الخميس ٢ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم محمد زكريا توفيق

نحو دستور مصري جديد بدون صبحي صالح

شاهدت بالأمس مناظرة بين الأستاذ صبحي صالح العضو البارز في الإخوان المسلمين والدكتور خالد منتصر الإعلامي المشهور في برنامج السيدة منى الشاذلي "العاشرة مساء".

المناظرة كانت عن فكر الإخوان بصفة عامة والتصريحات المريبة الأخيرة للأستاذ صبحي، عن وجوب زواج الإخواني بالإخوانية، وحتمية الدولة الإسلامية، وتكفير العلمانيين والليبراليين، أمثال الإمام محمد عبده، وطه حسين، وأحمد لطفي السيد، والشيخ على عبد الرازق، إلخ.

الحلقة تاريخية أرجو أن يرجع إليها السادة القراء حتى يعرفوا إلى أين تأخذنا المقادير بدون رحمة أو هوادة في هذه الأيام الفارقة.

لم تفاجئني فكرة وجوب زواج الإخواني من الإخوانية، حفظا للنوع من الإنقراض، وتأكيدا للمزايا الأخلاقية والدينية العشرة التي اكتسبها كلاهما عن طريق الوعظ والإرشاد، وانتقالها عن طريق الوراثة إلى الأبناء.

بذلك نخلق نوعا جديدا من الإخوان (سوبرخان) عن طريق الوراثة، أفضل بالتأكيد من الجنس الموجود حاليا "الهوموسبيان". لكي يسود الأمة وتنتشر معه الفضيلة عبر القارات والفيافي والقفار إلى بقية أنحاء العالم.

فات الأستاذ صبحي، وهو قانوني ضليع لكن للأسف ليس عالم وراثة بالضرورة، إن الصفات المكتسبة لا تورث. حامل الشهادات والأجازات العلمية لا يأتي نسله متعلمين مؤهلين، وبطل كمال الأجسام لا يورث عضلاته المفتولة، والكهل أبو عكاز لا تأتي أطفاله كهول بعكاكيز، وعنتر ذو الوجه المجروح لا تأتي أبناؤه بعلامات مميزة في وجوههم.

لكن الذي أحزنني وأقلق مضجعي، هو علمي بأن الأستاذ صبحي كان أحد أعضاء لجنة تعديل الدستور الخمسة المكلفة من قبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، برئاسة الإسلامي المعروف المستشار طارق البشري.

فمن الذي رشحه كعضو في هذه اللجنة، بدلا من الفقيه الدستوري الدكتور إبراهيم درويش مثلا؟ وكيف نأتمنه وهو بمثل هذه العقلية على بنود دستور تحدد مصيرنا؟

بالطبع، وأكاد أجزم، أن الأستاذ صبحي بنظريته الجديدة في الوراثة لن يجد صعوبة في التسلل إلى اللجنة التى ستقوم بوضع الدستور الدائم، وربما يكون رئيسها. الدستور الذي سوف يشكل مستقبلنا ومستقبل أولادنا لعشرات بل مئات السنين القادمة.

مادمنا قد تطرقنا إلى اللجان والمفكرين الذين يضعون الدساتير، وطالما أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة لا يستمع إلا لنفسه، فليس أمامنا إلا التوسل والاستجداء. وهما حيلتيّ الضعيف المغلوب على أمره في مواجهة القوة والسلطة المطلقة.

إذا كانت جمعة الغضب الثانية لم تجد أي آذان صاغية، فليس أمامنا سوى التحدث عن اللجان والمفكرين الذين وضعوا دساتير الغير. الدستور الفرنسي والدستور الأمريكي على سبيل المثال.

لعلنا نغار، أو عسى أن نتعلم منهم شيئا، يفيدنا ونحن نضع مسودة دستورنا الدائم. فما علينا سوى المقارنة بين أفكار الأستاذ صبحي وأفكار واضعوا دساتير الغير حتى نصاب بالقهر واليأس والكمد. الاكتئاب لا يأتي للشعوب من فراغ.

كوندورسيه:
كان كوندورسيه عالم رياضيات وإحصاء وفيلسوف وسياسي فرنسي. يتبنى قضايا حقوق الإنسان وخصوصا المرأة والعبيد والسود.

كان يؤيد نظام الحكم الجديد فى الولايات المتحدة. ويشارك بإقتراحاته السياسية والإقتصادية فى الإصلاح المنشود فى فرنسا. وكان من الرعيل الأول فى الحملة التى شنت على تجارة الرقيق عام 1781م.

عندما قامت الثورة الفرنسية، كان كوندورسيه فى طليعة المؤيدين لها. فى عام 1790م، أختير للمجلس البلدي، ثم أنتخب عضوا فى الجمعية التشريعية التى حكمت فرنسا من أكتوبر 1791م إلى ديسمبر 1792م، وأصبح فى مدة قصيرة رئيسا لها.

وضع بوصفه رئيسا للجنة التعليم، تقريرا يوضح خطة قومية للتعليم الإبتدائي والثانوي العام. وعندما وطد نابليون سلطته، جعل تقرير كوندورسيه أساسا للتعليم الجديد فى فرنسا.

يؤيد كوندورسيه بحماس الديموقراطية، ويعمل جاهدا على تطبيقها ونشرها. لم يمل كتابة المنشورات التى تطالب بالإصلاح وتعديل الدستور. وكان أحد المنادين بإلغاء الملكية وإقامة الجمهورية فى فرنسا.

كان كوندورسيه، هو و"توماس بين"، أبرز الشخصيات فى اللجنة الثمانية المكلفة بصياغة مسودة الدستور الفرنسي عام 1793م.

وكان، مثل فولتير، يشجب العصور الوسطى ويناهض سيطرة رجال الدين على الفكر الأوروبي. ويتهمهم بتخدير الناس والتغرير بهم.

مع أنه كان يؤمن بالله، إلا أنه كان يرى أن تقدم المعرفة يقوض من سلطة رجال الدين، وينشر الديموقراطية ويرتقي بالأخلاق.

الخطيئة والجريمة سببهما الجهل فقط لاغير. أمل الإنسان فى الخلاص يأتي عن طريق التعليم الجيد وحرية الفكر والتعبير، واستقلال الشعوب، والمساواة أمام القانون، وإعادة توزيع الثروة.

تنبأ كوندورسيه بأهمية سلطة الصحافة واستقلالها كرادع وضابط لطغيان الحكومة. كان يؤمن بدور التأمين والمعاشات الإجتماعية فى بناء دولة الرفاهية. ويطالب بتحرير المرأة وحقوقها السياسية. ويؤمن بالتقدم العلمي والطبي.

كان يشجع انتشار النظم الإتحادية بين الدول. وتحرير الشعوب، وتحويل الاستعمار إلى معونات أجنبية تقدم للدول الفقيرة.

تومس بين:
تنبه "توماس بين"، قبل واشنجطون وجيفرسون، بوجوب الاستقلال عن إنجلترا. أصبح المتحدث الرسمي باسم الولايات الأمريكية، بعد إصدارة كتيب "الفطرة السليمة – Commom Sense""، الذى ساهم مساهمة كبيرة بدوره فى الاستقلال عن بريطانيا.

قال مارلو الكاتب السياسي الكبير: "يرجع الفضل في الاستقلال الأمريكي إلى قلم "توماس بين"، وسيف جورج واشنجطون".

كان توماس يطلب ويلح من جيفرسون أن تتضمن وثيقة الاستقلال، بندا ينص على إلغاء الرق. إلا أن هذا البند لم يمكن إضافته، بسبب معارضة ولايتي جورجيا وجنوب كارولينا.

جاء فى كتاب "حقوق الإنسان ل"توماس بين"، إن الإنسان يولد وله حقوق طبيعية. لكن هذه الحقوق قد سلبت منه عن طريق السلطة الحاكمة والسلطة الدينية.

الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية قامتا لإرجاع هذه الحقوق لأصحابها. السلطة الدينية وتعاليمها الصارمة وتقفيلة المخ، هى العدو الحقيقي للحرية.

التهم التى توجهها السلطة الدينية إلى الناس، ليست خصائص موجودة فى الأديان، إنما هي قوانين وفتاوي وتعاليم صارمة، أضيفت لكي تجعل رجال الدين تتحكم فى مصائر الناس بالقوة.

خذ من الأديان تشريعاتها القاسية الرادعة هذه، وأنت تحول كل دين إلى دين سلام وتقدم.

الضرايب يجب أن تكون تصاعدية وفقا للدخل. هذا هو العدل. نقابات العمال لازمة للدفاع عن العمال وحفظ حقوقهم.

التعليم يجب أن يكون مجاني وإجباري لكل أفراد الشعب(كالماء والهواء كما يقول المرحوم طه حسين). المعاشات لكل كبار السن. العمل يجب أن يتوفر لكل الأيدي القادرة على العمل.

هذه هى حقوق الإنسان الطبيعية. الدساتير والمؤسسات يجب أن تتغير وفقا للظروف. الدساتير والقوانين، يجب أن تكون ديناميكية تلائم طبيعة المجتمع والعصر الذى نعيشه.

كل عصر وكل جيل، يجب أن يكون حرا لكي يقرر ما يصلح له. الظروف تتغير، والأوضاع الدولية تتغير والمجتمع يتغير، والأفراد تتغير.

الآباء المؤسسون للدستور الأمريكي:
واضعوا الدستور الأمريكي يسمون "الآباء المؤسسين". تم اختيارهم بعناية من بين المفكرين والمبدعين لكي يصوغوا مسودة الدستور الأمريكي.

عددهم 55 عضوا. 39 منهم سبق أن كانوا أعضاء في الكونجرس الأمريكي. ثمانية عملوا كمحافظين. ثمانية آخرون قاموا بالتوقيع على وثيقة الاستقلال .

نصفهم كان من الثوار، اشتركوا في حرب التحرير. أصغرهم دايتون عمره 26 سنة عن ولاية نيوجرسي. أكبرهم فرانكلين، 81 سنة، كان يأتي إلى المؤتمر محمولا بأربعة مساجين.

جاء واضعوا الدستور الأمريكي كلهم بهدف وضع مخطط تفصيلي (رسم هندسي)، لإنشاء حكومة وطنية جديدة، قوية غير مستبدة، تسعد رعاياها، وتشركهم في الحكم، وتحقق لهم الحرية والأمن والسعادة والمساواة.

كانوا يتناقشون ويجادلون ويعارضون، لكن كانت عيونهم وقلوبهم مع مصلحة بلادهم ومستقبلها.

يقول موريس ممثل بنسلفانيا:

جئت هنا لكي أمثل الجنس البشري كله. أرجوا من الإخوة الرفاق أن يعلوا، لكي يتخطوا اللحظة الراهنة، فوق حدود الزمان والمكان الضيقة، ويسموا إلى رحاب أعظم وأوسع.

هذا ما فعلوه بالضبط خلال أربعة شهور. جاءت جهودهم المخلصة ب 4440 كلمة، لتُعّرف العقد الاجتماعي المسمى بالدستور الأمريكي.

هل لنا أيضا أن نتخطى حدود الزمان والمكان الضيقة إلى رحاب أعظم وأوسع، لكي نضع دستورا عظيما جليلا يليق بمصرنا العظيمة؟

هل يمكن لواضعي الدستور المصري الجديد أن يعلوا على أنفسهم لكي يمثلوا الجنس البشري كله (الهوموسبيان)، أو على الأقل الشعب المصري كله بجميع نحله وطوائفه وعقائده المختلفة؟

أم سوف يقعوا أسرى للتعصب وضيق الأفق والغباء، ويصرون أن يمثلوا فقط جنس (السوبرخان) الجديد، الذي ينادي به فقيهنا المتمكن صبحي صالح؟ هذا ما سوف تجيب عليه الأيام القادمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى