الاثنين ٦ حزيران (يونيو) ٢٠١١

اسْتِشْرَافُ مُسْتَقْبَلِ التَّعْلِيم والتربيَّة

في ضَوْءِ السُّنَّة النبويَّة

بقلم: محمد إِفِرْخَاس

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيِّنا المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن تبِعهم فوفَى ووفَّى. أمَّا بعد: ففي ظِلِّ الثَّوْرات العلميَّة السِّتّ، وفي خِضَمِّ التَّغيُّرات والتَّحدِّيات العالمية، التي فَرضَت نفسها على الأفراد والجماعات، والدول والمؤسَّسات، والمدارس والجامعات... آنَ الأوَان أن نُوجِد استراتيجياتٍ واضحة،ً هادِفَةً سريعةً، تستشرِف وتخطط للمستقبل، وتُواجِه الأزمات المفاجئَة، وتُوَاكِب التَّطَوُّرات العالَميةَ الناجحة، وتُسَطِّرُ الرُّؤَى المستقبليَّة للأجيال الواعدَة، وتُنمِّي المهارات والإبداعات بالمناهج الثاقبة، وتُعَرِّفُ المُثقَّفين بالأساليب العلميَّة، والمفاهيم الأساسيَّة.

واستشراف المستقبل ليس تَكهُّنا، ولا اسْتِرَاقاً للسَّمع، ولا تجاوزاً للحقائق الكونية والسُّنَن الإلهية...
فالشريعة الغرَّاء، تدعونا للنَّظر في الماضي لنستلهِم منه، والتَّأمُّلِ في الحاضر لننطَلِقَ منه، والتَّبصُّرِ في المستقبل لنستشرفه، ممَّا يَجعلنا نُؤَكِّد حقيقة تَأَثُّرِ المستقبلِ الإسلاميِّ وتأْثِيرِه.

ولقد وجَّهَنا القرآن الكريم إلى الاهتمام بالدراسات المستقبليَّة، والتَّحَدِّيات المُتَوَقَّعَة، في إِطار النظَريَّات العلميَّةِ الرَّصينةِ، والمناهج المعرفيَّةِ المتينةِ، وألاَّ نَرْكَنَ إلى تنبُّؤَات الكهنَة الوهميَّة، أو تخيُّلات العرَّافين الخُرافيَّة، أو تخمينات المتواكلين الظنيَّة، ولا إلى سفسطات المتفلسفين العشوائيّة!

وهذا جَلِيٌّ في قصة الرؤيا التي رآها عزيز مصر، وفسَّرها يوسف عليه السلام، تفسيرا تضمَّن التخطيط لخمس عشْرَة سنة مُقبِلة، حيث وَضَعَ خِطَّةً للعمل الدَّؤُوب، ليستمرَّ الإنتاج، مع خَزْنِ غِلال السنابل كاملة، وعدم الإسراف في استهلاكها، ليُعاد استثمار تلك المدَّخَرات في السنوات العِجَاف، فيكون بذلك قد استشفَّ واستشرفَ الحلول المستقبلية، من خلال التَّخطيط لثلاثة أهداف: المنتَجَات، والمستَهْلَكَات، والمُدَّخَرات.

وأشار القرآن الكريم إلى هذه الخطط والسِّياسات، في آيات جامعات مانعات، ابتَدَأَتْ بقوله تعالى: ﴿وقال الملِك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف...﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون﴾(1).

وهكذا وَاجَهَ يوسف الأزمة الغِذَائيَّة، بتخطيطٍ لمشروع الاقتصاد الزِّراعيّ، سَعَى من خِلاله إلى التنميَّة والتَّطوُّر وحسن التَّدبير، وإنقاذِ حياة الشعب المصريّ.

ولقد أَكَّدت السنة النبويّة هذا المفهوم، فَدَعَتْ إلى صياغة علم دراسات المستقبل futurology والتخطيط الاستراتيجي، فعالجت المشاكل والصعوبات التي تعتري الفرد والجماعة، ووضعت القرارات العظمى لتحسين الأداء في المجالات المتنوِّعة، وطَوَّرتْ الخطط الرئيسة لتنطلق القيادات البارعة، وبرهنَتْ لنا على أنَّ الاستشراف هو طلب الارتقاء إلى الشُّرْفَة العالية الشامخة، لاكتشاف مستقبلِ ومآلات الأَحداث، ليتسنّى التَّخطيط لها، لرفع مستوى الرُّقيِّ والتَّقدُّم، والنُّمُوِّ المتواصل.

وإنْ تعجب فعجب أن يتجرَّأ بعض ضعاف التفكير على تبديع المستشرفين صوب المستقبل، والمُعِدِّين العُدَّة له، والمُتَبَصِّرين لعَالَم الغد...تاركين المستقبل للأقدار والطبيعة، ومستدلِّين بقول القائل:

ما مضى فات والمُؤَمَّلُ غَيْبٌ
ولكَ الساعة التي أنتَ فيها

وما آيات التَّفَكُّر في الكون والمخلوقات، وأحاديثُ الفِتَن، وعلاماتُ الساعة، إلاَّ دلائل وبراهين تدعو المسلمين قاطبة لرؤْية المستقبل والإعداد له، وبَذْلِ الجهد في الاحتياط، والتَّبصُّرِ بما هو مدفون بين أيَّامه من مفاجآت وتوقُّعات...

والحَقُّ أنّ استشراف المستقبل من السُّنة النبويَّة، ليس مجرَّد فرضيات أو مفاهيم تَقبلُ الأَخذ والرَّدَّ، أو الخطأَ والصواب، بل هي مواقف وأحاديث سيد المرسلين، الذي ﴿لا ينطق عن الهوى، إنْ هو إلاّ وحي يوحى﴾، والذي علَّمَه ربُّه، فقال عَزَّ مِنْ قائل: ﴿وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما﴾.
فَكَمْ من الدماء حُقِنَتْ، وكم من الانتصارات حُقِّقت، وكم من الغايات أُدْركت، وكم من المجتمعات تطوَّرت وتقدَّمت، وكم من الأزمات والنَّكبات نُبِذت، وكم من التدابير الوقائية نَفَعت، وكم من العِلَل والأجسام أُبرئَت...بفضل الاستشراف والتخطيط المستقبليِّ، بعد فضل الله تعالى.

والحَقُّ أن المُرَبِّينَ والمُعَلِّمِينَ في أَمَسِّ الحاجة لاستنطاق الأحاديث النبوية، واستخراج العبر والعظات منها، واكتشاف الصور المشْرِقَةِ من المستقبليَّة الإسلامية، مع حَلِّ معادلة العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، في بوتقة التربية والتعليم، اللَّذَيْنِ أصبحَتْ أساليبهما – في عالمنا العربي والإسلامي – بحاجة إلى مراجعة دقيقة، حيث وَجَدَتْ الأُسَرُ نفسها في مأزق مع أبنائها، في كيفية تربيتهم وتعليمهم.

فالتَّخطيط التربويُّ الصحيح، يُبَلْوِرُ لنا منظومةً تعليميَّة، بصِيَغِ الإِبداع وعناصر النُّبوغ، ويَنقُلُ المربِّين والمعلِّمين من دائرة التَّبعيَّة الإِمَّعيَّة، إلى دائرة القيادة الإنتاجيَّة.

فَهُمْ بحاجة –أيضا- إلى رصد أحاديثَ ومواقف – في التربية والتعليم – من السنة النبوية، ودراسة العلاقة بين المعلم والمتعلم، ومراحل التدرج في العلاقة التربوية، لتحديد الهدف والغاية، ووضع أسس التخطيط والتنظيم، وتكوين مشاعر المحبة والألفة واللطف، وأدب السؤال ولغة الحوار والتشاور، والاستعداد للصبر والتحمُّل في طلب العلم، والتأكيد على القيم والأخلاق النبيلة، التي تسهم في بناء علاقة تربوية ناجحة بين العالم والمتعلم، وتَبِيينِ مدى استشراف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم للمستقبل، ووضعه للخطط الاستراتيجية والتنظيمات المستقبلية، لرفع راية التربية والتعليم.

والحاصل أن المنهج الذي سارت عليه السنة النبوية، يَدلُّ على وجود تخطيط تعليمي تربوي متميز، يَدفعُ المربين والمعلمين إلى تطبيق إرشادات ونصائح المربي الأعظم، والمعلم الأمثل، محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يحثنا على التحليل العميق لمشكلات الإنسان والمدَنِيَّة والحضارة والتقدُّم والتَّخَلُّف، فينطلق المسلم بالروح الإسلامية العالمية العظيمة، ليفكر بعمق وجِدِّية في قضايا وأزمات أمته الإسلامية خاصة، وفي معضلات ونكبات البشرية عامة.

جعلنا الله ممن يستشرفون المستقبل في قراءة السنة النبوية برويَّة وتفهُّم، وحُسْن الاقتباس والتدبُّر...لإِدْراك وتشَوُّفِ ما يَلزَمُ أن يَكون، بعد تَوَقُّعِ ما سيكون، بَعِيدِين كُلَّ البُعد عن الرؤية القدَرِيَّة التي لا يتحكَّم فيها إلاَّ علاَّم الغيوب. وهو القائل سبحانه: ﴿إِنَّا كلَّ شيء خلقناه بقَدَر﴾(1).

والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين.

في ضَوْءِ السُّنَّة النبويَّة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى