الأحد ٢٤ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم عبد القادر محمد الأحمر

الإنسان آخر البيوت«2»

وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفلا تُبْصِرُونَ "الذاريات/ 21" ..

سكنى البيت غاية سبقت في الذهن بناء البيت، ولكن في الخارج بناء البيت أولاً ثم السكنى ثانياً..

الخليفة

وأخيراً.. ومن عمق تلك اللحظة التي سكت التوقيت عنها وتحاشتها صفحات القدر، ومن عند ذلك الصفر الذي يسبق الواحد، وعقب آخر حقبة من حقب الكائنات أي "الحيوانية" ، هذه الحقبة التي كانت أكثر ظهوراً وإظهاراً للصورة، والتي زادت على سابقاتها أي (الجمادية والنباتية) بمزيد الحس المتطور والحركة الإختيارية، وفق دافع باطني معين، طلباً للنافع، وهرباً من الضار، مع احتفاظها بكل خصائص الحقبتين السابقتين:

◘ جاءت آخر الحقب الحسية والمعنوية وأعقدها تركيباً وأرقاها تكويناً وأجملها صورة..

◘ جاءت حقبة "الحرف" و"الكلمة" و"اللسان" الناطق بهما..

◘ جاء التبيان لكل ما مضى من غموض، وتتابع حقبي وصمت مطبق، وظلامٍ كثيف، وبُكْمٍ وخُرْسٍ وضلال مبين..

◘ جاء "الإنسان" حاملاً لكل هذا الغموض المدسوس، داخل جسده هذا المادي المظلـم المحسوس، في صورة ذات أبعاد عميقة المحتوى والمضمون، ظاهراً وباطناً، كآخر اللوحات الدنيوية الحية، تنسيقاً وإبداعاً، خصوصية ووضوحاً، وكنسخة منقحةٍ، منتقاةٍ بكل عناية لهذا الكتاب الكوني الضخم العريض!! ..

نعم،

◘ جاءت حقبة "الوحي" ، بـ "النور" و "النبي" و "الكتاب"
..
بالتبشير والترغيب، والوعد والوعيد، للمسلم منَّا، وللكافر فينا ..

◘ جاء الإطار الحاوي لكل تلك الصوَّر الماضية، بألوانها، وصورها، وصفاتها، وخصائصها الذاتية، كأعظم وأقوى دليل على وجود الخالق المبدع العظيم، العليم الحكيم، تعريفاً لنا منه على وجوده- سبحانه وتعالى – وإلا.. فالحسرة "الحيوانية" الأبدية!! ..

◘ جاء زمن "النور" في تدرجه التصاعدي نحو تمامه "البدري" !! ..

◘ جاء زمن "الضياء" والمعاني والفرقان لكل الأضداد الماضية، واختلافاتها وتفاضلاتها في الأسماء والصفات والصورة، تلك التي تميزت بها حقب الموجودات سالفة الذكر (الجمادية والنباتية والحيوانية) ، حيث أننا لم نعثر قط خلال كل هذه الحقب على كلمة منطوقة مسموعة، إنما فقط على أصوات وإشارات تحاول التعبير دون جدوى!!

◘ جاء زمن:- (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفلا تُبْصِرُونَ) "الذاريات/21" ..

◘ جاء زمن:- (أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ) "الروم/8" ..

◘ جاء زمن:- (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ.. ) "فصلت/53" ..

◘ جاء معنى "الجنة" ، وجاء معنى "النار" ..

وأنهما لأقرب إلينا من شراك نعلنا- كما يقول نبيُنا الكريم – !! لو كنا نعلم علم اليقين!! ..
وكيف تَمَّ انعكاس هذا "النور" وحده خالصاً بريئاً من الازدواجية من تلك الأولى إلى هذه الثانية، ومن هذه الثانية الدنيا- ممزوجاً - إلى هذه الدنيويات الأُخَّر، ثم إلى تلك الأولى وحده خالصاً بريئاً من الازدواجية مرة أخرى؟!! ..

سبحان الله..

◘ جاء الإنسان وقد ضمَّ كيانه كل ظواهر وبواطن تلك الحقب الماضية، حساً ومعنىً، مأمـوراً– بعد تعليمه - بالقراءة العظمى المتأنية، تأملاً واستقراءً واستنباطاً وربطاً وفهماً، لكل ما كمن خلف خطوطها وأشكالها وخصائصها وشواهدها الكونية من معانٍ، ككتابٍ جامعٍ خطته يد القدرة والإبداع بحروف من نور، وقد زوِّد لكل ذلك ببصيرةٍ لا يحدها زمان ولا مكان، تعينه على مثل هذه القراءة المدهشة الفريدة، مثلما أعان عيناه- في الظاهر- بنور الشمس، فرأى الأشياء بعد أن تعلَّمَ أسماءها وقرأها بيقين الحس اللمسي والنظر المحسوس، وبالتجربة، وليدوِّنها- بعد هذا - بـ "القلم" ، "كلمة"، تاريخيةً تحفظ له إرثه من الضياع وثروة ملأى بالكنوز لمن جاء ويجيء بعده من خليفة، وأحاديثاً تتواترها الأجيال، جيلاً بعد جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قابلة للزيادة والنقصان وللتصحيح والتوضيح والتنقيح!!؟

الاستنباط

■ ففي زمنٍ ما، ووقتٍ فيه ما، سبق في علم الخالق- سبحانه وتعالى – وردفاً لإرادته المطلقة، وبعد أن سارت تلك الحقب الطوال عبر دهورها الطويلة (الجمادية، والنباتية، وآخرها الحيوانية) ونمت إلى هذا المدى الآني المقدر، حيث لم يترتب نتيجة لذلك سوى الفساد في ذروة معانيه في آخرها، وسفك للدماء، ونشرللفوضى، وللوحشية، قال الله- سبحانه وتعالى - لملائكته الكرام – كما جاء في كتابه الكريم الحكيم:-

( .. إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ "خَلِيفَةً" .. ) "البقرة/30" ..

وكانت هذه هي بداية الخيط..

فما كان منهم- بعد علمهم التام بما فعلته "الحرارة" خلال كل تلك الحقب، من "اصطكاك" في أولها "الجمادية" ، و"احتكاك" في ثانيها "النباتية" ، وفوضى، وسفك للدماء، وتمرد، وعدم قدرة على التهذب- كراهة في الحبس - الذي يؤدي تلقائياً إلى بروز صفة "الإحراق" ذات الطيش والسرعة والالتهام، في ثالثها "الحيوانية"- ما كان منهم إلا أن قالوا للخالق الحكيم العليم:- ( .. أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ .. )!؟ "البقرة/30" ..

فأجابهم علاّم الغيوب :-

( .. إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) "البقرة/ 30" ..

الجعل

وهكذا وصل بنا الأمر الاستنباطي إلى أن الأمر كان قد صدر ببناء هذا البيت الإنساني المدهش العجيب- الذي نسكن نحن فيه الآن - من عناصره الثلاثة الأولى: "التراب" و "الماء" و "الهواء" - أي الطين – إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ ص71 .. وقد أحسن الله تصويره وتقديره وتشكيله وأبعاد صورته، بأحكم ما يكون الترتيب والتركيب الإلهيين، ظاهراً وباطناً، وذلك بوضع جميع أجهزته الفعّالة فيه ومدِّها بأنابيبها ودقيق شعيراتها، مما لا يرى- أحياناً - بالعين المجردة، وهي تحمل مواد تفعيلها، ليكون كل ذلك سبباً لإعادة ترميم ما سيتحلل منه طيلة مدة حياة "ساكنه" المؤقتة فيه، ذلك المعنى لمعنى تلك الحياة القصوى في باطنه!! سواءً تمت الاستنارة أم لم تتم!!

التطواف

هذا وقد جاء- في صحيح مسلم - عن أنس- رضيَّ الله عنه - عن الرسول- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لما صَوَّرَ الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو، فلما رآه أجوف، عرف أنه خلق خلقاً لا يتمالك) – أي - كما قال المفسرون - لا يستطيع أن يحبس نفسه عن الشهوات وأنه يفتقر إلى ما يسد به هذه التجاويف، ولا يستطيع- بالتالي - أن يدفع وسواس الدافع إليها عنه!! وهذا الاستنتاج منه – أي من إبليس - يُعزى- بلا شك - إلى رواسب وتراكم تلك الخبرات الطويلة السابقة ، العميقة والمتطورة له في عالم الكائنات السابقة، منذ أن بدأ "كموناً" بلا حركة في ذلك "الحجر" الأصم، وبلا صورة!! البيت الأول!! وما قاد إليه تطوره هذا في نهاية المطاف - أي عند حقبة الحيوان - إلى انتشار الفوضى والفساد والأهم عندنا هنا "سفكه للدماء" !!

فبقى ما شاء الله له أن يبقى على هذه الصورة الطينية إلى أن حانت لحظة التطواف اللطيف جداً من قِبَّلْ هذا الكائن اللامرئي المخلوق من "مارج" النار- الكامن خلف ذلك الاسم - في ذلك الزمن الإلهي البعيد البعيد، مصحوباً بالتساؤل المتنقل أطوارا إضافية، عن غايات هذا الإبداع التجسيدي المحكم، الذي حملته يد المبدع بحق وأيدي الصُنَّاع المهرة- بأمرٍ منه - إلى هذا الواقع من المزج والأخلاط والتركيب والتصوير البنائي المميز والمتفرد، وجاءت بكل هذه اللوازم القياسية الدقيقة، لتصوغ بأمر "النور" الأعظم، وعلى مرأى من إرادته النافذة، ومن التراب، والماء، والهواء، هذا "التمثال" الأجوف الفريد، ذي الخطوط والأبعاد المتناسقة والتوضيحات المُعَلَّمة، وتجعل منه بيتاً راقياً، رائعاً عجيباً، تم إعداده بكل هذه العنايـة والدقة والتجلي، والتأني الأجَّـلِي التام في الإخراج.. وقد تم الفراغ من تركيب نوافذه ومخارجه على هذه الأماكن بالتحديد، وعلى هذه المسافات والارتفاعات الهندسية البديعة الدقيقة التي لا مثيل لها، ليصير مأوىً لا نسبة لغيره عليه تفوقاً كما هو شكل البيت "الأفقي" السابق القائم- "الآن" كأثرٍ معرفي خالد - على قوائمه الأربع، المفتقر إلى إمكانية طواعية اليدين، ومن ثم إلى تحريرهما؟!

إن في الأمر- إذن - لشيء عظيم يراد!!

فإن كنا لا نعلم فلنعلم بأن خاصية الصعود الموجي إلى أعلى هي طليعة الصفات الذاتية الخاصة بهذا الكائن "الناري" ، وأن هذه الطبيعة هي التي كانت تُمَكِّنه- فيما مضى - من إستراق السمع إلى ما كان يدور في عالم الملأ الأعلى، وما كان يترامى إليه- أحياناً - من الحقائق العلوية، يساعده على ذلك تلك "المقاعد" التي كان يقعد عليها في السماء لاستراق مثل هذا النوع من السمع، لِما كان له من سلـطان وتحكم على هذا الكوكب وما فيه من مخلوقات، إلا أن ذلك لم يدم فقد قال الحق عنهم بعد قولهم: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ.. قوله: .. فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً "الجن/ 9" .. فإن تفهمنا هذا فإننا نستطيع أن نستنبط- بالتالي - بأن لهذا الكائن الناري- و"ذريته" - من البنيات المادية ما يجعله قادراً على أن يتخذ أشكالاً مختلفة، وربما كانت هذه البنية، بنية موجية، لأن معظم الآيات التي وُصِفَ بها لا تنطبق إلا على مخلوقات لها مثل هذه البنية!! ..

فقضت الإرادة العليا، وبالأمر الفاعل- وأوامر الله هي أفعاله - إذ أن الأمر كله له - وهو القائل تأكيداً على ذلك: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى..) "الأنفال/17" .. أن يدفع الفضول القاتل وحب الاستطلاع اللامتناهي، بل مزيد العجب والتساؤل الزائد- وهي أيضاً من الصفات المفطورة - هذا "الروح" الطبيعي الحار، المحرق، للولوج إلى داخل هذا البيت المنجدل أمامه لرؤية ما احتوى من إضافات مستحدثة في باطنه، بعد أن رأى وأدرك ثنائية أعضائه الظاهرة من عينين وشفتين ويدين ورجلين، ثم إلى الخروج منه عدة مرات، عبر منافذه- أي مداخله ومخارجه - دون أن يكون مدركاً لفحوى ومضمون وغايات هذا الفعل وهذا الدورالذي يقوم به لحظتها، ومدى تأثيره على هذا الطين الذي أخذ يبدو عليه أثر الرطوبة واليبوسة والجفاف!! قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي.. ليكون دوره هذا هو آخر أدوار العناصر مهمةً وتأثيراً حتى الموت!! ليصير هذا البيت الطيني الذي لحقته الأخلاط مصلصلاً كما الفخار.. وما تم كل هذا إلا من جراء تأثير "حرارته" الفريدة علي هذا الطين، من خلال دخوله هذا وخروجه، عبر فمه ودبره ومناخره، عدة مرات، تاركاً هذا "الأثر" الخالد الذي تمخض عنه- فيما بعد - ما تمخض، وما زال!!

وقد أوصد أمام "أثره" "الباب" تماماً!! ..

■ والطين كما نعلم- وهو للتذكير من أول ضروب اللعب في الطفولة الباكرة، وليس ذلك عبثاً - إنما يتركب من خلط التراب بالماء والهواء، ولكي يصير هذا الطين حمأً مسنونـاً- أي لزجاً أسوداً، متغيراً متماسكاً - لا بد له من زمن يتم فيه مثل هذا التخمير، حتى يحدث له مثل هذا النضج التماسكي اللزج، وتحدث بعد ذلك فترة الصلصلة الفخارية، والتي لحدوثها لابد من عنصر فاعلٍ لها قادرٍعلى التأثير في هذا الطين، ليكون قوله- تعالى - :- (وَلَقَدْ خَلَقْنَا "الإِنسَانَ" مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ26 وَ"الْجَآنَّ" خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ27 ) "الحجر" .. (من قبلُ!! ) .. دليلاً على أن هذا الفاعل المؤثر- السابق في الوجود له من طبيعته المفطورة فيه القدرة- حتى وإن كان لا يدركها - على تحويل هذا الطين المسنون- الذي تم تصويره فعلاً - إلى ما يشبه الفخار، والصورة المعنية هنا هي صورة هذا الإنسان الفرد الواحد، الفريدة والمألوفة والمشاهدة لنا الآن، أي (آدم) وأن كل هذا إنما تمّ على سبيل خط سير "الحكمة" وحب الاستطلاع منه ، من غيرإدراكٍ للاستخدام الفعلي المتوقع حدوثه!! أو ربما يكون لإدراك يعلمه هو طالما أن آخر استخداماته كانت لذلك "البيت" (القرد) الرئيس، أعلى كائنات الحيوان تشبهاً بالإنسان، أملاً في ذلك "التكريم" الذي تناهى إليه فيما مضى!!
ولكن.. !

الروح الناري وأولى النفختين

ومع الاستنباط نمضي ونقول: بأن هذه الطبيعة المؤثرة- سلباً - هي بلا شك "الحرارة" !! أي "المارج" !! "نار السموم" !! ومن ثم ولأجلٍ كان علمه عند الله، أصبح هذا التحول التأثيري الإستراتيجي بمثابـة "أُولى النفختين" من جهة هذا "الروح" الناري في هذا الجسد الطيني- آخر البيوت الدنيوية!! - والله أعلم- !! وليكون لنا هذا ضرباً من قبيل الإلزام للحجة والدليل، لأن مثل هذا الفعل صار لنا ومن خلال صنائعنا المألوفة لدينا وبأيدينا (المَثَل) لما قام به هذا الكائن!!

فأصبح أثراً خالداً "أسيراً" كالذرة الكهربائية السالبة، سارياً في جميع الزوايا والأركان والمغار والمسالك والأزقة والسقف والأرضية، حتى بلغ "الشجرة" ونعني بها "الرئة" فأحياها، والتي لم يكن بها حياة آنئذٍ فكانت علامة الحياة، (التنفس) !!! وقد أنجز دوره كما ينبغي، وكما هو خط سير الحكمة، وعلى أكمل الوجوه وأتمها!! وربما كان الدافع- والله أعلم - من وراء كل هذه المهمة البديعة النادرة هو ما سبق أن تناهى إليه من علمٍ وحقيقةٍ علوية مفادها أن الله– سبحانه وتعالى- سينفخ في هذا البيت من "روحه" تكريماً له، الأمر الذي لم تحظ به جميع البيوت السابقة، إذ أنها لم تحظ إلا به هو وبأمره الفاعل فيها وبنفخته هو هذه "الآنية" وحدها، مما كفل له تلك "الخصائص" المحدودة و"الصفات" المعدودة التي تميزت بها تلك الحقب الماضية من كمون، وغذاء، ونمو، وحركة، وإرادة مقهورة- كأنما هي حالات ذلك الترقي الذي اختطته الحكمة في مسارها، إلى أن جاءت خاصية الإدراك بالحواس كأعلى الخواص التي ظهرت في عالم الحيوان، وتميزها بالتحديد- كما أشرنا - في ذلك "القرد" الرئيس، وما تبع وجود هذا الإدراك من شعور بـ "اللذة" و"الألم" ودوافع البحث عن اللذيذ، وتجنب المؤلـم، وهما الإشعاران المؤشران بالغايتين النهائيتين اللتين وضعتا لهذا الكائن القادم مع لفت النظر!! الشأن الذي لن يكتمل ما لم تكن هنالك القدرة على الحركة، تلك الحركة الاختيارية ذات الطابع الإرادي الحر، وهي بلا شك العتبة التي انطلق منها الإنسان لاحقاً بعد أن عاشها حتى الثمالة- كنتاج طبيعي لهذه النفخة لا غير- ولزمن لم يعرف مداه إلا بالتقريب، هو ذلك الزمن الذي سُمِّي بـ العصر "الحجري" القديم، ذلك العصر الذي عاش فيه هذا الكائن الإنسان حوالي 99٪ من عمره، بينما عاش في العصور الأربعة الباقية الحجري "الأوسط " ، والحجري "الحديث" و"البرونز" و"الحديد" 1٪ فقط كما سنبين لاحقاً!! وحقاً صدق الحق حينما قال:-

(هَلْ أَتَى عَلَى الانسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً) "الإنسان/ 1" ..

لهذا رأينا أن الله ما خلق "الجنة" لهذا الإنسان إلا كغاية سارةٍ عليا، هي عين "اللذة" الدائمة التي يبحث عنها، وما خلق له "النار" إلا كغاية حزينة سفلى هي عين "الألم" الذي يَحْذَره ويحاول تجنبه والهروب منه، وقد مُزِجَ له كل ذلك– لو كنا نعلم - في هذه الدفقة المائية المهينة التي ستتعبه- في مقبل أيامه – ليكون هذا هو لفت النظر الذي أشرنا إليه، بل والمحك الأول والأخير للخلاص من الكبد والضنك والعذاب والعنت!!

وعند هذا الإدراك الغائي وحده توقفت خصائصه المثناة (اليمين، والشمال) ، إلا ما شاء ربه!!
زمن الأنـثى

وجديرٌ بنا أن نذكر هنا- تمهيداً لما سيأتي لاحقاً إن شاء الله - أن ذلك الزمن الذي لم يعرف مداه إلا بالتقريب، هو ذلك الزمن الذي وضحت فيه وتحددت وظائف "الأنثى" الحيوانية - (ذلك الطرف الثاني من "الإنسين" على مرِّ العصور– إنس + إنس = إنسان) - وتعدد مهامها وأفعالها، بل واستعلائها الفطري بتلك الوظائف على ذلك "الزوج" الذَكَر الخامل..

لقد كان هذا هو بحق زمن السيادة "الأنثوية" بلا منازع!! ..

فبمثلما كان انتقال هذا "الروح" الطبيعي عبر تلك البيوت التي مازال يقطنها إلى الآن وحتى نهاية المطاف كـ "ظلمة" ، رأى أن هذا البيت الجديد، الرائع الجميل، والذي عمله الخالق بيديه، وبعد أن ينفخ فيه من "روحه" المنسوب إلى ذاته العلية، سيكون له فيه- بالتالي – واقع "التكريم" الإلهي الأكبر الأعظم المنشود، ذلك التكريم الذي ما زال صداه يرن في ذاته وفضائه وأرجائه، والذي لا يعادله أي تكريم آخر على وجه هذه المملكة مترامية الأطراف، مما سيعني رضا الرب عنه، ومدى حبه له، بل والذي يعني له الغفران، وعودة "الرضوان" ذلك الذي كان!! طالما أنه كان- ولآخر الحقب – هو ذلك الكائن العالي المقرب، المتصرف، الآمر الناهي، والمحرك الغريزي الفعلي- في ظاهر الأمر- لهذين الإنسين، طالما هو فيهما معاً ذلك "الأثر" الخفي الكامن الذي لا يُرى، معطياً بذلك هذا التميز الخاص لهذه الأنثى بتعدد هذه الوظائف، وأن يكون للذكر فقط هذا الدور الغريزي الواحد المحدود المتعلق بهذه الأنثى لا غير، وهو هو- ظلمة الدواخل - في كلا النصفين من البيتين، وبلا خيار!! إنما منطوق الحكمة وخط سيرها!!!

ولكن!! ..

جاء قوله- الخالق الحكيم – بعد أن تمت التسوية:

(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن "رُّوحِي" فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) "الحجر/29" ..

نعم، إن التسوية قد حدثت واكتملت، بعد أن شارك هو فيها بفعله المتقن- أدرك ذلك أم لم يدرك - ليكون تمام فعله الإيجابي هو ظهور أولى علامات الحركة الظاهرية بالتنفس، تلك التي بدت في محاولات النهوض والقيام!! فقد ثبت علمياً اليوم بأنه من الممكن تحويل الطاقة الكهربائية، أي تلك (الطبيعة الموجية) إلى طاقة حركية!!

ونقرر هنا أن هنالك زمناً في اللازمن– إن صح التعبير- لا يعلم مداه سوى الله، كان هو البرزخ الفاصل ما بين القول الإلهي وهذا "الجعل" - والجعل يعني تغير صيرورة الشيء - وأن هذه الأفعال التي مرت بنا قد تخللتها أيضاً مثل هذه الفترات، ولكن.. إنما في الزمن!! فقبل أن يصير الإنسان إلى هذا التمام الخَلْقِي والخُلُقي- أي إلى هذا الكمال الجزئي - لابد من الأخذ في الاعتقاد بأن الخالق– سبحانه وتعالى - قد بذر في تربة هذه "الذاكرة" الإنسانية بذور المعرفة لتلك البدايات الفوقية والتحتية وكذلك تلك اللوازم التي تمَّ بها هذا الخلق؟! وهي التي أشار إليها بقوله في آياته:-

● (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن "تُرَابٍ" ..) "غافر/ 67" ..

وقوله : - ● (وَجَعَلْنَا مِنَ "الْمَاء" كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ..) "الأنبياء/30"..

وقوله : - ● ( إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن "طِينٍ" ) " ص/71 " ..

وقوله : - ● (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن "صَلْصَالٍ" مِّنْ "حَمَإٍ" مَّسْنُونٍ ) "الحجر/26" ..

وقوله : - ● (خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَـ "الْفَخَّار" ..ِ) "الرحمن/14" ..

وبهذا الترتيل المرحلي تترتب لنا هذه البدايات مع لوازمها الحسية المذكورة، وتستوي لنا معانيها وتستقيم، ويدب "الفهم" رويداً رويدا إلى أفئدتنا وعقولنا حتى نبلغ المنتهى- إن شاء الله - من فهم هذه "القصة" العظيمة التي نرى أن من المفترض أن نلم بكل شخوصها وجوانبها وأوقات مناخاتها حتى يسهل علينا بالتالي هذا الفهم وهضمه ومتابعته!! فكل العلم الذي وفره الله لنا ونحن في هذا الكوكب لا تفهم عناوينه وتفاصيله إلا في هذا الكوكب فهو القائل: .. مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ "الأنعام/ 38" .. أي ليس في العالم الآخر تكاليف بالبحث عن العلم وفهمه، إنما هنالك فقط تاكيد ما تحصلناه منه ونحن على سطح هذا الكوكب!! وبقدر المعرفة المتحصلة يكون المقام!!

فهذا الكون- كما يقول السير جيمس جونز في كتابه "عالم الأسرار" -: (.. لا يقبل التفسير المادي في ضوء علم الطبيعة الجديد. وسببه أن التفسير المادي قد أصبح الآن فكرة ذهنية) ويقول: (إذا كان الكون كوناً فكرياً، فلا بد أن خلقه كان عملاً فكرياً أيضاً) . ويقول: – أيضاً-: (لقد كنا نظن قبل ثلاثين عاماً– ونحن ننظر إلى الكون – أننا أمام حقيقة من النوع الميكانيكي.. ولكن توجد اليوم أدلة قوية تضطر علم الطبيعة إلى قبول الحقيقة القائلة بأن نهر العلم ينساب نحو حقيقة غير ميكانيكية. إن الكون أشبه بفكرعظيم منه بماكينة عظيمة. إن "الذهن" لم يدخل إلى هذا العالم المادي كأجنبي عنه. ونحن نصل الآن إلى مكان يجدر بنا فيه استقبال "الذهن" كخالق هذا الكون وحاكمه، إن هذا "الذهن" بلا شك ليس كأذهاننا البشرية، بل هو ذهن خلق الذهن الإنساني من "الذرة المادة" . وهذا كله كان موجوداً في ذلك الذهن الكوني في صورة برنامج مُعَد مسبقاً. إن العلم الجديد يفرض علينا أن نعيد النظر في أفكارنا عن العالم، تلك التي كنا قد أقمناها على عجل. لقد اكتشفنا أن الكون يشهد بوجود قوة منظمة أو مهيمنة. وهذه القوة تشبه أذهاننا إلى حد كبير، وهذا الشبه ليس من ناحية العواطف والأحاسيس، وإنما هو شبه يتعلق بذلك النهج الفكري الذي يمكننا تسميته بالذهن الرياضي) .

الفكر العظيم

■ وكما بدا لنا فإنه من الواضح أن الأمر للملائكة بـ "السجود" لم يكن قد صدر بعد، أي حتى هذه البرهة الإلهية من الوقت، الخاصة بتصوير هذا الجسد الطيني الأجوف، شكلاً بلا مضمون!! لأنهم ما طولبوا به إلا من بعد أن ينفخ الله فيه من "روحه" هو، روحه المنسوب إليه- سبحانه وتعالى – روحه الطيِّب الجميل، تقديساً له وتعظيماً، لأنه من أسراره الكبرى التي لم تُمنح لمخلوق من قبل بتاتاً، هذا الذي لم يجب عنه رسولنا الأمين- حينما سئل عنه - إلا بأنه: (.. مِنْ أَمْرِ رَبِّي) لا لهذا "الروح" الطبيعي الحيواني الغريزي الذي سرى فيه– بدءاً - كالتيار الكهربائي، والذي ما زال يسري فيه حتى هذه اللحظة، والذي نعني به: "الحرارة" !! ولا لهذا "الجسد" الترابي المعتم المتحلل كذلك أيضاً، والذي هو من سلالة هذا الطين.. (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن "سُلالَةٍ" مِّن طِينٍ) "المؤمنون/12" .. أي من صفوة وخلاصة هذه المادة التي خُلِقَ منها أيضاً قبل ذلك ذلك "الحجر" وذلك "الشجر" وذلك "الحيوان" !! نعم، الحجر!! ، لقوله - سبحانه وتعالى- : قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ32 لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ "حِجَارَةً" مِّن طِينٍ 33 "الذاريات 32/33" ..

البشــرية والأنســنة

ومن هنا يتضح لنا الفرق بين ما يُعرف اليوم بـ "البشرية" وبـ "الأنسنة" ، فالبشرية - كما ذكر المختصون - : "وجود فيزيولوجي مادي للإنسان ولغيره من الكائنات، فالقردة كائنات حية، وكذلك الأنعام، ولكننا عندما ندرس "جسم" الإنسان- ككائن حي - فقط، فإننا نقول: "الطب البشري" ، ولا نقول: "الطب الإنساني" ، وعندما نقول: "العلوم الإنسانية" فإننا نقصد علوم اللغات والتاريخ والفلسفة والحقوق والشريعة والسياسة والاقتصاد وعلم النفس والفنون بأنواعها، أي هذه التي تتعلق به ككائن حي ناطق عاقل له سلوك واعٍ .. " .

الأجـــــلان

وفي إشارة إلهية أخرى خاصة بالأجلين، يقول- سبحانه وتعالى- :-

 (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى "أَجَلاً" .. ) "الأنعام/2" ..

وهو بلا شك– كما اعتقدنا - أجل التصوير المادي (الشكلي) لهذا الجسد الذي انتهى به إلى ما انتهى إليه من صورة تامة غير ناقصة، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ "الانفطار/8" أي من قبل أن يسري دبيب ذلك "الروح" الطبيعي فيه!! ..

(.. وَ"أَجَلٌ" مُّسمًّى عِندَهُ) "الأنعام/2" ..

وهو– كما اعتقدنا أيضاً – ذلك الأجل الذي بدأت به حركته الظاهرية بعد سريان دبيب هذا الروح الطبيعي فيه، وإلى حين فنائه!! وقد ذكرنا من قبل بأن "الحرارة" حينما تبلغ أعلى درجاتها تستطيع تحريك الشيء الذي حلت فيه!! وهذا هو ما أثبته "فاراداي" - الصبي الذي كان يعمل في دكانٍ لتجليد الكتب – القائل بأنه من الممكن تحويل الطاقة الكهربائية إلى طاقة حركية!!

تفســير

ولعلنا نجد في الآية الكريمة التالية ما يفسر لنا- كإشارة - بعض ما نحن بصدده - إذ يقول- سبحانه وتعالى - :-
 ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ 6 الَّذِي خَلَقَكَ.. ) ..

أي من العدم المحض،

 ( فَسَوَّاكَ.. ) ..

أي صورك من هذا الطين وهيأ لك هذه الصورة الشكلية الرائعة الخاصة بك أنت وحدك، وقد وضع لك فيها جملة هذه الحواس الأخَّاذة الظاهرة، وتلك الأجهزة الأخرى الحسية الباطنة، وأمدّها بهذا "التيار الكهربائي" لتبدأ عملها، بمثلما أمدّه- من قبل – للجماد دون ظهور أي نوع من أنواع الحركات، ثم للنبات والتي بدأ بها حركته القسرية، ثم للحيوان الذي بدأ به حركته الإرادية الوحيدة، حيث توقف ثلاثتهم عند ما منحوا ولم يتجاوزوا ذلك إلا في فروقاتٍ طفيفة تمثلت كما يقول ابن خلدون في "مقدمته":

(.. آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات، مثل الحشائش وما لا بذر له، وآخر أفق النبات مثل "النخل" و "الكرم" متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف، ولم يوجد لهما إلا قوة "اللمس" فقط!! ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده، واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في التدريج إلى "الإنسان" صاحب الفكر والروِّية، ترتفع إليه من عالم القدرة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك ولم ينته إلى الروِّية والفكر بالفعل، وكان ذلك أول أفق من الإنسان بعده، وهذا غاية مشهودنا) ..

■ (.. فَعَدَلَكَ 7 .. ) ..

أي ميَّـزَكَ في وقت من الأوقات- بعد التسوية وخلال هذا الأجل الثاني - باعتدال القامة وانتصابها، ولم يحدث هذا- على الأرجح - إلا من بعد " ثاني النفختين" ، ومن جهة ذلك "الروح" الطيِّب الآخر العظيم، ليستقيم لك بذلك ظاهرك وباطنك- الأمرالذي يوحي بأنه (ربما) كان قبل هذه النفخة الثانية على شيء من الانحناء البدني- والله أعلم- ولا ندري هل كان يستخدم يداه عند المشي، أم كان يمشي على رجليه الاثنين فقط!؟
والله يقول:- (أَفَمَن يَمْشِي "مُكِبّاً" عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)!!
"الملك/22" ..

 (.. فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ 8 .. ) "الانفطار" .. وهي- بلا شك - هذه الصورة الرابعة والأخيرة المتفردة التي أشرنا إليها، والتي عليها جميع الناس اليوم، والتي ليس فيها من تفاوت ولا من فطور مهما أرجعنا البصر كرة أو كرات عديدة، (.. فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ3 ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسئِأً وَهُوَ حَسِيرٌ4) " الملك" .. وما التركيب- كما أدركنا - إلا الإشارة إلى هذه الأجزاء "الأربعة" الأعلى، والأسفل، واليمين، والشمال، مما يعني أنّ فيه كل ما في الصوَّر السابقة- وآخرها- ذِروةً – صورة ذلك "القرد" الرئيس، من خصائص مشتركة، حتى انتهى إلى صفته التي تفرد بها هو عنه، والتي نعني بها "الفؤاد" - الذي هو (نواة) ثمرة جهاد التزكية- المتدرج "نوراً" وحياداً في أعلى صورةٍ له، بل ربما كان هو ذلك الأثر الآخر العظيم لحقيقة هذا "الروح" النوراني، الذي يقول الله عنه:-

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ7 ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن "سُلالَةٍ" مِّن مَّاء مَّهِينٍ8 ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ و "الأَبْصَار"َ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ9) ؟! "السجدة" ..

وقوله - سبحانه وتعالى- :-

( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَ"الْفُؤَاد" َ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً 36 ) "الإسراء" ..

وفي إشارة لطيفة- ومن خلال كلمتي "الأبصار" "والأفئدة" الواردتين بالجمع في آية سورة "السجدة" المذكورة أعلاه، ثم بالإفراد في آية سورة "الإسراء" المذكورة أعلاه- نجد أنّ الإنسان هو الكائن الوحيد المطالب بإدراك فهم معنى "البصيرة" و"العقل" ، لخلو باطن الحيوان عنهما، ولا عُـذر له على عدم هذا الفهم، ولو ألقى معاذيره!؟! طالما أن هذا "السمع" مقدم دوماً عليهما كمصدرٍلفهمهما وكجالبٍ لمثل هذا النوع من العلم، لأنه من الأمور التي لا يوجبها العقل..

وما عمل العقل في الإنسان إلا للتمييز بين الأضداد والترقي على نورٍ مستمدٍ من "القلب" - أي "الفرقان" - حيث "لطيفة" الرب المهداة له، والتي هي تلك "النواة" المرجو لها النمو والنضج وزيادة الثمرالحلو!!

اتحاد الصفات وأثر الجهات

هذا وقد ذكر العلماء- كما جاء في كتاب "العائلة البشرية" - بأنه ولقياس حجم هذا المخ: " تؤخذ الجمجمة وتُقْـلَبْ، بحيث يصبح ثقبها إلى أعلى، ثم يُصَّبْ فيها أي شيء ناعم من خلال الثقب حتى تمتلئ، ثم تُفَرَّغْ في مخبار مُدَرَّجْ، وبذلك نحصل على رقم يدل على حجم فراغ المخ، وحجم فراغ الرجل الحديث 1450سنتيمتراً مكعباً، وعند المرأة 1300 سنتيمتراً مكعباً، في حين أنه في أرقى القرود حوالي 500 سنتيمتراً مكعباً فقط، وأما الإنسان البدائي فإن حجم مخه يقع في مركز وسط بين مخ القردة، ومخ الإنسان الحالي، على الرغم من أن العلماء يعتبرون أن إنسان "نياندرتال" هو أكثر أجناس الإنسان القديم انتشارًا، وأطولها مكثاً، كما أن المعلومات عنه أكثر وفرة منها عن أي إنسان بدائي آخر، فيما عدا الإنسان الحالي، ويرجع الفضل في ذلك إلى كثرة ما اكتشف من حفريات في جهات كثيرة من العالم، وذكر العلماء أن مخ هذا الإنسان البدائي لم يكن أصغر من مخ الإنسان الحديث بأي حالٍ من الأحوال، بل يظهر أنه كان أكبر، فقد دلت المقاييس على أن رجلاً من هذا الجنس مات في منتصف العمر، وكان حجم مخه 1625 سنتيمتراً مكعباً، وهو رقم

- كما قالوا - لا تصل إليه إلا قلة من الرجال الأوروبيين الحاليين، ولقد كان جُلّ إنسان "نياندرتال" حول هذا الرقم، ولكن ليس كله، وكما أن القالب الذي يعمل لفراغ الجمجمة لا يدل على قوة هذا المخ وقدرته، إلا أن الحضارة "الموستيرية" - وهي نتاج مخ هذا الإنسان - تدل على رُقِّي يتناسب مع البيئة التي كانت سائدة في ذلك العصر الحجري القديم الأوسط، وليس في هذه الحضارة ما يدل على أن ذكاء إنسان "نياندرتال" كان في مرتبة أقل من ذكاء الإنسان الحالي.. نعم، إن الإنسان الحالي، وحيد النشأة، أي أن السلالات البشرية كلها انحدرت من أبٍ واحد، فلا بد من القول أنه كان متحد الصفات في مبدأ الأمر، ثم لما تفرّق في جهات العالم المختلفة- حيث تسود في كل منها بيئة طبيعية خاصة ذات ظروف معينة من تضاريس ومناخ - أخذت كل جماعة تتشكل بحسب ظروف هذه البيئة، وانقسم بذلك النوع البشري الواحد إلى أجناس، لكل جنس صفاته الخاصة0 " ..

وفي كتاب الله ما يشير إلى هذه الحقيقة، حيث يقول- سبحانه وتعالى - :-
( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ213 ) "البقرة" ..

ويقول- جلَّ جلاله -:

(وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ19 ) "يونس" ..

ويقول - عزَّ من قائل - : ( وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ118 إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ .. ) "هود 118/119" ..

ويقول - سبحانه وتعالى - :

(.. لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ48 ) "المائدة " ..

وهذه الأمة الواحدة التي تفرقت بها السبل- على ما يبدو – كانت هي تلك الأمة التي بدأت من آدم وحواء وحتى قيام سيدنا "نوح" برسالته التي دامت ألف سنة إلا خمسين عاماً!! ..
ويقول– سبحانه وتعالى - :-
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ13 ) "الحجرات" ..

المراحل الحضارية

هذا وقد أضاف العلماء: (.. بإن الإنسان في عهد "البليستوسين" قد تطور تطوراً سريعاً، وأن فترة تطوره قد اتفقت مع الأدوار الجليدية لهذا العهد، فربطوا بين الحادثين- تطور الإنسان السريع ووجود الجليد- وأن هذا الثاني هو المؤثر في الأول، ويمكن اتخاذ آثار الإنسان دليلاً على الزمن الذي استغرقه في تطوره، ويقسم العلماء هذه الآثار إلى عدة مراحل حضارية، يمكن اعتبارها مراحل زمنية في نفس الوقت، وهذه المراحل هي: -

1/ العصر الحجري القديم

2/ العصر الحجري الأوسط

3/ العصر الحجري الحديث

4/ عصر البرونز

5/ عصر الحديد

ولقد استغرقت المراحل الأربعة الأخيرة- الحجري الأوسط والحجري الحديث والبرونز والحديد - فترة تتراوح بين العشرة آلاف والخمسة عشر ألفاً من السنين بعد انقضاء الزمن الرابع "البليستوسين" فإذا كان زمن البليستوسين مقداره مليون سنة فمعنى هذا أن الإنسان عاش في العصر الحجري القديم حوالي مليون سنة، أي أنه عاش في هذا العصر حوالي 99٪ من عمره، وعاش في العصور الأربعة الباقية 1٪ فقط ) .. كما أشرنا سابقاً!!

وحقا صدق الحق حينما قال:- (هَلْ أَتَى عَلَى الإنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً1 )
!
فإلى بناء البيت..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى