى، حسب تعبير الكثيرين. فانفجرت الجماهير فى تلك الثورة العارمة، فارضة التغيير كقدر صاعق لاراد له وعلى نحو بالغ الادهاش واثارة للذهول.

وكى تصل الجماهير الى هذه اللحظة كان لابد أن يكون الوضع الاجتماعى – السياسى قد مر بعدة تغيرات وتفاعلات من شأنها احداث هذه النتيجة وتحقيق ذلك الالتحام بين النخب والطلائع والجماهير. وقد جاءت هذه التغيرات والتفاعلات على النحو التالى:

أولا: احتدام التناقض بين قطبى الواقع السياسى فى المجتمع :

فمن ناحية، كانت هناك السلطة الأبوية الاستبدادية المنتمية، بجذورها الى العصور الاقطاعية. المتشبثة بموروث استبدادى وتسلطى عميق الغور فى التاريخ والوجدان السياسى للمجتمع. والتى تنكر كل أشكال التغير والتطور السياسى، الممكنة والحتمية، هذه الأشكال الآخذة فى النمو والتصاعد، والتى تكتنف كل هياكل الواقع الاجتماعى وثقافته السياسية السائدة. سواء أكانت فى المجتمع المحلى أوفى العالم بمجمله، وهما اللذان أصبح اتصالهما وترابطهما وتشابكهما يتزايد ويقوى على نحو مطرد..

ومن ناحية أخرى، كانت هناك القوى المشكلة للواقع الاجتماعى البرجوازى – المدنى الحديث، والتى ران على تكوينها ووعيها ألوان من التطور الذى أحدثته مراحل التحولات الاجتماعية والاقتصادية المتعاقبة والمتراكمة منذ فترات ما قبل الاستقلال، حتى الآن. فلقد نمت البرجوازية المصرية، عبر تاريخ طويل من التحديث والتطوير، بدأ بعصر محمد على، الذى أوجد النويات الأولى لشريحة الموظف المدنى البرجوازى الصغير .. وصولا الى وقتنا الراهن الذى استفاد من كل أشكال التعليم والاحتكاك والتحديث المدنى، بانتاج شرائح بالغة الاتساع من الطلاب والمهنيين والتجار وأصحاب الأعمال ، والتى شكلت الكتلة الرئيسية للوجود المدنى فى المجتمع المصرى.

وعلى الرغم من أن النظام البائد قد أنتج نوعا من الشرائح الرأسمالية الفاسدة والطفيلية المتحالفة معه سياسيا، والتى كانت .. نتيجة لذلك .. صاحبة الحظوة والرعاية والصدارة، منذ زمن أنور السادات، ونالت منه ومن خلفه كل الدعم والمساندة، فتم تسهيل استيلائها على معظم المقدرات الاقتصادية للبلاد، بل وتشكلت الوزارات من رموزها وكبرائها، لتجسد "توأم الفساد" المعروف، والناتج عن زواج المال بالسلطة .. الا أن النشاط السياسى – الاقتصادى الفاسد والمفضوح لهذه الشريحة ، والذى جاء على حساب المصلحة الاجتماعية والدور التاريخى لشرائح الطبقة الوسطى من البرجوازية، التى خسرت الكثير من مواقعها وتردت شرائح عديدة منها الى مستوى خط الفقر والعوز.. قد أدى الى تنامى الاحساس بضرورة ازالة هذا الحلف المشبوه ونظامه السياسى لدى قطاعات واسعة من هذه الطبقة .

ثانيا: بروز أجيال جديدة من الشباب تختلف عن السابقة عليها .. بكونها متحررة من كل الاحباطات السابقة والفشل القديم، ومن كل عقد الخوف والقهر والقمع التى خبرتها الأجيال السابقة عليها واكتوت بنارها.. أجيال لم تمارس العمل السياسى المباشر فى ظل أحكام قانون الطوارىء المطبق منذ ثلاثين عاما .. هى مدة حكم الرئيس المخلوع ، وتجريم العمل السياسى فى الجامعات، والتضييق على عمل الأحزاب وتهميش أدوارها وعمليات التخريب المنهجية لهياكلها وأنشطتها. وهى أجيال لم تخبر التبعات الفادحة للعمل السياسى المعارض فى ظل نظام بوليسى بالغ القسوة. فاحتفظت بطزاجة الحلم لديها وبتلقائية الفعل وبساطة الحركة وعدم تحسبها للنتائج ، فكان وضعها يشبه وضع الطفلة الصغيرة التى صرخت فى قصة توماس أندرسون الشهيرة بأن "الملك عار" بعد أن أحجم الكبار، خوفا وهلعا، عن الافصاح عما رأوه من حقيقة لاتخطئها عين مبصرة.

ولقد توفر لهذا الجيل وعى حديث ساعدت على بنائه ثورة الاتصالات وانتشار الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعى. مما أسس لوجود احساس حاد بمايحدث فى مصر من انتهاكات حقوقية وانسانية وأشكال من التردى والتراجع الاقتصادى والسياسى والثقافى وفقدان للدور والمكانة لصالح قوى ودوائر أخرى كنا سابقين عليها بأحقاب طويلة . كما توفرت له معرفة واسعة بما يحدث فى العالم المتحضر من ألوان من الفن والفكر والثقافة والسياسة والتى لايقابلها ما يتسق معها فى الداخل الوطنى، مما جعل سؤاله مشروعا وحركته منطقية .

وهو ما جعل هذا الجيل قادرا على أن تكون حركته الثورية قوية ومقنعة وباعثة على التعاطف والثقة والأمل. فالتحقت بحركته شرائح المجتمع كافة وهى تشعر بأنها تسير وراء حركة جديدة مخلصة وحقيقية وجسورة.

ثالثا : لقد أدى هذا الى أن تصبح الثورة بلا رأس مفكر ولازعيم مدبر .. فكان عقلها يكمن فى جسدها الحى المتفاعل، وكان وعيها مستمدا من المعاناة الجمعية والحلم العام بضرورة وحتمية الانعتاق والوصول الى فردوس الحرية والعدالة الاجتماعية وعودة الوطن الى ألقه وبهائه المفتقد. وربما كانت هذه هى المرة الأولى فى التاريخ ، التى تتحرك فيها كتل جماهيرية وشعبية واسعة تنتمى الى مختلف أطياف المجتمع، دون أن يكون لديها قيادة واضحة ومعروفة وذات تأثير كاريزمى يمكن أن يمثلها رمز بشرى تلتف حوله الجموع، كأحمد عرابى أو سعد زغلول أو جمال عبدالناصر، وانما يحركها ذلك الحلم العام.

ولا أتصور بالطبع افتقارا كاملا أو مطلقا، لدى هذه الثورة، لقيادة من أى نوع ، فلقد كانت هناك بالضرورة قيادات ميدانية وتنفيذية وتحريضية وتنظيرية، ولكن هذه القيادات تم افرازها فى أتون الفعل وفى خضم الحركة المباشرة .. انها قيادات أفرزها الميدان ولم تفرزها قاعات الاجتماعات ، أفرزتها الجموع ولم تنتخها جماعة أو حزب أو جبهة . وهذه القيادة لم تقم باعطاء التعليمات أو الأوامر بمهمات محددة، أوحسب خطة مرسومة سلفا واستراتيجية موضوعة واضحة المعالم، وانما قامت هذه القيادة بالفعل المباشر .. الفعل المجرد .. الذى التحقت به الجموع، موقنة بأن لحظتها قد حانت، وأن وقتها قد أزف. انه نوع من الفعل الذى يساوى ترجمة بليغة لكل ما يعتمل فى نفوس المصريين من توق وآلام وآمال.

ولقد أدى غياب قيادة مركزية واضحة للثورة الى ارباك خصومها من رجال السلطة، وتوتر واضطراب ردود أفعالهم، فهم لايمكنهم ضرب هذه القيادة أو اعتقالها، أو مساومتها، أو التفاوض معها، وهم لايدركون طبيعة هذا العدو الذى يواجهونه ولا يدركون طريقة تفكيره، فلا يمكنهم التحسب لخطوته القادمة ، ولايجدون له نقطة ضعف يمكنهم أن يشوهوه أو يستميلوه أو يفاوضوه من خلالها. كما أدى غياب هذه القيادة الى نوع من التوحد حول المعنى الذى لايمكن الاختلاف عليه، وربما لو كانت هناك شخصية أو حزب أو جماعة معروفة هى التى تتبوأ القيادة لكان هناك مجال للتنازع والاختلاف حول جدارتها وأحقيتها، والرغبة فى الاستئثار والتصدر دونها من قبل باقى المشاركين فى الثورة.

لقد تجاوزت هذه الثورة كل الأحزاب والجماعات والقوى السياسية التقليدية، لتطرح نموذجا فريدا للثورات التى تصهر الجميع ويعتقد كل فرد أنه قائدها وأنها ثورته هو بالذات. فخرجت على هذا النحو العارم الناجز. وباتت السلطة أمام شعب كامل يمر بلحظة اجماع واصرار وشجاعة ندر أن تتكرر فى التاريخ.

رابعا: لقد كان لسلمية الثورة وشعبيتها الواضحة الى جانب الشجاعة النادرة والبسالة منقطعة النظير، وبخاصة فى أيام المواجهات الأولى فى الثورة، دور هائل فى لجم واحراج قوى القمع والعنف السلطوى فأسقط فى يدها لأنها لم تجد الوسائل المناسبة التى يمكنها بها مواجهة هذا الغضب السلمى الجسور، الذى فوت عليه فرصة اتهامه بالتخريب أوالشغب ، فاستخدم العنف وقوة القمع ليجد أنه لايؤدى الا الى مزيد من الاشتعال والغضب. فكلما سقط شهيد ازداد عدد المتعاطفين مع الثورة والمنضمين الى صفوفها والمنتقدين لأعدائها. ومن هنا كانت سلمية الثورة علامة على انسانيتها، وكان ضعفها، المتمثل فى عدم عنفها أو تسلحها، أحد أهم مصادر قوتها واقناعيتها وقدرتها على كسب التعاطف. وقد لا أجد نظيرا لهذه الثورة فى سلميتها وتحضرها الا الثورة الهندية التى قادها المهاتما غاندى، رغم الفوارق الهائلة بينهما، بالطبع، والتى قد يأتى مجال ذكرها لاحقا.
يتبع


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى