الأحد ١٢ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم محمد زكريا توفيق

كيف نكون حكومة جديدة عصرية

نفترض أنك في لحظة تاريخية من عمر الشعوب، قد أوكل إليك القدر، مهمة تصميم حكومة عصرية. فماذا تفعل وكيف تبدأ؟ هل تبدأ بقائد له كاريزما كبيرة، وتترك له العنان لكي يستعين بما يحب ويحكم كما يريد؟ أم أنك تبدأ بوضع بعض القيود والشروط الواجب الالتزام بها، آملا أن تأتي بالمطلوب؟

في عام 1787م، شعر الأمريكيون بأنهم يحتاجون إلى حكومة جديدة. فقاموا باختيار مجموعة من القادة والمفكرين (55)، لوضع تصميم جديد لبناء حكومة عصرية (دستور).

المكان الذي عقدت فيه هذه المجموعة أول إجتماعاتها، كان مدينة فيلاديلفيا بولاية بنسلفانيا. الآن يطلق على هذا الاجتماع التاريخي "مؤتمر فيلاديلفيا الدستوري".

بدأ المؤتمر بالموافقة على عدة أفكار معينة. أولا: المؤتمر يريد حكومة قوية. إذا لم تكن الحكومة قوية، فإنها لن تستطيع أن تحافظ على وحدة البلاد.

في نفس الوقت، لا يريد المؤتمر أن تكون الحكومة قوية جدا. لأن قوة الحكومة الزائدة عن الحد، تحد من حرية الناس. هناك علاقة عكسية بين قوة الحكومة والحرية المسموح بها للناس.

كيف استطاع المؤتمر أن يحل هذه المشكلة؟ بالرجوع إلى دروس التاريخ. التاريخ ملئ بالأفكار والعبر لمن يعتبر، ومن يريد إيجاد حلولا مبتكرة، بدون أن يكرر نفس الأخطاء السابقة.

ثانيا: المؤتمر يريد أن تشارك الناس في الحكومة. المؤتمر يريد حكومة شعبية. حكومة تمثل الشعب. لكن المؤتمر يعلم علم اليقين أن الحكومة الشعبية ليست حكومة جيدة بصفة عامة. لأن عامة الشعب غالبا ما تكون عاطفية وغير عقلانية، مترددة سريعة التقلب. وهذا يضعف الدولة.

ثالثا: رأى المؤتمر أن الدولة تحتاج إلى قادة أقوياء ممتازين. وهذا يأتي عندما يتسم هؤلاء القادة بالعلم والخبرة. لكن المشكلة، كيف نجدهم. وإذا وجدناهم، كيف نكبح جماحهم.

إذا كان هؤلاء القادة أقوياء بسبب الخبرة والعلم، ربما يتكاتفون ويقومون بالاستيلاء على الحكومة وتسيير الأمور بما يوافق مصالحهم الخاصة. فكيف نحل هذه المشكلة الخطيرة؟

كيف قام أعضاء المؤتمر بحل هذه المشكلات الثلاثة؟ لا شك أنهم كانوا محظوظين. لم يكونوا مجبرين على إيجاد حلول جديدة مبتكرة. ما عليهم سوى الرجوع إلى التاريخ وخبرات الشعوب السابقة، لكي يجدوا الحلول الصحيحة.

أعضاء المؤتمر ال 55، لم يكونوا مجموعة من البطيخ، تشكلت كيفما يكون. إنما كانوا مجموعة منتقاة، يمثلون ولاياتهم أصدق تمثيل. مثقفون ومفكرون وفلاسفة.

يسهر كل منهم على مصباح كيروسين. يقرأ ويقدح زناد ذهنه لكي يجد أفضل الحلول لبناء حكومة قوية، ترعى في نفس الوقت، حرية الفرد وتشركه في الحكم وتحفظ حقوق الإنسان.

لقد رأوا كيف كانت تحكم الدول السابقة. ودرسوا أسباب نجاح بعض الحكومات، وتبينوا أسباب فشل حكومات أخرى كثيرة.

لقد تبين لهم أن القدماء قد اكتشفوا مبادئ العلوم السياسية، التي تساعد في بناء الحكومات القوية. ورأوا أيضا أن بعض هذه المبادئ تساعد الناس على الحياة الحرة الكريمة.

فكرتان عظيمتان جاءتا من الماضي البعيد قبل الميلاد. الفكرة الأولى جاءت من مدينة يونانية اسمها أثينا. أثينا هو اسم إلهة يونانية قديمة كانت تعيش على جبال الأوليمب.

الفكرة الثانية جاءت من مدينة رومانية اسمها روما. تقول الأساطير أن باني روما هو روموليوس وأخيه ريموس، أبناء إله الحرب "مارس". من اليونان جاءت فكرة الديموقراطية، ومن الرومان جاءت فكرة الجمهورية.

كلمة "ديموقراطية" هي كلمة يونانية قديمة تعني "حكم الشعب". في النظام الديموقراطي، عامة الشعب هي التي تشكل الحكومة. الناس هي التي تختار القوانين وتختار القادة، ولا تفرض عليها بالقوة. الفكرة هنا هي الرضاء التام عن الحكام والقوانين.

لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. الديموقراطية تأتي ومعها بعض المشاكل. عامة الشعب ليسوا ملائكة، وليسوا على صواب في كل الأحوال. وليسوا عدول في معظم القضايا. عامة الشعب في أثينا هم الذين حكموا على الفيلسوف سقراط بالإعدام. بتهمة أنه يضلل الشباب ويسب الآلهة.

العامة يقومون بتغيير آرائهم بصفة مستمرة. قد يغرر بهم ويخدعهم خطيب ماكر مفوه بسهولة. "العامة تجمعهم زمارة وتفرقهم عصاية"، كما نقول بالبلدي.

أعضاء المؤتمر يعلمون هذه المشكلة جيدا، لكنهم يريدون التغلب عليها. حل هذه المشكلة جاء من الرومان. الحل هو حكم القانون. الرومان كانوا يعتقدون أنه لابد من وجود قانون مكتوب (دستور).

هذا القانون يجب أن يطبق بالعدل على كل الناس. لا أحد في مقدوره أن يغير القانون لصالحه، لتوريث ابنه الحكم من بعده مثلا. حتى التكتلات والمجموعات، ليس من حقها أن تغير القانون، لكي يخدم مصالحها الخاصة.

أفكار الحضارة اليونانية والحضارة الرومانية مزجت مع بعضها. من اليونان جاءت الديموقراطية، ومن الرومان جاء حكم القوانين. النتيجة هى الحكومة الديموقراطية الدستورية.

هل هذا يحل كل مشاكلنا في الحكم؟ بالطبع لا. لا بد من التأكد أن العامة سوف تقوم بطاعة القوانين. نفترض أن الغالبية تريد إصدار قانون يضر بالأقلية. كيف نمنع ذلك؟

حل هذه المشكلة جاء عن طريق فكرة ثالثة عظيمة، هي فكرة فصل السلطات. سلطة الحكومة يجب أن تكون مقسمة إلى أجزاء أو أفرع. الحكومة هنا بمعناها العام الذي يشمل السلطة التنفيذية والتشريعية والسلطة القضائية.

مثل هذه الحكومة تكون مؤسسة على مبدأ التوازن والمراقبة. كل جزء من الحكومة يراقب باقي الأجزاء. وكل جزء يعتمد على الأجزاء الأخرى. بذلك يحدث التوازن.

فكرة التوازن والمراقبة جاءتنا من الفلاسفة اليونانيين. حملها الرومان، واستخدمها الإنجليز في حكوماتهم. وكتب عنها مونتيسكو في كتابه "روح القوانين".

من ثم يمكننا القول أن الحكومات الديموقراطية الدستورية مبنية على أساس الحضارات اليونانية والرومانية القديمة، وخبرة الإنجليز في الحكم.

الآن سوف نتحدث عن مفهوم "الجمهورية". كلمة الجمهورية ونعني بها الحكم الجمهوري، أتت من الرومان. جاءت من الأصل اللاتيني "res publica". وتعني "المصلحة العامة".

كيف جاءت فكرة الجمهورية، بدلا من الملكية، مثلا، كأسلوب حكم؟ هناك حكاية تجيب على هذا السؤال:

في القرن السادس قبل الميلاد، لم يكن الرومان سعداء بملوكهم المستبدين. وخصوصا رؤساء العائلات العريقة وأصحاب النفوذ (الباتريشيان). لذلك قرروا المطالبة بالمشاركة في الحكم.

لكن أحد الملوك الرومان في ذلك الوقت "تاركوينياس"، لم يلتفت إلى مطالب الباتريشيان. فقاموا بالثورة عليه، وفر الملك الروماني من البلاد.

الآن ماذا يفعل الرومان؟ إنهم لا يثقون في حكم الرجل الواحد، الملك. إنهم يريدون حكومة تعطي الناس حقوقا أكثر. إنهم يريدون حكومة جمهورية. فقامت أول حكومة جمهورية.

في الوقت الذي كانت الجمهورية الرومانية وليدة عهدها، قام الملك المخلوع تاركوينياس بالإستعانه بالأعداء "الأيتروسيان" وحرضهم على غزو روما.

استمرت الحرب بين روما والأيتروسيان مدة 16 سنة. لكي يكسب الرومان الحرب، كانوا في حاجة إلى طاعة المواطنين وولائهم. وقد كان. فلم تسقط روما أثناء الحرب ودافعت روما عن نفسها وأبلت بلاء حسنا.

بعد الحرب، قرر الرومان الحفاظ على حريتهم واستقلالهم. فأصدروا القوانين التي تحمي المواطن وحريته. وقرروا أن لا عودة لحكم الفرد مرة ثانية.

أي واحد يحاول الإنفراد بالحكم، سوف يقتل. لا أحد من حقه أن يأمر بتعذيب آخرين أو قتلهم. كل واحد من حقه أن يتظلم، إذا شعر أن هناك غبن ما وقع عليه.

لم يعد يشعر الرومان بأنهم في حاجة إلى رجل واحد لكي يحكمهم. كل ما يحتاجونه، هو الولاء والطاعة للقوانين. تحت حكم الفرد، الخوف يدفع الناس للطاعة. لكن في النظام الجمهوري الروماني، الرغبة في الصالح العام، هي التي تدفع الناس للطاعة.

كيف كون الرومان جمهوريتهم؟ ومن هو رئيسهم؟ هل هو فرد واحد كما في النظام الملكي السابق، أم حكم ديموقراطي كما كان عند اليونانيين، أم حكم الطبقة الراقية المختارة، أي الحكم الأرستقراطي؟

حكم الفرد أو حكم الطبقة الأرستقراطية يعني تحكم أقلية من الناس في رقاب الأغلبية. ولننظر إلى تحليل الفيلسوف الروماني العظيم "سيسرو" وهو يعرض لنا هذه المشكلة:

"في الحكم الملكي، تكون الحرية للملك فقط. ويكون نصيب الناس في تقرير مصيرها قليل جدا. عندما يحكم الأرستقراطيون، تكون العصمة في يد الأقلية، لا الأغلبية. وفي النظام الديموقراطي، أي عندما تحكم الأغلبية، يكون من الصعب ظهور القادة العظام."

ويستمر سيسرو: "قد يكون الحاكم الفرد، عادلا وحكيما، كما كان الحال بالنسبة للملك كورش ملك الفرس. لكن من السهل جدا أن يتحول حكم الفرد إلى كارثة وإلى حكم طاغية.

حكومة مارسيليا الأرستقراطية، حولت باقي الشعب إلى أشباه عبيد. انظر إلى حكم عامة الشعب الديموقراطي في أثينا. هذا النظام لم يسمح لأحد بالظهور على الآخرين. لذلك لم تجد بينهم قادة أقوياء. مما تسبب عنه ضعف دولتهم."

ثم يختتم سيسرو: "النظام الملكي له ميزة الولاء للأب. حكم الأرستقراط قد يكون حكما كفؤا جيدا. وحكم الشعب، أي النظام الديموقراطي، قد يعطي الفرد حرية أكثر. لذلك، من الصعب علينا الاختيار والتفضيل بينهم. أنا لا أرجح أيا من هذه النظم الثلاثة. لكنني أفضل حكومة تجمع بين هذه النظم الثلاثة كلها."

لقد كان سيسرو يعني الجمهورية الرومانية، التي تجمع بين الحكومات المختلفة الثلاثة. الجمهورية الرومانية كانت تتكون من ثلاثة أركان. من مجلس عام يشبه مجلس أثينا الديموقراطي، ومجلسين خاصين آخرين.

المجلس الأول الخاص، مكون من مجموعة من القناصلة، يقومون بعمل الملوك. والمجلس الثاني الخاص، مكون من مجموعة من الأرستقراطيين، أي الشيوخ (سيناتورز). وظيفة المجلسين مناقشة القوانين وإعطاء النصيحة اللازمة للجمهورية.

بالإضافة إلى المجلس العام ومجلس القناصلة ومجلس الشيوخ، كان يوجد أيضا القضاة. القضاة كانوا بالإنتخاب من بين الأفراد الذين يلمون بالقوانين الرومانية. لم يكن القضاة، مثل المحلفين اليونانيين في أثينا، الذين لم يشترط معرفتهم بالقانون.

الحكومة الرومانية القديمة هذه تسمى بالحكومة المختلطة. أي المشكلة من قوى منفصلة لكي تشارك في الحكم. لكن من الصعب لأي جزء منها على حدة أن ينفرد بالحكم.

هذه الحكومة استمرت 456 سنة حتى عام 44 ق م. لم تتغير خلال هذه المدة، لكنها لم تنهار أيضا ولم تتعرض لغزو أو تهزم في معركة.

لماذا، إذن، استمرت الجمهورية الرومانية هذه المدة، بينما لم تصمد الديومقراطية اليونانية في أثينا مدة طويلة؟ السبب هو نظام التوازن والمراقبة، الذي كانت تتمتع به الجمهورية الرومانية.

لذلك أقر مؤتمر فيلاديلفيا دستور أمريكي جديد، يشكل حكومة جمهورية، على النمط الروماني. تتكون من ثلاثة أفرع:

1- السلطة التنفيذية. تقوم بتطبيق القوانين وترأس القوات المسلحة. مكونة من الرئيس الذي ينتخب من الناس كل أربع سنوات.

2- السلطة التشريعية. وتقوم بوضع القوانين، وتحديد الضرائب واعلان الحرب. وهي مكونة من مجلسين. مجلس الشيوخ. وينتخب كل عضو لمدة ست سنوات. ومجلس النواب، وينتخب كل عضو لمدة سنتين.

3- السلطة القضائية. تقوم بتفسير القوانين وشرحها. وتتكون من المحكمة العليا الدستورية والمحاكم الفيدرالية. ويعين أعضاؤها عن طريق رئيس الجمهورية بشرط موافقة مجلس الشيوخ.
هذه حكاية الديموقراطية، وقصة نشوء أول جمهورية في التاريخ. فلا يجب أن نخجل من التعلم من الحضارات القديمة السابقة. سر نجاح أي نظام حكم، هو فصل السلطات، والتوازن والمراقبة بين أقسام الحكومة المختلفة. لأنه كما يقول اللورد البريطاني أكتون في نهاية القرن التاسع عشر:

"السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة فساد مطلق. الرجال العظام، غالبا يكونون رجالا سيئين." كورش وعمر بن الخطاب، حالات خاصة لا تتكرر في التارخ. الموجود بكثرة أنواع من عينة بن علي ومبارك وعلي صالح والقذافي وبشار وأمثالهم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى