الأحد ٨ أيار (مايو) ٢٠١١

تأملات في الخطوات الضالة للقصيدة

شريف الشافعي

ميادين متعددة قد ينهض الشاعر للثورة في رحابها، لكن الميدان الذي ينفرد فيه الشاعر بإنجاز ثورته الخاصة هو "ميدان القصيدة"، فبالثورة تنجو القصيدة من الفساد والجمود، مثلما أنها بالحرية تخلص من التبعية والقيود. ثمة التقاء على مثل هذه الأمور التي باتت بديهية، وعلى الرغم من ذلك تبقى الإجابات بعيدة كل البعد عن الانسجام والاتفاق حينما يُطرح السؤال: "كيف يثور الشاعر؟ كيف يحرر قصيدته؟".

أن ينادي الشعر بالحرية أو يهتف باسمها في الميادين شيءٌ، وأن يحقق الحرية بيديه، في ميدانه هو، شيءٌ آخرُ. أن تصفق قصيدةٌ لثورة أو حتى تباركها قبل اندلاعها أمرٌ، وأن تكون القصيدة بذاتها ثورةً مكتملةً أمرٌ آخر.

الشاعر الطامح إلى التفرد يراهن دائمًا على أدواته هو، احترامًا منه لاستقلالية الشعر، وغناه، واستغنائه، وقدرته على أن يفعل، لا أن يكون صدىً صوتيًّا لأفعال. أما الازدواجية بعينها، بل الفكاهة المؤلمة، فهي أن تمجِّدَ قصيدةٌ قيمةَ الحرية، وتغذِّي وقودَ الثورة، في حين تجدها الذائقةُ الفنيّةُ نصًّا مقيَّدًا بتبعيّته لغيره، وآلياته المكرورة.

تطل علينا الحرية بوجوه ومفاهيم كثيرة، ومن ثم تتباين تجلياتها في التجربة الشعرية الحديثة، التي رفعت الحرية شعارًا لها منذ الرواد، حتى آخر أجيال قصيدة النثر. بل إن الشعر الجديد نفسه تسمى باسم "الشعر الحر" في بعض مراحله، واقترن مفهوم الحرية وقتها بفعل فيزيائي هو كسر عمود الخليل، بغض النظر عن العوامل الأخرى.

إن اختزال مفهوم حرية القصيدة في ملمح واحد أو عدة ملامح محدودة يخل كثيرًا بالتحرر الفعلي للقصيدة، فتعليق التحرر على المعارضة السياسية (اللا تصالح!) ورجم الطغاة وإلهاب الجماهير وما نحو ذلك يحول القصيدة إلى مانفستو أو بيان ثوري، وربط التحرر بالانفلات الديني يقود إلى طرح منشورات تجديفية، ومنح دور البطولة للفعل الجنسي الفج يصل بالقصيدة إلى خانة البورنوغرافيا، وقصر التحرر على الانحراف اللغوي والجموح التخييلي يفرغ القصيدة إلا من بروازها الخارجي. إن هذه التصورات كلها، وغيرها، أضرت بشعرية القصيدة الجديدة، رغم أنها ولدت من رحم الدعوة إلى الحرية، والثورة على النمطي والسائد.

الحرية التي تطمح القصيدة الآنية إلى إنجازها، هي ببساطة حرية الوجود والتحقق والتفاعل والاكتفاء الذاتي، أي أن تكون القصيدة هي "فعل التحرر" على كافة المستويات، و"الثورة المكتملة بذاتها"، لا أن تكون بيان الدعوة إلى التحرر والثورية، وأن يحدث هذا التحرر وتلك الثورية في سياق طبيعي حيوي عفويّ، والأهم أن تستقل القصيدة تمامًا بشعريتها، وتمشي على الأرض وتحلق في الفضاء بطاقة أدواتها وجمالياتها الفنية فقط، بدون أن تنفصل بالطبع عن معطيات واقعها، ومستجدات عصرها.

الهوة واسعة جدًّا بين "ثورة الشعر" بفضائها الرحب، وبين "شعر الثورة" بمعناه الضيق، وخطواته الضالة. على الشعر أن يكون في الأساس شعرًا، وأن يتحرر من كل تبعية، ومن كل شيء، إلا الجوهر الشعري الأصيل أو الشعرية الخام النقية بالتأكيد، وهذا لم يحدث للأسف الشديد إلا في حالات نادرة للغاية في تاريخ الذائقة العربية، تلك التي أفرزت، وتفرز، الشعري على أنه تابع دائمًا للبوابات السلطوية، فالمتنبي مثلاً، على عبقريته، هو أنبغ شعراء البلاط (السلطة الرسمية)، ومحمود درويش، على خصوبته الإنسانية وتمكّنه الفني وتجديده، هو شاعر القضية (السلطة الشعبية كما يرى البعض، والسلطة الفلسطينية كما يرى آخرون).

غاية العدالة، الحقيقية والافتراضية، أن يكون المحك الجوهري لامتحان القصيدة الجديدة هو القصيدة نفسها، حيويتها، طزاجتها، فرادتها، قدرتها على تمثل روح عصرها، قابليتها للاستساغة الطبيعية وإشباع الأذهان والحواس بما يُغني ويُمتع في الآن ذاته.

لقد ربط الأغلبية تراجع القصيدة العربية في السنوات الأخيرة بأسباب إجرائية، وزاد الحديث عن الشروط والعوامل الخارجية، التي عرقلت، بل حاربت، تحليق القصيدة في فضاء المشهد، واستردادها مجدها الذهبي الضائع، بل المسلوب منها ومن مبدعها الشاعر المهضوم، المتعرض للتصفية بفعل القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية (المتحالفة ضد الشعر والشعراء!)، وبفعل القوى الثقافية (الفاسدة بشلليتها وضحالتها وتقليديتها وبانحيازها غير المبرر إلى الرواية!)، بل والأغرب بفعل الجمهور ذاته، الذي تواطأ مع هذه القوى، وزهد في الشعر المعبّأ خصيصًا من أجله في قوارير نظيفة فاخرة، مما تستخدم في حفظ إكسير الحياة وفيتاميناتها الموصوفة!

رغم غرابة هذا المنطق، وشذوذه، فإنه ساد المشهد الثقافي لسنوات طويلة، ولم يمتلك أحد، خصوصًا من الشعراء، الشجاعة الكافية ليقول بثقة وبأعلى صوت: الأزمة أزمة قصيدة في الأساس أيها الأصدقاء، وما تتحدثون عنه من "عوامل" انحسار الشعر، وتراجع دوره، يبقى مجرد "عوامل" مساعدة، ولو تم جدلاً عزل القصيدة خارج هذه العوامل، لتحل محل الهواء في الأنوف، ومحل أشعة الشمس في العيون، لبانت الفضيحة عارية، فليس كل ما تتاح له الفرصة ليوضع على المائدة كخبز خالص للبشر يصلح لأن يكون خبزًا خالصًا بالتأكيد.

هذا هو سؤال الحرية الأصعب على الإطلاق، والامتحان الحقيقي الذي تخوضه القصيدة الجديدة الآن، وأظنني واحدًا من كتابها، حيث تطمح إلى استرداد وضعها الطبيعي في هذه الحياة، من خلال شعريتها، وشعريتها فقط، وليس من خلال البوابات السلطوية والنخبوية والوسائط والوسطاء والمنظّرين والمروّجين والمسوّقين، ولا حتى من خلال القضايا المصيرية والجماهيرية والثورات والنبوءات الكبرى، التي تتمسّح بها لتستدر التعاطف والتصفيق.

أرى أن اللحظة مناسبة تمامًا الآن لعودة القصيدة الحقيقية الحيوية، المستقلة، أو ميلادها بصورتها النقية، بل لعلها اللحظة التاريخية الأكثر مثالية منذ سنوات بعيدة، بعد أن انهارت الوسائط التقليدية لتوصيل النص، وانقاد النقاد والوسطاء الانتفاعيون إلى مكان بارد في الذاكرة، معلنين إفلاسهم، وعدم قدرتهم على التمرير والمنع في عصر الرقمية والفضاءات المفتوحة.

ومع ذلك، فإن القادرين على استغلال الفرصة من الشعراء العرب "الموهوبين" يمكن عدهم عدًّا على الأصابع، لأن جوهر الأزمة لا يزال قائمًا، وهو الجوهر الشعري نفسه، المعدن الأصيل في صورته النقية المجردة، وما أندره وسط هذا الفيضان الشعري الزاعق الجارف!

إن المنطلقات والرؤى المغايرة، التي تخص الشعر والكتابة الجديدة عمومًا، تفرض نفسها بقوة، والمعطيات النظرية لكتابة القصيدة تجاهد كي تتفعل أوتوماتيكيًّا بلا صعوبة تكاد تُذكر، فالشاعر الآن بقدر من الذكاء، ولا أقول الموهبة، قادر على استشفاف أنه يعيش في عالم رقمي، وغرفة كونية صغيرة، وأن القضايا المصيرية الملحّة التي تعنيه وتعني غيره من البشر صارت تتعلق في الأساس بوجود الإنسان كإنسان في هذا العالم أكثر من تعلقها بالعارض الزائل من قضايا سياسية واجتماعية وما شابهها.

وليس بخاف أيضًا على الشاعر الحصيف تلمُّس أن الهم الإنساني المشترك هو أطروحة الكتابة المقبولة، وحدها دون سواها، في ظل إلغاء الحواجز والحدود، على المستويات كلها، بين الشعراء بعضهم البعض، وبينهم وبين قرائهم في أي مكان، وبين الإنسان وأخيه الإنسان على وجه العموم.

ويكتمل عقد استراتيجيات القصيدة الجديدة باستنباط الشاعر، الذكي بالضرورة!، أن المجال متاح ليقول ما يشاء، وقتما يشاء، بالطريقة التي يشاء، وأن النشر الإلكتروني عبر الإنترنت، في صفحات موقعه الشخصي أو الاجتماعي أو مدونته أو في المواقع والصحف الإلكترونية ذائعة الصيت، أعفاه من كثير جدًّا من البوابات السلطوية والنخبوية والرقابية التقليدية، ومكنه من النشر بسهولة، بل إنه أحيانًا يمتلك حق تنسيق وتنميق وتثبيت قصيدته بيده في هذه الصحيفة أو ذلك الموقع، والإعلان عنها في الصفحة الرئيسية.

ومنطقي أيضًا أن يختار الشاعر لكتابته الجديدة هذه وعاء لغويًّا حيًّا، سهلاً، حيث إن التواءات المجاز تعوق كثيرًا سيولة "التداول الشعري"، الذي يحلم به.

إنه عصر الفرص المتاحة حقًّا، عصر العدالة الافتراضية المتحققة بقدر مقبول جدًّا، فالعلاقة صارت مباشرة إلى حد كبير بين الشاعر وبين الجمهور في الفضاء الرقمي، وتقلصت مسؤولية مؤسسات الدولة، بل كل المؤسسات. الشاعر الآن لا ينتظر إقرارًا من أحد، ولا توقيعًا على مخطوط ديوانه، كي يكون.

حتى النشر الورقي ذاته، يبدو وقد تأثر كثيرًا بهذه الثورة الرقمية، فلا ينكر أحد أن تسهيلات عظيمة للغاية قدمتها دور النشر الخاصة، في مصر وسورية ولبنان على سبيل المثال، في السنوات الأخيرة للشعراء والأدباء الراغبين في النشر لديها، ولا أظن أن مساهمة مادية غير مبالغ فيها من الأديب في تكلفة نشر كتابه ستقف عائقًا أمام طموحه في الوجود والتحقق، خصوصًا أن الكتابة صناعة في الأساس، وأنه إن حقق كتابه رواجًا تسويقيًّا، فسوف يتنفع هو ماديًّا، بالقدر الذي ينتفع به الناشر. أما سلاسل النشر الحكومية، فإنها، كما في مصر مثلاً، على الرغم من بيروقراطيتها وانحيازاتها النسبية للتقليدي لا تبخل في إعطاء الأصوات الجيدة والجديدة "دورها"، وسط العديد من الأصوات الرديئة التي تأخذ "دورها" أيضًا لإثبات النجاح "الكمي" لهذه السلاسل، التي لا تكاد تعقل أساسًا فكرة "الكيف" أو "التميز النوعي"!

نحن نعيش عصرًا رقميًّا، هذه حقيقة، ولا يمكن أن تغيب تأثيرات وانعكاسات هذه "الرقمية"، كنمط حياة، عما يكتبه الشاعر الحقيقي اليوم، وإلا فإنه يكتب عن عصر آخر، ويعيش حياة أخرى، فوق كوكب آخر! والنشر الإلكتروني للشعر هو أحد، وليس كل، وجوه الاجتياح الرقمي للشاعر. لكن الأهم بالتأكيد من اختيار الشاعر للرقمية كوعاء جديد للنشر، أن يكون ما في الوعاء جديدًا، معبرًا عن معاناة الإنسان في العصر الرقمي الخانق. وهذا يقودني مرة أخرى إلى السؤال المحوري: لماذا لم ينتهز الشعراء هذه الفرصة؟! وماذا تنتظر القصيدة الجديدة كي تصبح خبز المائدة؟!

أدعي أن "حياة الشعر" مرهونة في الأساس بكونه "شعر حياة"، فبقدرة النص الحيوي على النبض الطبيعي والحركة (الحرة)، بدون أجهزة إعاشة وأسطوانات أوكسجين وأطراف صناعية، تُقاس عافيته وخصوبته، ويتحدد عمره الحقيقي، ويمتد عمره الافتراضي خارج المكان والزمان.

بصراحة تامة: الأزمة أزمة إبداع في الأساس، فقبل أن نطالب بأن يعود الشعر خبزًا خالصًا للقراء، ملقين باللوم على القوى القاهرة والشروط والعوامل المساعدة، يجب أن يلغي الشاعر أولاً المسافة بينه وبين نفسه، وبالتالي تذوب المسافة بينه وبين قارئه، وتخترق قصائده كل الحدود، بحريتها وثوريتها، بقوتها الذاتية، لا بأي دعم خارجي.

إن حضور القارئ، بل حلوله، في الماهية الإبداعية الملغزة، هو وضع طبيعي يعكس انفتاح المبدع كإنسان على أخيه الإنسان، ويعكس انفتاح الكتابة الإبداعية الجديدة على العالم الحسي المشترك، والوقائع والعلاقات المتبادلة، وأيضًا على الأحلام والهواجس والافتراضات والفضاء التخيّلي غير المقتصر على فئة نخبوية من البشر دون سواها!

لقد أفسد الوسطاء (الذين لا يمتنعون) كل شيء، حتى صفاء العلاقة بين الشاعر وقارئه، عفوًا بين الشاعر ونفسه، فصار الشاعر يخاطب نفسه عبر وسيط، ويرى الحياة من خلال مناظير وتليسكوبات، مع أنها أقرب إليه من حبل الوريد!

لقد أفسد الوسطاء ليس فقط الرؤية الحرة للعالم، لكن أيضًا "تشكيله" أو "إعادة صياغته" كما يقول البعض، فحلّت الأغذية المعقدة، المليئة بمكسبات الطعم والألوان الإضافية والمواد الحافظة، محل الصحي المستساغ المؤثر البسيط، الأقرب إلى الفطرة والبدائية، وهو الذي يترفع عنه البلاغيون المقولبون وذوو المفاهيم المعلبة، مع أن خبزهم اليومي وحصادهم المعرفي في جوهره من طحين البشر في علاقاتهم وتفاعلاتهم الطبيعية، ومع أنهم ارتضوا بنشر أعمالهم في كتب ومجلات من لحم ودم، يتم عرضها فوق أرفف مكتبات، وعلى أرصفة شوارع مزدحمة تدوسها أقدام البشر العاديين!

ليست هناك مسافة أصلاً بين الشاعر والقارئ، شرط ألا تكون هناك مسافة بين الشاعر ونفسه. إن الشاعر الذي يقول ما لا يطمح أحدٌ أن يقوله أو يسمعه، أو ما لا يصلح أن يردده أحدٌ غيره، هو في الحقيقة لم يقل شيئًا، لأن فعل القول هنا أحادي ناقص، على أن هذا الأمر لا يتنافى مع مسلّمة أن الشاعر الكبير يجب أن يكون مغايرًا متفردًا، وتلك هي المعادلة الصعبة.

إن الاستمتاع الذاتي بالكتابة الحرة، كغاية أولى وأخيرة للشاعر، ووضاءة الاستشفاف النقي، وفردانية التعبير، وخصوبة وعمق التكثيف الشعري لحركة الحياة، والقدرة على بلورتها بذكاء في قطرات مضيئة مدهشة، أو ما يمكن تسميته عمومًا بـ"شعرية الشاعر، وآلياتها"، ليست أبدًا عوازل حرارية ولا أبراجًا عاجية، تفصل روح الشاعر المتقدة عن أرواح أخرى أقل أو أكثر نشاطًا تدور في الفلك نفسه، لكنها كلها تشكل جوهر الشاعر الفذ المتّقد، وطاقته الكبرى التي تمكنه من الالتصاق الحميم أكثر بالأرواح التي هي ملتصقة به أصلاً، فيقول الشاعر بفعل هذه الطاقة المتوهجة (الثورية) ما يتمنى القارئ أن يقوله إذا توفرت له هذه الصلاحيات التعبيرية التفجيرية.

وتظل معجزة الشاعر الحقيقية مقترنة بأنه هو الذي تمكن بالفعل، دون سواه، من قول ما تمنى الكثيرون أن يقولوه، على هذا النحو الطازج المدهش، وأنهم قالوا مقولته، بعد أن قالها، ليعبروا بها عن أنفسهم، ويفهموا أعماقهم وأعماق العالم أكثر. وهذا الأمر لا يتنافى أيضًا مع كون القصيدة النثرية الحديثة نتاج معاناة فرد في الأساس، وتلك معادلة أخرى أكثر صعوبة.

انطلاقًا من هذا، وفي القرية الكونية التي نعيش فيها الآن، وفي فضاء النشر الإلكتروني، وفي ظل امتلاك أغلبية الشعراء مواقع شخصية على شبكة الإنترنت، على الشاعر الحقيقي الموهوب أن يطمح إلى أن يكون صوت نفسه بالضرورة، وصوت صديقه القارئ، صديقه الإنسان، في كل مكان، خصوصًا أن هموم البشر الملحة صارت تتعلق أكثر بمصيرهم المشترك، بوجودهم ذاته، وليس بقضاياهم الإقليمية المتضائلة.

على الشعر أن يتحرر، فلا يكون اهتمامًا، بمعنى الاحتشاد والانشغال والقصدية. الشعر عملية حيوية، عادية جدًّا، لكنها لازمة للوجود، شأن التنفس والهضم. الشعر هو "التمثيل الضوئي" الذي فُطرت عليه روح الشاعر الموهوب، وتمارسه ليل نهار، بكلوروفيلها الخاص جدًّا، ولا تستلزم آلية عملها طاقة الشمس كأوراق النباتات.

الميكانيزم معقد بالتأكيد، هذا أمر مسلّم به، لكنني لا أقف كثيرًا عنده، طالما أن العملية تحدث من تلقاء ذاتها (عملية تحويل طاقة الحياة المتجددة إلى طاقة شعرية ثورية). لستُ أبسّط الأمور أكثر من اللازم، ولا ألغي التخطيط والذهنية ومقومات الاحتراف ولوازم الثقافة والمعرفة التي تنبني عليها أية تجربة شعرية طموح، لكنني أراهن في الأساس على نفاسة المعدن بصورته النقية، على "الشعرية الخام" إذا جاز التعبير، التي يمكن إشراك القراء ببساطة وحميمية في ملامستها وتذوقها.

وعلى الجانب الآخر من أزمة الشعر الراهنة، فقد أغرت "البساطةُ" محدودي الموهبة، فأسالوا الأحبار بجنون، متناسين أن الأقلام يجب أن تُملأ من بئر الشعرية الخام! وكأن المراد بالبساطة والكتابة المتحررة من قيود الشعر التقليدية، التحلل من كل شيء، حتى من شعرية الشعر!

هناك نقاط شعرية قليلة مضيئة لدى بعض الشعراء، في بعض دواوينهم، في بعض قصائدهم، يتعب القارئ حتى يصطادها وسط ركام الطنين والمعارك المفتعلة التي قتلت الشعر. إن الذين يخلصون للشعر فقط، دون سواه، هم من توجد لديهم بعض قطوف أو ثمرات تأنس إليها الروح، توجد لديهم تجربة تسعى بين الحين والحين إلى تحسس تفردها واستقلالها، والنجاة من خيوط التصنيف المجنونة، التي تجمع ببساطة مخلة بين الصالح والطالح في سلة واحدة، تارة باسم "شعراء التفعيلة"، وتارة باسم "شعراء قصيدة النثر"، وأخيرًا بعنوان أطرف "شعراء القصيدة الناقصة!"، وهو الذي ابتدعه عبد المعطي حجازي لينفي به "الكمال الشعري" عن كل من تخلوا عن الإيقاع الخليلي، ولو كانوا بثقل أدونيس والماغوط!

يالها من صناديق مهترئة لتصنيف الشعراء كالقطعان على أسس فيزيائية جامدة! كيف يمكن اعتماد مؤشر وحيد شكلاني هو "غياب الإيقاع" للجمع بين شعراء متفاوتين قدرًا ومتنافرين فنيًا كل التنافر، تحت مسمى "شعراء قصيدة النثر"؟! إنه أمر لا يقبله المنطق، ولا يقره الواقع الشعري نفسه، فبداخل هذا الصندوق شعراء متباينون تمامًا روحًا وتجربة ونبضًا ولغة ورؤية للعالم، بل وبينهم على صفحات الجرائد قضايا ثأرية، وتراشقات بلغت محاولة كل شاعر نفي الآخر!

ولو أضاف البعض إلى غياب الإيقاع بعض السمات المضمونية والجمالية المحددة لشروط كتابة قصيدة النثر، لزادت المشكلة تعقيدًا، إذ سيصير هناك شعراء ناثرون، لكنهم يبقون منبوذين خارج صندوق قصيدة النثر، لحين الاعتراف بهم! والسؤال هنا: مَنْ يعترف بِمَنْ؟ وهل يمكن تشكيل سلطة للتحكم في حركة شعرية نشأت أساسًا للتحرر من فكرة السلطة؟!

إن عافية الشعر الجديد مرهونة بالترفع عن مراجعة هذه الصغائر والمفاهيم البالية التي باتت مضحكة، مرهونة بالقبض الحي والمباشر على جوهر الشعر ذاته، مرهونة ببزوغ شعر رفيع كبير، يحتضنه القراء بوعي وبلا وعي، شعر يتحدث بأبجدية جديدة لها لون وطعم ورائحة العصر، شعر تتصالح فيه الأجيال والتيارات المتناحرة، ويبحر فيه القارئ العادي والمتخصص، فيجد شيئًا من بصمات روحه، ويستشعر نبشًا في أعماقه الإنسانية، ووهجًا في فصوص مخه. شعر يتجاوز التصنيفات المحنطة، والأطر الجامدة، ليفرض هو مذهبيته المرنة على المشهد. شعر ينبني على ما هو فردي خالص، وعلى المشترك الإنساني العميق في قريتنا الكونية، متجاوزًا الطرح العارض الزائل من قضايا سياسية واجتماعية وما إلى ذلك.

إن حضور مثل هذا الشعر الفارق، الحر، الثوري، المخلخل، هو الأمل في أن يعود النقد الجاد إلى الساحة، ليلعب دوره التنويري الكاشف، الهادف إلى إعادة قراءة النص من جوانياته هو، وفق شروطه وإحداثياته هو، وليس في ضوء قوالب وتعميمات جاهزة، تخنق جدة التجربة، وتحاكمها بالقياس إلى تجارب أخرى.

على القصيدة ألا تهدر طاقتها فيما هو غير شعري، فالقصيدة التي تستحق التحية هي التي تتشبث بهويتها كقصيدة، فمكانها ومكانتها بقامة أبجديتها، فقط أبجديتها، وليس بمهارتها في مغازلة السلطة وتملقها، وإن كانت سلطة شعبية. إن التطلعات كلها مشروعة أمام "ثورة الشعر"، لتحلّق القصيدة في فضاء الحرية بأجنحتها وأسلحتها وجمالياتها الخاصة كظاهرة فنية أصيلة، أما "شعر الثورة" فلا يعدو أن يكون أمرًا عارضًا من ظواهر الثورة. هكذا يثور الشاعر في نصه، وهكذا يحرر قصيدته في ميدانها.

شريف الشافعي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى