الخميس ١٢ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم صلاح السروي

الثورة المضادة اسمها كاميليا

لقد جاءت أحداث امبابة الأخيرة لتسجل أعنف حدث طائفى فى مصر فى مرحلة ما بعد الثورة، سواء من حيث عدد الضحايا أو المصابين، أو من حيث قيمة الخسائر والتلفيات، ونجم عنها احراق كنيستين وعدد ليس بالقليل من المنازل والمتاجر المملوكة للمسيحيين، وتحدث بعضهم عن الاعتداء على أحد المساجد. وهو ما يجعل هذه الأحداث ممثلة لنقطة انعطاف خطيرة فى منحنى المشكلة الطائفية فى مصر. فهى تنذر بتحويل الأمور من مجرد احتقانات طائفية محدودة الى الانزلاق الى ما هو أسوأ، وهذا بلاشك ما لايتمناه أحد من الوطنيين المخلصين فى داخل مصر والمحبين لها فى خارجها. ولكنه بالطبع سيلاقى هوى واغتباطا كبيرا عند من لايريدون لها الخير، وهؤلاء كثيرون بلا شك، ولهم مصلحة مباشرة فيما حدث ويحدث من أزمات ومشكلات تواجه مصر - الثورة.

فهل جاء هذا الحادث على نحو عفوى وتلقائى؟؟ أم أنه مخطط ويتم تفعيله حسب أهداف محددة؟؟ وهل يمثل رد فعل لما يحدث من بعض التطورات على صعيد تطور أداء حكومة الثورة وتحقيقها لعدد معقول من الانجازات خلال فترة قصيرة؟؟ بما يعنى أنه يمثل نوعا من الثورة المضادة ؟؟

من الضرورى التأكيد على أن كل ثورة ناجحة ومنتصرة لابد وأن تلحق بها ثورة مضادة، فالثورة فعل هدم وبناء .. هدم لنظام قديم ظالم ومستبد وتابع وفاشل، وبناء لنظام جديد عادل ووطنى وديموقراطى ويحقق المصالح الحقيقية للوطن والشريحة الأوسع من الشعب. وهذا التحول ينتج عنه متضررون عديدون، سواء أكانوا من أعوان النظام السابق أوالشرائح والطبقات المستفيدة من وجوده، أو من بعض القوى الدولية والاقليمية التى خسرت «كنزها الاستراتيجى» المتمثل فى رأس النظام السابق، حسب تعبير الرئيس الاسرائيلى شيمون بيريز، أو التى تخشى من انتقال عدوى الثورة المصرية الى بلدانها وشعوبها، وعلى رأسها السعودية وباقى دول الخليج، التى تقوم الآن بتخصيص عدد من القنوات الفضائية وتجنيد جيوش من الأقلام الصحفية لمهاجمة الثورة المصرية، أو القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، التى يهدد نجاح الثورة المصرية بافساد مخططاتها الرامية الى مواصلة الهيمنة على المنطقة. ومن الطبيعى أن تعمل على عرقلة نهوض وتقدم واستقلال أية قوة اقليمية كبرى مجاورة لاسرائيل، كمصر.

ولذلك فانه ليس من المستغرب أن تقوم هذه القوى على تنوعها، منفردة أو متحالفة، بالشروع فى محاولات دؤوبة لافشال هذه الثورة واثارة القلاقل والعراقيل فى طريقها كلما أمكن. بدأت هذه القلاقل بالانسحاب المريب للشرطة من الشوارع والمرافق المصرية، حتى مواقع حراسة الآثار وشرطة المرور .. الخ ولم تعد الى هذه المواقع بكامل قوتها حتى الآن. وهو أمر يطرح تساؤلات عديدة. وفى الوقت نفسه تم اطلاق سراح أعداد هائلة من البلطجية والخارجين عن القانون من السجون ومراكز الاعتقال، على نحو عمدى ومقصود، كما أوضحت التحقيقات (يقدر بعض المراقبين عدد البلطجية بأربعمائة ألف .. نعم أربعمائة ألف) أى أن هناك جيشا من المجرمين العتاة مطلق السراح ويرتع فى المدن والبلدات ويعيث فيها فسادا دون رادع ولاضابط.

اضافة الى تجييش أعداد هائلة ممن يسمون ب(السلفيين) للقيام بأعمال تهييجية لاعلاقة لها بالهم السياسى والاجتماعى الذى طرحته الثورة، مثل هدم الأضرحة والاستيلاء على بعض المساجد من وزارة الأوقاف، والقيام بمظاهرات ذات طابع طائفى ومحاصرة دور العبادة المسيحية من كنائس وأديرة .. وصولا الى احداث نوع من الفتنة الطائفية المتنقلة. التى بدأت باقامة الحد !!! على أحد المسيحيين وقطع أذنه فى مدينة قنا، واحراق كنيسة بقرية "صول"، جنوب الجيزة. وانتهت، عبر عدة حوادث مماثلة ولامجال لحصرها، بأحداث امبابة الراهنة.

يمكن ان نستنتج من ذلك أن خطة الثورة المضادة ترتكز على محورين رئيسيين مترابطين:

الأول: هو العمل على الاستفادة من الفراغ الأمنى الكبير الذى حدث بعد الثورة ومحاولة توسيعه وتضخيمه، عن طريق تعميم احجام بعض قيادات وضباط الشرطة وثيقة الصلة بدوائر النظام السابق، عن القيام بمهامها على الوجه المناسب. بما يخلق وضعا يعجز دونه الجيش والقوى المدنية للثورة من الحفاظ على الأمن والنظام.

الثانى : هو اشاعة أكبر قدر من مظاهر عدم الاستقرار، من توجيه وتحريك أعمال البلطجة وخرق النظام العام (كثير من هؤلاء البلطجية كانوا مرتبطين بدوائر الأمن وجرى استغلالهم فى العديد من المناسبات مثل الانتخابات وفض الاضرابات والاعتصامات، وأخيرا فى أحداث الثورة نفسها، وموقعة الجمل نموذجها الأبرز). والفعل الأخطر من كل ماسبق هو العمل على احداث الوقيعة والفتنة بين المسيحيين والمسلمين. حيث تعد هذه النقطة هى الخاصرة الضعيفة للمجتمع المصرى، رغم الاجماع الوطنى الذى ظهر بجلاء أثناء الثورة. فلقد اقترف النظام السابق واحدة من أبشع جرائمه وأكثرها تخريبا للنسيج الوطنى والاجتماعى المصرى، ألا وهى الاقدام على صناعة ودعم بعض التيارات الدينية، واشاعة نوع من الاستقطاب الدينى فى المجتمع، بما يؤدى الى خلق نوع من الانقسام الطائفى المحكوم، واستثماره سياسيا لتحقيق نوع من الشرعية المختلقة، سواء أمام الداخل أو الخارج. مدعيا أنه يمثل الضمانة الوحيدة لتأمين وضبط العلاقة بين الطرفين – المسلم والمسيحى، ولجم القوى الدينية المتطرفة وضبط حركتها. وقد بدأ ذلك منذ أيام السادات الأولى (أحداث الخانكة 1971، والزاوية الحمراء 1972 وقدم دعمه اللا محدود للجماعات الدينية الأصولية، بهدف مساعدته فى التخلص من قوى اليسار فى الجامعة والحياة العامة. ولكن هذه الجماعات ما لبثت أن قتلته هو نفسه).

من الواضح، اذن، أن كلا المحورين مترابط، على نحو عضوى، مع الآخر، فالفراغ الأمنى يتيح كل الامكانيات اللازمة للممارسات الاجرامية من أى نوع وعلى رأسها الفتنة الطائفية. المطلوب التوسع فيها الى أقصى درجة للوصول بمصر الى الانهيار الكامل، وربما التقسيم على الطريقة العراقية.

ولعله لم يعد من الصعب اكتشاف عدد من الأساليب والخصائص النوعية لهذه الممارسات والاختيار الدقيق للأماكن ذات الطبيعة المعينة التى تجرى فيها هذه الأحداث، وتواتر هذه الأساليب والخصائص وتكرارها بذات الطريقة فى كل مرة، بما يقضى تماما على فكرة المصادفة أو التلقائية، ويرجح فكرة وجود عقل مدبر وراءها. وذلك على النحو التالى:

الفتنة تستفيد من الأزمة الاجتماعية:

ان هذه الأحداث دائما ما تتم فى المناطق العشوائية والفقيرة المكتظة بالسكان أو الريفية، التى يعانى أبناؤها من البطالة والأمية وانعدام الخدمات. وهى ذات المناطق التى تنتشر فيها تجمعات الجماعات الدينية والسلفية. وهو ما يعنى انتشار الجهل والقابلية للانقياد والاحساس الشديد بالتهميش والغبن. وبالتالى الاستعداد لممارسة العنف، فهو أحد مفردات الحياة اليومية هنا. وهذه المناطق غالبا ماتكون: اما مناطق ريفية (قرية "صول" ب"أطفيح"، مثلا)، أو شبه ريفية (مدينة "قنا" مثلا)، أوتعتمد فى تكوينها الديموجرافى على المهاجرين من الريف وبخاصة من مناطق الصعيد. (منطقة المقطم أو حلوان أو امبابة مثلا. ولم نلاحظ حتى الآن قيام أى نوع من الاحتكاك الدينى فى الأحياء الراقية أو فى مدن الدلتا). بما يعنى شيوع قيم تقليدية معينة، تغيب عنها فكرة القانون والحرية والدولة المدنية الحديثة.

الفتنة تغذى الحالة الذكورية:

ان هذه الأحداث دائما ما تتم على أساس فكرة واحدة لاتتغير، وهى أن فتاة مسيحية قد أسلمت وتزوجت من أحد الشبان المسلمين، ثم جاء أهلها واختطفوها وأودعوها احدى الكنائس أو أحد الأديرة (راجع الحكايات المرتبطة بكاميليا شحاتة ووفاء قسطنطين .. وأخيرا عبير بطلة أحداث امبابة الأخيرة)، ومن ثم تتم المطالبة باسترجاعها تحت غطاء الحرية الدينية وحرية الاعتقاد. ولم يتم تسجيل مشكلة واحدة تتعلق برجل واحد ذكر اعتنق أية ديانة أوتم اختطافه .. الخ . والتركيز فى هذه الحالات على الأنثى ينطوى على عدة أمور:

أولا: استنفار مخزون النخوة الذكورية الذى يغذى ويداعب الموروث الشرقى القائم على فكرة تفوق الذكر وجدارته بالأفعال البطولية المتمثلة فى الغيرة على النساء وحمايته لهن، باعتبارهن العنصر الأضعف و الذى يغذى بضعفه احساس الذكر بقوته وتفوقه، ولذلك يراد له أن يبقى ضعيفا على الدوام.

ثانيا: استنفار قيم العرض والشرف. وهى تمثل نوعا من القيم الاجتماعية المستقرة والراسخة بقوة فى المجتمعات الشرقية عموما، حيث يمكن أن تراق من أجلها الدماء وتقطع فى سبيلها الرقاب. خاصة اذا جرى التوحد فى اطار الجامعة الدينية ، فتصبح كل النساء المسلمات نساء هذا الرجل المعين على التحديد.

ثالثا: استلهام واستعادة أجزاء من الماضى البطولى الاسلامى القديم، متمثلة فى قصة المرأة التى صرخت فى مدينة عمورية فى بيزنطة القديمة زمن الخليفة العباسى المعتصم ، عندما أسرها الرومان فصرخت "وامعتصماه" وقامت من أجل تحريرها حرب ضروس انتصرت فيها جيوش المعتصم. ان هذا التاريخ وهذا الماضى هوالذى يتم النظر اليه من قبل الجماعات الدينية على أنه المثال والنموذج الذى ينبغى استعادته أو تقليده وتمثل قيمه.

الفتنة تعبير عن أزمة السلفيين:

لقد عاشت جماعات السلفيين طوال زمن مبارك فى أمن وسلام وتناغم تام مع النظام ، فلم تمارس ضده أى نوع من المعارضة، بل ان السلطة هى التى كانت ترعاهم وتجندهم فى مواجهة خصومها، سواء الدينيين الآخرين وهم الاخوان أو غير الدينيين، أو تجندهم لتنفيذ سياساتها التى أسلفنا القول فيها. فقاد شيوخهم وأعلامهم، خلال أيام الثورة الأولى، أنواعا من الهجوم الدينى الشرس والعنيف ضد الثوار ومارسوا فى المقابل أنواعا من الدفاع المستميت عن النظام وسلطته، فاتهموا الثورة بأبشع الأوصاف، حتى أنهم أخرجوا الثائرين من ملة الاسلام. وهذا ليس أمرا غريبا، فهذا ما كان يتم تجهيزهم من أجله على التحديد. فأفتوا بحرمة الخروج على الحكام، وعدم جواز معارضتهم، باعتبار أن ذلك خروج على الشرع الحنيف. فلما انتصرت الثورة شعر هؤلاء بأنهم قد خسروا رهانهم على السلطة وأصبحوا من المطرودين من جنة الثورة ومن المغضوب عليهم فى النظام الجديد. ورغم أن أحدا لم يقترب منهم بالمحاسبة، الا أنهم شعروا بأن عصرا من التهميش والانزواء قادم لامحالة، ومن ثم حاولوا ايجاد مشروعية جديدة لوجودهم، وذرائع جديدة لتصدرهم المشهد السياسى والدينى على السواء.

ولذلك نلاحظ أن جميع القلاقل والفتن فى مرحلة مابعد الثورة قد قامت بها عناصر من هذا التيار الدينى تحديدا. وقد برز حضورهم بقوة غير مسبوقة فى حوادث هدم أضرحة الأولياء باعتبارها نوعا من الشرك والوثنية، وكأنهم قد اكتشفوا هذا الأمر لتوهم. وفى اعتصامات مدينة قنا، التى جرت اعتراضا على تولية محافظ من أبناء الديانة المسيحية، وكذلك فى محاصرة مقر الكاتدرائية أو الكرازة المرقسية بالعباسية وهذه الحادثة تتم لأول مرة فى تاريخ العلاقة بين المسلمين والمسيحيين فى مصر. ثم هيمن السلفيون على المشهد بالكامل فى أحداث امبابة الأخيرة. فهل أصبح المسيحيون بعد الصوفيين هم الشغل الشاغل للسلفيين ؟؟ ولماذا فى هذا الوقت بالذات ؟؟ أم أن هناك التقاء فى المصالح بينهم وبين دوائر أخرى يهمها تفجير الأوضاع فى مصر ؟؟ ان الاجابة الدقيقة القاطعة على هذا السؤال الأخير هى مهمة جهات التحقيق، لاشك. لكن من حقنا أن نرصد العلاقات والتداخلات التى تصنع الأحداث فى وطننا وتهدد ثورته ووحدته.

الفتنة تعبير عن أزمة الثقافة الوطنية:

يعلمنا التاريخ والعلم ومجمل التجربة الانسانية أن حدوث المرض مرتبط بوجود الميكروب، وفى الوقت نفسه وجود القابلية للمرض داخل الجسم البشرى. وأن ظاهرة الاستعمار تقوم على وجود الطامعين بقدر ما تعنى الضعف والقابلية للاستعمار فى الطرف الآخر. لذلك فاننا اذا سلمنا بأن الفتنة الطائفية هى أحد أسلحة الثورة المضادة، فان هذا يعنى أيضا وجود ألوان من الضعف والوهن فى البناء الفكرى والثقافى، وشيوع ثقافة التعصب والاقصاء والاستبعاد والتطرف الدينى وغياب العقل النقدى وسهولة الانقياد لكل من يلبس قناع الدين، لدى هذه القطاعات المحددة من المجتمع المصرى وهى تلك التى تتمتع بالخصائص والسمات البائسة التى عددناها من قبل. مضافا اليه ضعف الأداء الأمنى فى مصر بعد الثورة على النحو الذى تم ذكره. مما سهل امكانية استغلالها وتحريكها فى الاتجاه الذى يخدم مصالح أعدائهم على التحديد، ويحقق عكس ما يتمنون على طول الخط.

5= المواجهة:

ان هذا يعنى أن أية محاولة لمواجهة مخططات القوى المتربصة بالثورة انما ينبغى أن تتم على مستويين من المعالجة:

الأول: عاجل ووقتى : وهو يقوم على سد الفراغات الأمنية وتفعيل القانون والضرب بعنف على أيدى العابثين والمتلاعبين بالمصلحة الوطنية. واستنفار الارادة الثورية والطاقة الوطنية الجامعة التى مثلت الأداة الفعلية والقوة الساحقة التى وقفت وراء نجاح الثورة. ان روح الثورة وزخمها وقوة الارادة الشعبية الواعية والمستنيرة والعقلانية لقادرة على لجم كل قوى الظلام المتربصة بالبلاد.

الثانى: آجل وبعيد المدى : وهو يقوم على ضرورة البدء فى ثورة ثقافية شاملة تقوم على أسس الدولة المدنية ومفاهيم المواطنة والديموقراطية ودولة القانون وأن مصر لجميع أبنائها من المصريين، نساء ورجالا ومن أى دين كان. الى جانب ضرورة العمل على القضاء على كافة أشكال الفقر والجهل والمرض، والانتصار لثقافة العلم والعقل والتسامح والتعددية. وهذه هى المهام الحقيقية للثورة وقواها النضالية الحية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى