الأحد ١٥ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم مصطفى أدمين

البئر

ما زال نفس الكابوس يُقلق راحتي الليلية ويجعلُني أفيق من نومي مذعورا، فأصرخ:[لا تـُلقيني في البئر!] وكالعادة، تستفيق زوجتي وتذهب إلى المطبخ لتُحضِّر لي منقوع البابونج المحلّى، وتعود لتقول:
 أما زالتْ تلك الحادثة ترعِبُك؟
فأجيبُها:
 ما كان على الفقيه أن يشُدَّ الطفل الذي كنتُه ويُدلّيه في البئر...

الحادثة تعود إلى الستينيات من القرن الماضي لمّا كنتُ طفلا يدرسُ القرآن والفرائض الدينية في أحد الكتاتيب القرآنية بحارة سيدي بنّور بمراكش.
لم أكن (محاضرياً) مشاغبا، بل على العكس؛ كنتُ تلميذا حفّاظاً للكتاب، وعارفاً بأمور العبادات وعمري دون العاشرة. ولكن الفقيه (المعلِّم) كان أعور ويمارس الشعوذة، وأخي المشاغب الحقيقي كان يُحرجه في بعض المواقف. ولهذا قرّر ذات عشية أن يؤدِّبه، فأمر ثلاثة من أبناء الحارة الأقوياء بأن يُعلّقوه، وأعطاني سوطا مضفوراً من أمعاء الثور، وأمرني بجَلْدِه.

أمسكتُ بالسّوط، ونظرتُ إلى أخي الذي كان يبكي ويستعطفني:
 هل ستجلد أخاك يا أخي؟... هل ستُطيع أمْرَ هذا السحّار؟...
وكان أن رأيتُ في عينيّْ الفقيه حمرة جهنّمية، ومن بين أنيابه، زبداً ثعبانياً... وهو يحُثـُني على تنفيذ حُكمِه:
 اضرب العدوّ! انس أنّه أخوك؛ اضرب الشيطان الذي يتجسس على الفقيه!

فجأة، شهرتُ السّوط عاليا، وهويتُ به على مُساعِديِّ (الفقيه)، فأفلتواْ أخي الذي هرب إلى خارج الكُتّاب تاركا حِذاءه، وتاركني للعقاب.
أمسك ذاك (المشعوذ) رجليَّ، وذهب بي إلى بئر في فناء بيته، ودلاّني فيها...

تخيّلواْ الرعبَ الذي يمكن أن يستبدَّ بطفل وهو بين رجل مريض يُحاول الإلقاءَ به في عالم المجهول!
في أثناء صُراخي، سمعتُ (المجرم) يصيح:(آيْ ! آيْ...) ثم ألقى بي جنب البئر وهو يمسك رأسه ويتّقي الحجارة التي كان يقذفه أخي بها.
هربتُ أنا الآخر، ورحتُ أُساند أخي في (حربه) ضدَّ (العدوّ).

في طريقنا إلى البيت، سألتُ أخي:
 ماذا فعلتَ له حتى أقدم على معاقبتك؟... ماذا رأيتَ عندما تسلّلتَ إلى بيته؟
فردَّ:رأيتُه يقبِّل المرأة التي جاءت للتّداوي عنده.
فشرعنا نضحك، وأقسمنا لبعضنا بتشويهِ صورته لدى والدِنا، وإقناعِه ب(تحريرنا) من دروس الكُتّاب خلال العطل الصيفية، وبتعويضنا عنها بالعضوية في المسبح البلدي، وهذا ما كان.

ومع ذلك، ما زال كابوس البئر السحيقة يُطاردني.

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى