الثلاثاء ٢١ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم هيثم نافل والي

صراع الروح

يتمشى الشيخ صلاح أبن الثلاثين عاماً، ذو العيون الصافية الهادئة التي تثير في الخاطر صورة لهب الشموع المحترقة أبداً في الكنائس! وصاحب اللحية الحمراء الطويلة التي تغطي وجهه والشاربان العريضان اللذان يتصلان ببعض من الأذن إلى الأذن! يذرع الغرفة من ركنٍ إلى ركن ببطء كالقنفذ، وهو ينظر إلى الأرض كالحيران، عاقداً يديه خلف ظهره ويهمهم بصوتٍ قاس: آه .. ويصرخُ فجأة بيأس عالياً كمن فقدَ الأمل تماماً! ثمَ يقف مواجهاً للمرآة التي تتوسط الغرفة فيقول مهتاجاً بعدَ أن مد يده إلى الأمام كالرجل الضرير:

أريدُ أن أجرب ولو لساعة واحدة، ها .. لقد حانَ الوقت لأكون عبداً لنوازعي وأحلامي( بعدَ أن نمى الشوق الشرير في مخيلته )ثمَ همس باحتقار، يكفي ما عشت وأنا لا أحيد عن مسار الله قيد أنملة! وأضاف : ماذا يعني؟ لقد كنت طوال حياتي تقياً، نقياً وأرغب أن أخرج من طوري هذا لأكون شخصاً آخر، ثم يسأل نفسه كالمجنون، وما الضير يا صاح في هذا؟ سوفَ لن أخسر كثيراً وكأن حسابه عند الله وفيراً لا ينضب! فأستطردَ وهو يزمجر بخوف، وكأنَ أحلامه التي يفكر بها ترعبه! قطب حاجبيه كالشيطان عندما يغضب! وقال بخبث: أعوذُ بالله، ما هذا؟ فأنا لم أشعر بأني أستطيع أن أكون حراً هكذا وبسهولة! ليصعقني الشيطان، قالَ ذلك وهو يصرخُ مهتاجاً ويدمدم، كيفَ لم يتسنى لي النظر في الأمر من قبل؟! ثمَ يصك أسنانه بقوة كالذئب وقت الهجوم على ضحيته، ويدق بقبضة يده على صدره، فيخرج صوتاً مرعباً كريهاً، فيستطردُ متهالكاً والزبد يخرج من فمه: آه .. لقد باتَ قلبي يحترق غيظاً ولوعةً، وهو يلوح بأصبعه كالسكين عالياً، سأعيش كما أحب وكما أشتهي ويمكنني الرجوع بعد ذلك إلى حظيرة المؤمنين! وكأنها في انتظاره كل الوقت!

فيقفزُ فجأة أمام المرآة التي تتوسط الغرفة ليواجهها كالخصم! ممسكاً بطرف لحيته الحمراء الطويلة ليرفعها كي تصل إلى عينيه وهو يهمهم بصوت أجش: سأقصها من جذورها، وسأخلع عني جبتي البيضاء الدينية، وسأقصُ شعري قصيراً، ثم يهمس بفرح مبتسماً كالمعترض دائماً! سأكون إنساناً مختلفاً أبداً، بل سوف لن أعرف نفسي بعدها مهما حاولت! وهو يهز بدنه ويضحك ساخراً مغتبطاً بغرور كالطفل، لشجاعته.. هه .. هه .. هه ثمَ يضيف، سأكون كما أريد، لا كما يريد الله! ومن لا عقلَ له، لا ضرر منه! وهو ينقر على المرآة بأطراف أصابعه وكأنه يضرب على الدف، ويدندن كالمطرب:

لِما الخوف يا صاح
فاليوم له طعم التفاح
عش حياتك بانفتاح
لِما الخوف يا شيخ صلاح

فيهز رأسه يميناً وشمالاً وكأنه يطرد ذبابة تضايقه، بعدَ أن لمعَ وجهه الشاحب عن ابتسامة، ينقبض لها قلب كل من يراه! وفي وسط انشغاله وهو يحدق بالمرآة بعيون وحشية كالمصلوب، رنَ في داخله صوت مدوي كزئير الرياح، يردد في رأسه مؤنباً كوخز الضمير:

ماذا.. هل أصاب الهوس عقلك؟ هل ستفعل ما عزمت عليه حقاً؟ تباً لك من وقح وشرير!
يتراجع إلى الوراء مبهوراً وهو يتلفت حول نفسه، ويرفع رأسه نحو الأعلى والأسفل ببطيء كحصان هرم! بعدَ أن وقفَ مذهولاً منعقد اللسان للحظات، ثمَ ندت عنه صرخة خافته مخنوقة: ماذا يا شيخ صلاح؟ هل فقدت صوابك؟ لقد أصبحت تعيساً ويطفح قلبك بشعور أقرب ما يكون إلى اليأس! ثمَ شرعَ يعوي كالثكلى، منظرك وهيئتك الجديدة ستجعل الآخرين يهزئون بك ويسخرون منك يا هذا.. ثمَ على صوته قليلاً فقالَ مصرحاً: اللعنة على أفكاري الشريرة التي هجمت علي هكذا دفعة واحدة كأسراب الصراصير! والعرق يتصبب على وجهه المنهك وتصدر من جسمه رائحة شبيهه برائحة البصل المحروق! فبكى متألماً وسعل كالبطة وأصابعه ترتجف انفعالاً وهو يقول إلا تخجل من نفسك يا شيخ صلاح؟ إذن لتنشق الأرض وتبتلعني حياً ثمَ تسوى! كيفَ أجرؤ على التخطيط لارتكاب الإثم واقتراف الخطيئة؟ ليخطفني الشيطان .. ثمَ يبصق في صورته على المرآة، تفو .. بصوتٍ عالي وهو يقول متشنجاً، ماذا، ها .. يا شيخ، أي نوع أنت من الشيوخ؟ ثمَ أردف بعصبية .. أعوذ بالله، فيفرك أذنه بأصابعه، كما تفرك القطة أذنها بمخالب يدها!

وبعدَ لحظات من صراع الروح المرير، وفيما كانَ رأسه خاشعاً، وقامته منتصبة، بدأ يردد كلمات كالذي يصلي، لكنه كان يبدو وكأنه يبكي أو ينوح وهو يهمهم: لقد كنت ورعاً، صادقاً، محافظاً وتخاف الله وتحبه، ولكن ما الذي حصل لك؟ لتسيطر عليك النوازع الغريبة التي لم تعهدها طبعٌ فيك!

وسرعان ما تغلبت الروح الشريرة التي كانت نائمة لسنوات طويلة.. فيرجع قافلاً، مستنكراً، مطمئنناً فيقول باقتدار: سوفَ لن أجعل الله يغضب مني، ولن أوذي أو أضر أحداً، وبعدَ أن أقنع نفسه بهذه العبارات التي بدت له مرضية أبداً، تقبلها بروح مسالمة، منتصرة، فخورة وصافية، في حين سكن الخير في داخلة وتراجع كما تضمر السلحفاة رأسها عند بيان الخطر!
زئرَ كالأسد قائلاً:

سنبدأ العمل إذن.. فتردد صداه في أرجاء الغرفة! نزع الجبة البيضاء التي طالما كانَ بداخلها كالنواة في الثمر! وهو يتغنى طلقاً، فرحاً وثرثاراً، بعدَ أن كانَ بخيلاً في الكلام! فقالَ مغتبطاً بمرح : أحلى ما في الحب عذابه! ثمَ ألتقط المقص وإذا به يقص شعره بسرعة فائقة وكأنه حلاقٌ متمرس! وحلق لحيته وقالَ هامساً، أنظر إلى صورتك يا رجل .. وكم تبدو جميلاً وأنت هكذا حليقاً! ثم يقهقه بسخرية غريبة عالياً .. وأردفَ .. ها هو الوقار يغادرك ووجهك ساحراً كوجه امرأة شابة! ثمَ يضحك بوقاحة كالعاهرة بصوت مجلجل هه .. هه .. هه .. ويقول مستطرداً، ماذا يعني؟ ليكن لوجهي طلعة وجه فتاة شابة، فهذا وحق الذي خلق الشيطان، شيءٌ حسن!

أخذَ الشيخ صلاح حماماً ساخناً وهو يشعر بأنَ وزنه قلّ إلى النصف! فبدأ يدقُ على كرشه كما يدق الطبال على الرق وهو يقول بكبرياء: آه .. آنَ الأوان أن نمحى آثار السمنة كذلك! ثمَ يدمدم بنبرة حزينة فاجأته على حين غرة دونَ إرادة منه: يا لكَ من وغد وحقير، انك إنسان مبتذل، فيطلق صرخة قوية تدوي في الغرفة فتهزها، عندما رأى طيراً كبيراً يرفرف فوقه دونَ صوت، ذو أجنحة شفافة بيضاء بلون الثلج ليبدو الطير كالملاك .. فبهت الشيخ وتجمدت نظراته وسبحَ المكان بالصمت الخافت الثقيل.. وبعدَ أن أستعاد وعيه قليلاً.. همهمَ بصعوبة وهو يقول: ليتحطم رأسي كآنية من الفخار! لتأخذنني العفاريت الشريرة! ثمَ رفعَ بصره نحو الطائر وهو يقول بصوت أبح، ما ذا.. تريد.. مني؟ ولم يستطيع النطق أكثر من ذلك، بعد أن تحجرت الكلمات في فمه وهو يحاول التراجع أو الاختفاء .. ولكن أينَ يستطيع الهرب وهو يريد أن يصنع لنفسه قدراً جديداً غير الذي كتبَ لهُ؟!

أقتربَ الطائر الوسيم منه بوجل، وحمله برفق دونَ أن يلمسه وخرجَ به إلى الفضاء محلقاً عالياً فوقَ السحب! بينما ظلَ الشيخ مصعوقاً، فيما كبرت عيناه وتوسعت فأصبحت بحجم ثمرة الخوخ البري وحتى في شكلها، وتغضن وجهه .. وبدأ يلهث كالسكران بعدَ أن كشر عن أسنانه وكأنه يشتم أحداً في سره! وفي أحدى الزوايا الزرقاء المتباعدة الأطراف، حطَّ الطائر برفقة الشيخ، وأجلسه أمام كتلة من النور الساطع التي تعمي البصر.. لا يمكن النظر إليها أبداً كوهج الشمس، وإذا بالشيخ يسمع صوتاً هائلاً، هادراً خارج من الوهج، يقول بكل حزم واعتداد:
 لماذا يا شيخ صلاح حاولت الخروج عن الطاعة التي وعدت نفسك بدخولها بمحض إرادتك، ولم يجبرك أحد عليها، بعدَ أن ودعت كل الماديات الأرضية وقبلت العيش لأجل العالم الآخر الخالد فقط؟

 (يمسح العرق المتصبب على وجهه بكم قميصه) وهو يزفر بصوت أجش كالذي يطلقه الحصان عندما يصل إلى الذروة في حالة الجماع! وهو يدمدم باضطراب: في الحقيقة، أقصد حقيقتي مؤلمة كالمرض الخبيث، عذراً، أعني حقيقتي قاتلة كالعار لا يستطيع أي شخص حمله بسهوله! أنها متأصلة في طبع الإنسان منذ ولد! لكن قليلون هم الذين يواجهونها بإباء وعزيمة، وكما ترون وهو يحيد النظر لقوة الوهج الصادر نحوه، إني من النوع الذي يكسر بسهولة لذلك كانَ سقوطي مخجل وسريع .. ثمَ غرقَ في الصمت دونَ حراك، وكأن على رأسه طيراً، أو كالغارق في بحر من التأملات، حتى باتَ يبعث الرعشة والحزن في قلب كل من يراه!
 ما تقوله، أعرفه! فهل هناك من جديد؟ ثمَ أستطرد الصوت الهادئ يقول وكأنه يسبح عبر النور: ما الذي قلق روحك وجعلها تتصارع هكذا بكل شناعة معَ ظلها؟

 تتدحرج من فم الشيخ كلمات ثقيلة وهو يرنو ببصره بعيداً عن مصدر الصوت ويرتجف رعباً وعيناه جاحظتان مثل بوم عجوز فقال بتردد: هل لي أن أسألكَ؟

 نفخ الوهج الهادر كالرعد وقال بكل حزم: كلا.

 عجباً ردَ الشيخ عليه وأستطرد، هذا ما كنتُ أفعله تماماً، اعتقادا مني بأن طرق التفكير والنضج والوصول إلى حالة السؤال ستجعل المرء ملحداً وكافراً، لذلك فرضت على طلابي بأن لا يتوجهوا بأي سؤال، عندها لا خوف عليهم ولا هم يحزنون! وهو يدمدم ببيت من شعر لبيد:

أكذب النفس إذا حدثتها
إن صدق النفس يزري بالأمل

ثمَ أردف، لكني أبقى إنسان وقد جبلت على طبعي هذا وأنتم تعلمون، ومما أثارَ حنقي على نفسي هو أنني لم أرى العدل على الأرض أبداً، وبدأت أسأل نفسي بعد أن منعت الآخرين من السؤال لماذا؟! ثمَ هبَ واقفاً منتصباً وسط المكان وهو يمشي ببطء وبحذر وكأن تحته مسامير مدببة! لكنه تفاجأ بصورة الوهج ولونه أخذاً بالتبدل حيث الرمادي ومن ثمَ الأسود .. فاختفى كما أتى، ليترك الشيخ غارقاً في أفكاره، جاهلاً عن أحلامه وعقابه، غائراً، مستسلماً لقدره، محطماً ولا يستقر على حال كالطير مقصوص الجناح، وفي هذه اللحظة الحاسمة التي سقطَ في وحل الرذيلة .. صحا من النوم مرعوباً، يتوسط السرير، ويجلس كما يجلس العربي، بعدَ أن علت في الغرفة صرخته المدوية وهو يدمدم بندم: أعوذُ بالله، ما هذا الكابوس الخطير الذي يعمي العين ويصم الآذان! ثمَ أردفَ، تباً لك يا شيخ صلاح لما وصلت له من انحطاط، فتذكر على حين غرة المثل الذي يقول :

أصبحت كالمستغيث من الرمضاء بالنارِ..

ثمَ يهمس بخجل وهو يرتجف رعباً .. لقد عشت الوقت كله لغيري فقط كدودة القز.. كنت كذبالة السراج تضيء ما حولها وتحرق نفسها.. آه، كم أتمنى الآن أن يعرف المرء بأنَ العبد التابع له حرٌ مثله! وأعزَ عليهم أنف الأسد .. ثمَ قطبَ حاجبيه كالطفل الغاضب وهتفَ باكياً مستنكراً وهو يردد بتخبط كالسكران، متى يعرفون يأخذهم الشيطان، بأن عصا الجبان قد تكون طويلة؟ وأنَ العتاب قبل العقاب .. آه كدتُ أشرقُ بريقي وعلت ابتسامه حيرى على وجهه المتعب وهو يهذي كالمحموم: لقد عشتُ عادلاً طوال حياتي كالميزان! وماذا بعد فقد هجرني طلابي وأصدقائي لأنني كنت أقول الحق! وها هي النتيجة .. وهو يشير بأصبعه نحو صدره كمن يريد قتل نفسه، بقيت وحيداً أحلم بالإثم وأتوق لاقترافه، فيصرخ كالثائر تباً لي من جاهل بعد أن اعتقدت مغروراً بأني إنساناً فريداً ومميزاً كالغراب الأعصم(1)، ثمَ ندت عنه صيحة عاليه وهو يدمدم كمن فقد صوابه للتو، وخارت قواه: لقد كلفني ذلك مخ البعوضة! لقد تخبطت كالبغل عندما سؤل: من هو أبوك؟ قالَ الفرس خالي!

(1) الأعصم : الذي له رجل بيضاء


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى