السبت ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠١١

نجيب محفوظ في ذكراه رجل الثورة الصامتة

محيي الدين ابراهيم

سيداتي آنساتي سادتي رغم كل ما يجرى حولنا فإنني ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية. لا أقول مع الفيلسوف «كانت» إن الخير سينتصر في العالم الآخر. فإنه يحرز نصرا كل يوم. بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير. وأمامنا الدليل الذي لا يجحد. فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية. أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكون الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان: غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره. وقد صدق شاعرنا أبو العلاء عندما قال :إن حـــزنا ســاعـة المـــوت أضعاف سرور ساعة الميلاد.

بهذه الكلمات المعبرة اختتم نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا كلمته على لسان عائشة ابنته لجمهور المحتفلين به من جميع أنحاء العالم ليلة تسلمه جائزة نوبل عام 1988،

في عام 2005 كنا نحتفل بعيد ميلاده وكنت أنا من أحدث الأعضاء الذين يجلسون في صالونه وحيث ربطني بهذا الصالون الاستاذ توفيق حنا أحد أكبر النقاد المصريين في عصرنا والذي قدم لمصر والعرب نوابغ في الثقافة والفن منهم على سبيل المثال لا الحصر أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي وكان يعتبرني في مقام ابنه ويعلم مدى محبتي لنجيب محفوظ صديقه القديم فاستأذنه عام 2004 في حضوري لعمل حوار صحفي فوافق على الحضور ورفض الحوار وصرت ضيفا من يومها على صالوناته للنهاية استمتع بالصمت وبالكلمات لما يدور فيها وسط ثله كبيرة عبقرية من الحرافيش وجميعهم من عمداء الثقافة والفن والأدب في وطننا.

يبتسم نجيب محفوظ وهو يقول للمحيطين به في مركب فرح بوت على نيل القاهرة حكاية حكاها عشرات المرات وما زال يكررها بتواضع شديد: لو كانت جائزة نوبل في حياة طه حسين ما كنت خرجت من بيتي ولا كنت تسلمتها، ثم يتذكر مداعباً ويقول: حين تقدمت في عام 1930م للدراسة في كلية الآداب، اخترت قسم الفلسفة، وكان في ذلك الحين الدكتور طه حسين هو عميد الكلية، كان يستقبل الطلاب الجدد بنفسه، ويتحاور معهم ليتأكد من خلال الحوار هل أحسنوا الاختيار بدخولهم الأقسام التي اختاروها في الكلية أم لا؟ وربما كان دافعه أن يوجههم للقسم المناسب إن كان أيا منهم – من وجهة نظر طه حسين طبعاً – لم يوفق في الاختيار الصحيح، وجاء دوري في الحوار وسألني العميد طه حسين عن سبب اختياري لقسم الفلسفة بكلية الآداب دون غيرها، فأخذت أعبر له عن رأيي في أسباب اختياري لقسم الفلسفة وأهميته و.. و.. و.. ، عندئذ قال لي د. طه حسين مداعبا، إنك حقا تصلح لدخول قسم الفلسفة، فكلامك غير مفهوم.

يضحك نجيب محفوظ ضحكة مجلجلة ما زلت أتذكر رنين وقعها على أذني حتى اليوم وكأنه بهذه الضحكة التي يتميز بها وصارت داله على شخصه يشير للمحيطين به من بقايا الحرافيش القدامى ببدء المشاغبات، ضحكته المشاغبة الساحرة، كانت إذنا بحالة الشغب المثير والرائع بين كل فطاحل الثقافة والأدب والفن الذين يجلسون من حوله، هذا هو نجيب محفوظ ببساطته ومصريته، نموذج صادق لمعدن الإنسان الفطري في مشاعره، نموذج للإنسان المصري الراقي بسمو في وعيه وحكمته وتفكيره.

في العشاء الشعبي الذي كانت تقيمه له دوما مركب فرح بوت ولأصدقائه، فول، بصارة، طحينة، زيتون مخلل، عيش، باذنجان مخلل، طعمية، شوربة عدس، وجميع أنواع السلطات إلى جانب الطورشي البلدي، كان يسعد كاتبنا الكبير بالمحيط الشعبي الذي يحيطه، كنت أنظر إلى عيناه وهما تلمعان أمام هذه الصحون المصرية الشعبية المختلفة، تذكرت عبارة لفؤاد المهندس في احدى مسرحياته فداعبت بها الاستاذ نجيب محفوظ: " هو مافيش مارون جلاسيه ليه يااستاذ نجيب؟ فرد بعنف ساخر جعلني لا اتمالك نفسي من الضحك: " واللهي ي موذج للإنسان المصريرات ومازال يكررها بتواضع شديدتلاقيك عمرك ماشفت البتاع ده، مارون جلاسيه ايه بلاش كلام فارغ .. هو فيه احسن من صحن البصارة اللي قدامك ده!!.

كان لا يأكل بأمر الطبيب، لكنه كان يستمتع بمشاهدة الأطعمة الشعبية المصرية وباستنشاق رائحتها التي شبهها يوماً وكأنها النيل حينما تطالعك صفحة مياهه الحكيمة المقدسة، فيذهب عنك الاكتئاب ولا يقفز في عقلك أثناء اندماجك معه في بورتريه خاص إلا نسائم الإبداع من فضاءاتها الفسيحة الرحبة، هكذا الإحساس حين تخترق رائحة تلك الأكلات الشعبية وجدان نجيب محفوظ فتنتعش أصالته، حتى وإن كان ممنوعاً من تناولها بأمر الطبيب.

قال له أحدهم وهو يداعبه: إذن فهي الشيخوخة يا نجيب بك، وليست حجة الطبيب... فرد كاتبنا الكبير: الشيخوخة تنشد السلامة يا صديقي العزيز وهنا دفعتني كلمته تلك إلى جملة قالها في إحدى رواياته والتي كان يرمي فيها إسقاطات سياسية رفيعة المستوى على ما آل عليه حكم البلاد في ذلك الوقت، صحت بفرح وقلت: "الشباب يبحث عن المغامرة والشيخوخة تنشد السلامة يا استاذنا نجيب"، كنت أعلم أن نجيب محفوظ ثقيل السمع ولكن فوجئ الحاضرون أنه أسبق الناس إلى التعليق بكلمة واحدة: ميرامار وهنا صفق الجميع إذ أدهشهم أنه سمع الجملة وأجاب عليها قبلهم دون أن ينقلها له أحدهم بصوت مرتفع، يسمع كاتبنا إذن ما يريد أن يسمعه وتلك بادرة صحية، وهنا أدار كاتبنا وجهه بجديه شديدة إلى جموع الجالسين من حوله بعد أن انتصبوا بظهورهم قليلا بعيدا عن مائدة الطعام في انتباهه لما سيقوله، ووجدناه يقول: "ما جدوى الندم بعد الثمانين.."، وكأنه بهذه الجملة يرثي حاله وربما يلخص رواية ميرامار بأكملها، وربما يسقط الاستاذ نجيب جملته تلك كنوع من الثورة ضد الواقع السياسي الحالي الذي يحياه الوطن الآن وتحياه مصر ونحياه نحن أيضا، وكنا نعلم رأيه في أن الحاكم إن كان عاقلاً فعليه ترك الحكم في السبعين من عمره، فالأوطان تريد الشباب دوما أن يحكموها.

سألته مشاغباً:
 كما تعلمت فن المشاغبة الجميل من فطاحل الثقافة والفن والأدب المحيطين بنا في الجلسة - وقلت: قرأنا كثيرا أن ميرامار هذه هي التي كان سيعتقلك عبد الناصر بسببها؟ ولكن كاتبنا كانت ملامح وجهه ما زالت عابسة متجهمه وكان وكأنه ينظر إلى أعماقه أو نقطة سوداء لا يحاول أن يتذكرها، كان في تلك اللحظة وكأنه ليس معنا، وهنا ردد عليه الجالس بجواره سؤالي بصوت مرتفع جداً، وهنا ضحك كاتبنا الكبير ضحكته المشاغبة الساحرة فعرفنا أنه عاد لنا من اعماقه ثم قال: ليست ميرامار ولكنها ثرثرة فوق النيل، قرأها المشير عبد الحكيم عامر فقرر اتخاذ شيء ضدي، تصور انها ضد الحكومة والنظام، ولكن الدكتور ثروت عكاشة – ربنا يحميه – جلس مع جمال عبد الناصر ونبهه ان لو اعتقلوني الناس لن تسكت فعادت السيارة من الطريق .. ربنا يحميه ثروت عكاشة.

محيي الدين ابراهيم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى