الأحد ١٢ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم عبد الجبار الحمدي

شظايا صور

تهشمت كل صور الذكريات الجميلة التي ترعرعت بداخله، في تلك المرة التي صرخ فيها متأثرا، ضاربا بيده المرآة الكبيرة حينما عكست صورة غضبه ووحشيته، ساعة ما كان يعمد ضربا بمن أحبها، ساعتها أكتشف أن الإنسان بداخله وحش كامن، مستأسد متى ما رأى ضعف الآخرين، أقسم ساعتها أن لا يقتني المرايا أبدا، بل كره بعدها أن يرى انعكاس صورته فيها، تلك التي كشرت عن حيوانية إنسان، عاش لا يدري أن الغريزة هي التي تقود عقله في الكثير من الأحيان، وما حالات الغضب والانفعال إلا انعكاسات لردة فعل، خمدت نيرانها في باطن عقل، يتجمل بما يرتديه من مكتسبات اجتماعية، تُدلس في بعض الأحيان الحقائق التي يرفضها الإنسان الواعي المتحضر.

أصبحت حياته كما صورها بعد تلك الحادثة، على أنها... ممغنطة، فهو لا يستجيب إلا لمن تتشابه ذرات ردة الفعل بداخله تنافراً، عاكسة شريط الذكريات، الذي يحكي تدهور إنسان في ظروف مشابه، في ذات يوم وبعد انخراط المتعاقبان، في إسدال ستائر بمتتاليات سمجة، لم يشعرا فيها أنهما يعكسان صوراً لتغير، بل باتا يقرضان أياما مملة، لذا أمست حياتهما ضياء يلحقه ظلام، وظلام يلحقه ضياء، يعكسان صورة الليل والنهار بشكل متكسر، كشظايا مرآة متناثرة، جلس هو يحاسب نفسه، ترافقه تداعيات ظنون وهواجس، عمدت في لحظة ما على طعن ثقة فتية، أراقت سموم الشك أكلةً لب عقل، خَلَد بجوفه عادات وتقاليد، عاشت فضاء مغلقا بمساحات لا تتعدى العار والثأر، كيف لي أن أكون جلادا؟ أحمل سيف تحقيق عدالة عادات الثأر والعار، وكيف لخلايا الفطرة الكامنة؟! بعد أن أُلبست وجوها مختلفة من الثقافة والمساواة، وحرية التعبير والاختيار، أن تتصلب فجأة، لتصبح قالب جليد، ما أنفك يذوب بمجرد سماع كلمة قَبَلِية لبست السواد، تغطت بأتربة قرون تداخلت فيها العقول بين الجهل والكفر، والإسلام عنوانا، وشبهت أن السيادة رجلا يسير على حد السيف، وما دون ذلك أو أكثر فهو عار، أما من يعيش معهم وبينهم من جنس النساء، فما هن إلا أوعية لوسادات خالية، تعبئ بمكنونات فحولة رجال وسطوة عمياء، لا تفرق بين الأحاسيس والمشاعر رغم أنها مجسات ونوابض تقرير مصير.

أمسك بصرصور أذنه فركاً، كأنه يقرص نفسه تأدبا وتنبيها، ثم قال لنفسه: كيف وصلت إلى هذا التدني من عدم التفريق والتمييز؟ أين ذهب العقل والتحضر حين تراءت لي صور الخيانة؟ ممددة على فراش الحرام وهو يتهزهز شبقا وتلذذ!! هذا ما صوره لي رفيق درب، حين أوقفني على انفراد، وأخذ يهمس وسوسة شيطان في أذني، بأن صديقا له سمع هذه الحكاية من فم صاحبها متشدقا بعلاقته مع رفيقة دربه، تلك التي أمطرت الأيام فركا، لجلاء ترسبات هموم وكدر، بعد أن فتحت شرفتها شمسا، وأيقظت ابتسامتها زقزقة عصافير، وطيور حب، لم تثخنه هما بنات أفكاره اللاتي سبحن عاريات في بحر من الحرية، رغم ضحالة موروثات تقاليد، فأطلق العنان لها قلادة لؤلئية، متباهيا لها وبها أمام الجميع، بأنها حازت على أعجاب فارسها وثقته، فسمح لها أن تتبوأ لتكون سيدة مجتمع ذات تصاريح غير مقيدة، في أثناء ذلك زاد من القرص على أذنه حتى سخنت، ففارت من سخونتها مفردات بقيت مقيدة، صارخة من مطرقة وسندان موسوس، فأخرجت عبارات صراخها قطرات عرق اخترقت مسامات جسده المثخن وجعا، هربا من فورات غضب أزلي، حاول مسحها إلا أنها تبخرت حاملة ندم تصرف أهوج، تأفف ضجرا أعمى بصر الحياة انفتاحا من متغيرات عصور، بأن الثقة هي المساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة، أيه .. ماذا ينفع الندم؟؟ بعد أن مزقت بيدي كل مواثيقها، حين عصرتني آفات الغيرة القاتلة، ها أنا أنظر إلى حالي وأعضض النواجذ كأني أمتص سموم صفراء نمت تحت أظافري، توقف عن التفكير فجأة! ظن أنه سمع طرقا قويا على الباب، جفل!! تسرب الدم الساخن باردا، أصابه بقشعريرة، بعد جَمدت مسامات وجهه، أراد السؤال عن الطارق، لكن السؤال وقف يحمل عصا الاستفهام منحنية الرأس خجلة، فماذا يقول ؟؟!!

أنتظر قليلا ينصت للطرق، لكنه لم يتكرر، عاد إلى جلسته يفتش عن سبب كسر مرآة الثقة، التي عكست في ذات يوم صورة غضبه ذاك، هل فعلا صَدَقَ همس ووسوسة شيطان؟ فعادت بداخله اشتعالا نارا خامدة، كونه رجلا يحمل بذورا من العصور القديمة، لم يسبغ عليه الليل والنهار في تعاقبها تغيرا، وأين الحلم عند الغضب؟ وأين الرفق بالقوارير؟ وأين التيقن من الحقيقة قبل الغضب؟ هل تاهت كلها بين شظايا مرآة، تناثرت وفيها انعكاسات أن المرأة عورة، ووأدها في الجاهلية طمسا خوفا من عارها عادة، نفخ تأففا محبطا من ارتفاع الضغط، وحوله ترزح بنات الأفكار، يحملن دفوفا أثملت رأسه بعد مشاركة طبلة أذنيه عزفا على مطرقة وسندان، فأطبق بيديه عليهما منعا من سماع ترديد خيبة أمل، كان رواد مسرح الليل فيها منصتين لتواترات نفس، أحست أنها حادت عن الطريق، لكن.. كيف السبيل لجمع ما تناثر تكسراُ؟ وهل بالإمكان الاحتفاظ بالصورة المتشظية دون انعكاس تكسرها؟! حرك كتفيه .. لا أدري ؟؟؟؟ بعدها أسلم رأسه للنوم تعباً، انتهز الليل تلك الفرصة، فأدخل إلى رأسه طيفا يعريه من ملبوسات التغير الجديد، والانفتاح بغير قيود، فعليه أن يدرك أن الحياة رحلة في سفينة متغيرة الموانئ، يركبها الكثير من الناس، الذين يحملون بداخلهم موروثات قديمة، كمنت في العرق والناموس، ولم تتغير إلا بإدراك العقل، أن الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة، مخلوق متقلب، وإنه مجموعة موروثات من العادات والتقاليد، تارة تكون ايجابية وتارة سلبية، وأغلب الأحيان يحاول أن يتغير بمنظار المحيطين به، دون الاقتناع بالتغيير، لذا ترى الإنسان لا ينظر للمرآة إلا حين يتزين، أو يريد أن يشاهد تجاعيد الزمن، عندما تصفعه تقدما في نهاية مطاف.

كان هذا كله فصلا من فصول المسرحية، ذات الممثل الواحد، التي عرضت ولم تحظى بالكثير من المشاهدين، لأنها تذكر المشاهد أنه هو ذات الإنسان، ينظر إلى نفسه من الخارج دون الشعور بطعم ومرارة الحقيقة التي يحياها، رغم اختلاف الأزمنة والعصور، لذا توقف عرضها لأنها لم تحظى بالإعجاب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى