الاثنين ٩ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم عبد الجبار الحمدي

الصياد والدودة

منذ زمن طويل جاور البحر الذي عاش وحدته، بعد أن ترك الصحب والأهل، لم يكن يدري منذ متى؟! فقد تاه حساب السنين، بين مجريات أيام فقدت الذاكرة، حين تركته يهتز قلقا من الماضي، الذي عاشه في كل يوم، فقبل غروب الشمس يحمل بين يديه صنارة وسلة صغيرة، حيث يلقي بجسده على الصخرة التي يجلس عليها بعد أن اعتادت عليه... وهو كذلك، فقد نقش عليها هواجس كثيرة، وحديث نفس رافقته المنادمة مع أمواج متلاطمة، كثيرا ما لطمت على خدود الصخرة، بعد لطمها على وجه سطح البحر، الذي ماج غاضبا من سُحق أيام عابسة.

أمسك صنارته واخرج الطعم لتعليقه، كانت دودة أرض صغيرة تحاول الفكاك من بين أصابع، تريد غرز سن مدبب ومعقوف بجسمها، مستنجدة بالتواءات أحسها على أصابعه، قربها نحو عينيه ليراها ماذا تفعل؟ خافت وأرادت لملمة نفسها لكنها افترشت أصابعه وغطت في سبات طويل، عاد مترددا!! وَضعها على ذلك السن المدبب، إلا أنها لم تتحرك، قالت الصخرة له: مالك تشعر بالتردد هيا أغرسها ولنرى نصيبك اليوم من بطن البحر، ومن ناحيتي أشعر أن سَعد حظك اليوم كبير، فأنا أشم رائحة السمك الكثير، وأراه يتختل تحت جذري وبين فجوات نفسي، هيا أفعلها وأرمي بصنارتك، كان قد شغله تصرف هذه الدودة، التي لم يلحظ مثلها من قبل، فعادة الدود يلملم نفسه حين يريد هو وضعه على ذلك الرأس المدبب، أما هذه فأراها تفترش نفسها استعدادا لقتل، ترى ماذا تعني بذلك!! هل تريد الموت عن الحياة؟ ومن ذا الذي يكترث لموتها، فهي دودة أرض تداس، وتقتل دون شعور بذنب، تحرك ثم همس لأرى ماذا تفعل؟

وَضَعها قرب الرأس المدبب، فرآها تتسلقه وتلتف حوله استعدادا لقتل بخازوق حديدي، يا لشجاعتها.. فأستطرد وقال لنفسه: هل تكون هذه الدودة أشجع مني؟ تتقدم للموت كونها قد عرفت مصيرها، أنه لامناص ومهرب من قدر محتم، سارعت الصخرة بعد أن خدرت مؤخرته من كثرة وكز، قائلة: ما لك يا هذا! أتقارن نفسك بدودة حقيرة، ألم تتعلم من مجالستي على الصمود، أنظر.. فمنذ سَكَنتني لم أبارح مكاني هذا، رغم سياط الجلد التي أتلقاها ألاف المرات من غضب موج عاتي، كم مرة حاول تكسير كبريائي، حينما سخر جنود موجه بتراشق سهام الى جسدي، الذي تصومع جلمود صخر؟ فلم أبالي فما زلت باقية كما أنا، قوية رغم كل شيء، قال لها: وكأنه يحاورها، هذا لأنك بلا مشاعر او أحاسيس، فأنت لا تشعرين بقيمة الحياة، لأنك ميتة أصلا، أما هذه الدودة فلها من الحياة والغريزة ما يجعلها تعيش لهدف، قهقهت الصخرة وقالت: أي هدف هذا؟ أتعيش لتكون جالسة على خازوق مدبب، يغرس فيها عنوة لكسب غير معلوم، فأنا أراها تخسر الاثنين فهي تموت لتكون طعاما لأسماك غريبة الشكل والألوان، وفي حال التقاط أي سمكة تعود أنت لتأكلها أو تبيعها لتقتات، أو تعتاش على ذلك... وهكذا، فأنت المستفيد لا هي، فنحن نعلم أن الحياة تحتاج إلى صراعات بقاء، ولكني لا أرى صراعا لهذه الدودة، فهي مستسلمة للموت دون أي محاولة هرب، أو ممارسة فن الخداع للبقاء حية،

كان الموج أثناء المحاورة يستمع إلى تلك الهواجس وهو يُصَفق بيديه مرة، ومرة يَصفِق على وجه الصخرة، فقال: وبعد ضجر هيه أنتِ أيتها القوية .. أخبريني ماذا فعلتي لتذمي فعل الآخرين؟ ثم تستهجنين حياتهم، ولمَ لا تحاولي الخلاص من سياط ضربك ليل نهار، دون سماع صراخ، أو حتى محاولة نزوح، أي ذلة تحملين! فكلها مخبئة تحت فقدان أحساس، كونك جامدة دون مشاعر، ها هو رفيقك المتسمر عليك، ألم تسأليه يوما، ما الذي جعله يتلبسك ليصبح مثلك بلا مشاعر أو أحاسيس؟ يرغب الوحدة بعيدا عن حياة، قد تكون الدودة أجلد منه، فبعد أن نزعت من بيئتها عرفت مصيرها، فتراها تقود نفسها إلى هلاك من أجل بقاء الآخرين، أو لم يكن المستفيد هو!! هذا المتسمر، أم أنه يدرك أن التضحية تحتاج إلى شجاعة وصبر، وهذه الصفات يحملها من يمتلكون الإحساس بالحياة، والصراع من أجل البقاء فقط،

بقي هو يستمع لتلك الهواجس بعد أن عصرته أحداث الماضي، وجعلته يتقيأ نفسه قيحا، سحب صنارته، ورفع الدودة من مكانها أرجعها، ثم رمى بالصنارة فارغة دون طُعم إلى بطن البحر، ضحكت عصا الصنارة عليه، شعر بذلك عبر هزهزات وصوت أزيز عتلة، فقال: حتى أنت تضحكين وتستهزئين بي! قالت العصا: لا ولكني قلت لنفسي، كيف لهذا الأحمق أن يصطاد دون طعم؟ وهل السمك من الغباء حيث يرمي بنفسه إلى التهلكة دون ثمن؟ حتى وإن كان بسيطاً مثل دودة أرض، فعادة وأنا أمسك بالخيط والصنارة، أتأمل عبر همهمات صنارة وخيط، تلك الحياة والأنفاس الأخيرة قبل أن تلتهم السمكة الطعم، لتكون هي نفسها جائزة لخدع بشرية، وأشعر أن الخيط والعصا يذرفا ملامة وغم على نفسيهما، ولكن وبعد عدة مرات قلت لهم: إن الأمر لا يعنيكم فما نحن سوى أدوات بيد إنسان، شاء له القدر أن يكون متسلطا على كل شيء، حتى على صنفه من البشر، أترانا غير صناعة إنسان لعالمه؟؟ صنع وعَمّر وبنا فيه كل شيء لبيئة، حَلِم أن تكون هي الجنة، أو حياة في مدينة فاضلة، لكنه صدم بواقع الإنسان الآخر، الذي لا يريد أن يكون هناك سلام أو مدينة فاضلة، رغبة في جبروت وسطوة،

كانت الصنارة تتمايل بداخل موج البحر، تراها الأسماك فارغة فتتحاشاها، لقد علمت طرق وخداع البشر من تعايش أزلي، إلا أن هناك من الأسماك التي لم تخبر الحياة بمعضلاتها، لذا تراها تنبهر بكل ما يلمع أو غريب فيكون الثمن حياتها، أو لنقل أنه الغباء ومسئولية الأسماك الأخرى التي لم تُعَرّفَ الجيل الجديد الحذر والحيطة من براثن خطط ومكائد إنسان، فتكون النتيجة فقدان حرية وحياة، قال: وفي صوت مسموع إن كل ما تقولينه صحيح، إن كل شيء يحتاج إلى تضحية وصبر وشجاعة، وقد ترك تصرف هذه الدودة الأثر في نفسي، وجعلتني أستصغرها كوني إنسانا، كيف سمحت لنفسي ان يقودها الخوف نحو العيش بهاوية الوحدة؟؟ بعيدا عن إمكانية التغيير فيهم، لكني جبنت من سطوة ظلم،

لقد فكرت بنفسي دون التفكير بالآخرين ومصائرهم وهربي من المسئولية، فالأحرى بي أن أقف في وجه الاستحقار والضيم وكشف الحقائق لتأخذ العدالة مجراها، ولتكن محكمة الوطن والتأريخ هي المحلفين والقاضي، علي أن أتصرف بشجاعة لأحي الإنسان بداخلي، فعمر الأيام متآكل لا محالة والعيش في سربلة وحدة مقيت ومميت، لقد كنت في سبات نوم عميق، ولا أدري لما الصحوة الآن وشعوري بقيمة الحياة، أن تصرف هذه الدودة، التي أمسكت مثلها العديد دون الانتباه إلى تضحيتها، ربما علي أن أعيد حساباتي وأجمع أوراقي كلها، لتكون مرآة حقيقية لواقع مرير، وليكن الثمن ما يكون، فالإنسان يستحق أن يكون أكثر من طعم لاصطياد الفرص، في وقت كثر الصنارات بأطعمة ميتة لتكون ثمنا تبلعه الحيتان لقمة سائغة، وعقول فرغت من صحوة فكانت غولا يتقد نارا، يفرغ أحقاده على أرض وبشر نتيجة سلطان وسطوة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى