الخميس ١٢ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم سمير صابر الجندي

سنوات القهر...

جبال من القهر تطبق على صدري تحرمني لذة النوم، سنوات طويلة فاقت سني عمري، هي بعمر أمي وأبي، نسميها نكبة...

محمد طفل لا يتجاوز عمره العشر سنوات، يقف بجانب مسجد الشيخ لؤلؤ وهو على يسار باب العامود في القدس القديمة من الداخل حوله حديقة جميلة، سمي باسم المجاهد المملوكي بدر الدين لؤلؤ الذي بنى هذا المسجد، يستند محمد بجسده الصغير إلى سور المدينة، يحمل على ظهره حقيبته المدرسية، ينظر بعينين تشتعلان غضبا إلى أفواج المستوطنين المتدفقة عبر الباب إلى البلدة القديمة، لفت نظري هذا الطفل ، الذي يحمل مأساته ، جمعت شجاعتي وتوجهت إليه علني أخفف عن صدري بعضاً من القهر...

نظر نحوي نظرة فيها حسرة وقهر وعتاب، كدت أتراجع مهزوماً لولا أنه تدارك بالقول: إنهم يسرقون منا الهواء، فكيف لنا أن نتنفس؟ إنهم يسممون المدينة برائحة الكراهية والعنصرية، إنهم يتطاولون على مشاعرنا وأحاسيسنا، أنا مُنعت اليوم من مدرستي، المستوطنون يسدون الطرق بأعداد كبيرة، يعتدون علينا بالشتم والضرب، والجنود يغلقون الطرق أيضاً، ويفتشون حقائبنا، لم يسمحوا لي بالمرور، أنا قلق لأن مدير المدرسة حذرنا من الغياب المتكرر، قلت له لماذا لا تذهب من طريق آخر؟ سرت معه عبر البلدة القديمة، تسارعت خطانا ونحن نصعد درجات عقبة الجبشة حتى وصلنا إلى عقبة الخانقاة ثم صعدنا باتجاه الباب الجديد ومنه خرجنا إلى طريق "مندل بوم"، هذا الطريق الذي فصل القدس الشرقية عن جسمها الغربي قبل حزيران 1967، نزلنا باتجاه شارع نابلس...

محمد وأنا متعبان، خائفان، مصدومان، قلت له:

لا تخف، تماسك، سوف نصل إلى مدرستك خلال دقائق، زاد خوفي كلما مررت بمجموعة من الجنود بزي مختلف الألوان الكاكي والكحلي والسكني رجال ونساء وكثير منهم يلبسون "الجينز" نعرفهم من قبعاتهم التي خط عليها بالعبرية والإنجليزية "شرطة" أعدادهم كبيرة وقاماتهم طويلة منتقاة بعناية، أشكالهم رهيبة ووجوههم عابسة، تجاوزنا آخر مجموعة منهم عندما وصلنا إلى مدرسة "الشميدت" بعد دقائق قليلة عبرنا من أمام مسجد "سعد وسعيد" أنا لا أعرف من هما سعد وسعيد... بعد ذلك مررنا من أمام القنصلية الأمريكية، المحاطة بعدد كبير من الحرس الخاص، بزيهم الأخضر الغامق، يحمل كل منهم بيده جهاز اتصال بحجم كف اليد، لا يتكلمون مع أحد لكن عيونهم تتنقل مع الخطى وتتحسس كل حركة من حركات الجسد، هم يجيدون عملهم، ولا يتدخل جنود الاحتلال بهم بل يحاول الجنود الابتسام في وجوههم متى تقابلت العيون، لكن الحرس لا يأبهون بتلك الابتسامات، يزرعون الشارع من حول القنصلية جيئة وذهابا دون كلل أو ملل، ثم هناك مبنى جمعية الشبان المسيحية، الذي يقابله "ملعب المطران" الذي تحول بين ليلة وضحاها إلى مرآب للسيارات، هذا الملعب الذي ارتدته كثيرا أيام الجمع عندما كنت أتسلق الجدار الحديدي أنا وأصحابي لكي نشاهد المباريات، لم يتوفر لي أجرة الدخول آنذاك، وكان حراس بوابة الملعب يحاولون الإمساك بنا وإخراجنا من الملعب بعد علقة ساخنة، إلا إننا غالبا ما كنا نختفي بين الجماهير ونفلت بجلدنا، وأحيانا كنا ننتظر انتهاء الشوط الأول لندخل بعد فتح الأبواب، هنا في هذا الملعب جرت مباريات كثيرة بين فرق الموظفين وبلاطة وحطين والخليل وجمعية الشبان المسيحية، هنا كانت الأعراس الرياضية والمهرجانات التي يأتي إليها الناس من كل القرى والمخيمات والمدن، من هنا انطلقت المسيرات والمظاهرات والفعاليات الشعبية، وفجأة... انتهى كل هذا ليبقى المكان فضاءً لحرس القنصلية من جهة ولحرس مكاتب المحكمة المركزية من جهة أخرى...

أعادني محمد من مسرح ذكرياتي عندما سحبني من طرف قميصي قائلاً: انظر... مشيراً نحو باب مدرسته، هناك تقف سيارتا شرطة وجيب لحرس الحدود، وأمام المدرسة أكوام من الحجارة والدواليب المحترقة، لن أدخل المدرسة، أنا خائف من الجنود، لا تخف فهذا أمر روتيني يقوم به الجنود، ادخل مدرستك ولا تعطهم بالاً، اقتنع محمد بكلامي على مضض، لم أدرِ أن نظرته كانت صائبة وأنه كان أكثر حكمة مني، إلا عندما انقض عليه الجنود، قيدوا يديه خلف ظهره واقتادوه إلى سيارة الشرطة الزرقاء، والضابط يصرخ في وجهه: لماذا وضعت الحجارة والإطارات المشتعلة في الطريق؟ أنت "مخرب" وستلقى عقابك على ذلك، لم ينبس محمد ببنت شفة، فقد كان يرتعد خوفاً من هذا الشرير، وُضع في سيارة الشرطة جلس بجانب النافذة وبجانبه جلست مجندة بدا عليها استهجان تصرفات الضابط، فكَّت قيود محمد وربَّتت على كتفه تهدئه، إلا أن الضابط أخرج مسدسه من جرابه ووجهه إلى رأس محمد من خلف زجاج النافذة صارخاً بأعلى صوته الذي يهدر كثورة بركان "فيزوف": تكلم أيها الشقي من قال لك أن تغلق الطريق؟ تكلم وإلا فجرت رأسك، تكلم... بوَّل الطفل على نفسه من شدة الرعب الذي تركه صراخ الضابط في قلبه، ما دفع المجندة بالثورة بوجه الضابط قائلة: " كفى... كفى... أنت غير طبيعي... انظر إليه إنه طفل صغير، ألا تخجل من نفسك؟ إنك وحش كبير"...

قال لها: إنهم جميعهم "مخربون"...

لكنه طفل لم يكن حتى موجوداً في المكان...

ما أدراكِ أنتِ؟

انطلقت السيارة كالسهم تجاه "المسكوبية"، تحمل طفلاً في سن البراءة، والضابط مزهواً بانتصاره العظيم...

توجهت إلى مدير المدرسة وحصلت منه على رقم هاتف والد الطفل، الذي توجه مع أحد المحامين مباشرة إلى معتقل "المسكوبية"، أُطلق سراح الطفل محمد بكفالة وتعهُد من أبيه، لكنه لم يعد إلى المدرسة، ولم يستطع النوم من قسوة الكوابيس الليلية، ذاب الطفل واضمحل جسده الصغير، صار منطوياً على نفسه، لا يجالس أحداً حتى إخوته بسبب تبوله اللاإرادي، لم يترك والده بابا إلا طرقه لإخراجه من أزمته، احتار في أمره سقط من يده، تحولت حياة الأسرة إلى جحيم لا يطاق، تكرر غياب الأب عن عمله، والأم أنحلها البكاء وهدها الحزن وهي ترى ابنها البكر يموت ببطء أمام عينيها...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى