الجمعة ٢٠ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم صالح الشاعر

النُّحاة والشُّعراء

كثيرًا ما كنت أسمع الدكتور أحمد كشك يقول: "لم تخدم فئةٌ من العلماء النصَّ الشِّعريَّ بقدر ما خدمه النُّحاة"، فأتساءل عن مدى صحَّة تلك المقولة، وكلَّما زاد بحثي وتعمُّقي، كلما تيقَّنت أنها مقولة لم تصدر عن فراغ، لكنَّها وُزنت بالقسطاس المستقيم.

وقد لخَّص الدكتور كشك العلاقة بين النظام النحوي ولغة الإبداع في عدَّة أمور، منها:

أنَّ النظرية النحوية إبداعية.

أنَّ ما هوجمت به كان من أجل لغة الشِّعر؛ لغةِ الجمال.

أنَّ التعبير عن العربية بأنها لغةٌ موسيقية مَرَدُّهُ أن الشِّعر هو الأصل والأساس.

أنَّ في ربط النظام النَّحْويِّ بالشِّعر إظهارًا للحق البَيْنِيِّ في الدرس اللُّغَوِيِّ؛ حيث يتعانق النحو مع الصَّرْفِ مع الدَّلالة مع الإيقاع.

أنَّ التصوُّر الحضاري للغة: لا يتم إلا من خلال رؤيتها في حركة الإبداع.

أنَّ المرجو أن يثْرَى التعليمُ بالنصِّ المبدِعَ إذا أردنا أن نَمْلِكَ أمر النظام النَّحْوِيِّ ونستمتِعَ به.
وقد أردت في هذا المقال أن أُلقي نظرة فاحصة على موقف يمثِّل بداية تعامل النحاة مع الشِّعر ولغته الإبداعية، وهو الموقف الصادر عن أحد النحاة الأوائل، عبد الله بن أبي إسحاق [ت 117هـ]؛ إذ لا شكَّ أنَّ أصل العلاقة بين النحو والشِّعر بدأت من هناك.

ولابن أبي إسحاق وضعٌ خاص بين النحاة، فبالإضافة إلى أنه كان من الرعيل الأول، قبل سيبويه والخليل، يُلاحَظ أنَّه كان يحاول أن يحكِّم القاعدة في النصِّ، معبِّرًا بذلك عن تضييق يفرضه على الإبداع.

ولا شك أن الجملة الَّتي قالها عنه الزبيدي : "وهو أول من بعج النحو، ومدَّ القياس، وشرح العلل، وكان مائلاً إلى القياس في النحو" تشي بشيءٍ من التَّحكُّم، والتَّصلُّب، وأنه لم يكن يملك من المرونة العقلية ما يجعله يتعاطى مع النصِّ في وسط الإبداع الذي تملؤه الحرية.
حتى إنَّه بسبب هذا الجمود وشدة الميل إلى القياس قد أخفق في القراءة، ولم يؤخذ عنه كثيرٌ مِمَّا قرأ به.

وأزعم أنَّ ميله إلى القياس قد غطَّى على نظرته إلى جوازيَّة اللغة، وامتداد قواعد النص الإبداعي خارج دائرة قواعد النص النفعي، فلذلك لم يع حرية الحركة في النص وكونه حمَّال أوجه، يخدمه النظام اللغوي ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وهذا القدر من ضيق النظرة إلى النص قد عابه عليه الفرزدق، الذي أنشأ:

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلا مُسحتًا أو مجلَّفُ

فمن الواضح أنَّ جهة النظر منفكة، بين ذلك الشاعر المفلِّق المبدع وهذا النحوي القياسي المتحكَِّم، ولا شيء يجمع بينهما، فكان متوقًّعًا أن يحدث ذلك الصِّدام، بين سؤال ابن أبي إسحاق: "علام رفعت (مجلف)؟" وجواب الفرزدق الصادر كالجلمد على لسان لا يعرف أكثر من الصدام والهجاء: "على ما يسوؤك وينوؤك، علينا أن نقول، وعليكم أن تتأولوا!".

وهذه قاعدة سبق إليها الفرزدق قبل أن يتكلَّم أحد في النص ونحوه؛ حيث جعل الأمر شركة بين الشعراء منشئي النصوص من جهة، والناظرين في النصوص نقدًا وتفسيرًا وتأويلا، "عليكم أن تتأولوا"، وما أعظمها من كلمة، حيث رام أن يجعل النحاة دائمًا في خدمة النص، بل أن يجعلهم في شقاء وهم يلهثون دائمًا خلف تأويله، خوفًا من تخطئته، وفرَقًا من أن يجرحوا بنيته الجمالية بمعيارية صلبة، وهاهم وجدو للفظ (مُسحَتًا) ستَّة أوجه واسعة من التأويل، لا تلك التخطئة المتحكَّمة.

ولا شكَّ أنَّ كلمة الفرزدق قد حملت قدرًا من المكر وهو يقول: "قلت ذلك ليشقى به النحويون"، وأحسب الرجل قد أفلح فيما أراد!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى