السبت ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم حميد طولست

ميلاد كاتب

جاءني قبل أيام سعيدا يحمل مولوده الأول، كما الأطفال يحملون لعبهم برقة ووداعة وشوق. شغوفاً بمعرفة رأيي ورأي أصدقائه الأخرين في روايته التي جاء ليهديني باكورة أعماله ممهوراً بتوقيعه وإهدائه.

كم أفرحني الخبر وأطربني ميلاد الكاتب أو المكتوب الجديدين وقدرتهما على ولوج آفاق تزاوج الكلمات وتلاقح الأفكار وتوليد التعابير وسبر الأمزجة المتباينة، والقناعات المختلفة وربما المتناقضة، وجمع شتات المعاني المتناثر بين سماء الروح وأرض العقل في تجديد وانبعاث، واستعراض لأسرارها العامة والخاصة في مجتمع موبوء، بالعزوف عن القراءة التي تزداد حدّتها مع الأيام ولا تنقص، مجتمع لا يقرأ البتة، وإن قرأ فلا يقرأ إلا تفاهات الكتابات التي تتناول قضايا السحر والجن والشعوذة وتفسير الأحلام، والتي غزت الأسواق والعقول، مثل " أهوال القبور"و" المسيح الدجال "و" هاجوج وماجوج "و" كبائر النساء" و العريضة طويلة جدا لا يتسع المقال للإحاطة بها كلها، حتى صنف –مع الأسف- في أسفل مراتب الإنتاجية والتأليف، ويضجّ بمظاهر الأمية والتخلف والنكوص.

وأمام ما يعرفه نفس المجتمع من محاولات الانعثاق والتحرر وتطويع الحرف المتعب، وما يحمل في طياته من قلق وبحث دائمين، لخدمة نوايا المثقفين والكتاب ، وتعزيز الإنتاجيات الأدبية والمعرفية ومغزى النصوص ، بزغ من حي شعبي كاتب جديد لينضاف لعدد الكتاب الذين عجز أكثريتهم عن إيجاد مساحة كافية لوجودهم في مجتمع يعتبر القراءة عملا مجهدا، لا يتلاءم وطبيعته الكسولة ونفسيته المغرمة بالخمول والتكاسل العقلي، حيث لا أحد يؤدي واجباته المطلوبة والمفروضة، فما فبالأحرى ما ليس بواجب كفعل القراءة التطوعي والذي يعاديه عداءا جما.

وفي جلسة حوارية فكرية ودية بمقهى الناعورة بفاس الجديد سألت الكاتب الجديد الأستاذ عبد الرزاق بلمدني بعد صدور روايته الأولى "العاطفة والعاصفة" الأسئلة العادية الاعتيادية التالية:

س: ما هي الكتابة بالنسبة إليك؟ وكيف كانت بدايتك معها؟ الكتابة هي جنون لا يطرق إلا أبواب الحمقى، فكلمتا أمسكت بالقلم لأرتكب حماقتها المقدسة، إلا ومسني الجنون، وألم بي ما يشبه الصرع، إن لم يكن هو فعلا، فأحس باضطراب ومرارة، ثم يعودني السكون والتعقل حتى أخالني أقرب إلى ما يشبه الوحي حيث لا حجاب عن الحقائق، ولا غشاوة عن الآيات، ولا حواجز حول الحكمة، وقد أصبت بالنبوغ والألمعية، فأحمل القلم، وأغامر بالأفكار وأضعها على الورق، دون اكتراث لوزر المسؤولية، أو اهتمام بقرارات رقيب الحرف والكتابة والأفكار ولا أنتظر إلا حكم ورأي القارئ في ما كتبت بمتعة لا مثيل لها إلا لذة الجنس..

فالكتابة عندي مثلها مثل باقي الأفعال والحرف والمهن الأخرى، مع بعض الاختلاف، لابد لها من عنصر الإمتاع الذاتي فيما يقام به من أعمال، حتى لا تصبح بشكلٍ عام مهمة ثقيلة إلى قلوب الفاعلين وعقولهم. أي أنه لابد أن تتضمن الكتابة عناصر المتعة لتكون كتابة عاقلة بلا حدود، نابضة بمشاريع التجديد والأمل الغير اللاهي عن قضايا المجتمع وهموم الناس، وتظل مرآة صادقة لخلجات الصدور، وقفزا إلى المجهول، وتجاوزا للمحسوب، وخلطًا للأوراق، ومزجا للواقع بالأوهام، ويستطيع الكتاب اقترافها دون استئذان لتجديد أنفسهم، وبالتبعية تجديد وتخليق العوالم التي ينتمون إليها متى شاءوا، وكيفما شاءوا، وتجعل رغبتهم عارمة ومحفزة لإطلاق العنان لجنون نصوصهم غير المسموح بها والمغايرة والمختلفة لما اعتدناه من كتابات الهامش والهزيمة والفشل، المعانية من القمع ..

س: أكيد أن مولدك الأول تعرض للكثير من العراقيل؟ فماذا تتمنى له بعد خروجه للوجود؟

ج: تختلف المجتمعات فيما بينها حول درجة تشجيعها للأعمال الفكرية والإبداعية، فكلما كانت الاستجابات المجتمعية أكثر نضجاً وتأثيراً ومرونة، كلما زادت حدة الإحساس بالمتعة الذاتية، والعكس صحيح إلى حدٍ بعيد، ومن الطبيعي أن تتعرض كل الإنتاجات الأدبية والفنية إلى الكثير من المشاكل والإحباطات، من طرف المحتكرين لكل شيء الذين لا يرحمون ولا يتركون رحمة الله تنزل، على أي كان، حتى لو كان موهوبا جدا، خاصة في الأمم التي لا تحترم مثقفيها ولا ترعى فنانيها وتجعل المنافي والقبور مصيرا حتميا لمبدعيها، رغم توفر الإمكانات الهائلة التي تتحجج الجهات الراعية-أو هكذا يوحون به لنا- لميادين الثقافية، بندرتها، ما يجعل الإنتاجية تبقى رهن الكثير من السياقات المجتمعية وحيتياتها التي كلما كانت منفتحة ورحبة ومتسامحة كلما أطلق الكتاب معها العنان لممارسة نزق الإبداع بكل جموحه، أما إذا كانت على النقيض من ذلك منغلقة وضيقة وعدوانية فإنها تهدر كل الطاقات الأدبية والفنية في المجتمع.

أما ما أتمناه لمولوده الجديد ولكل الإنتاجات الأدبية والعلمية هو أن تجد المساحة الكافية لوجودها وتلقى ما تستحق من الرواج المعنوي، أي أن يتفاعل معها القراء إيجابيا بإبداء ما لديهم من ملحوظات وتوجيهات حتى يستعين بها كل من يصبو لإتقان صناعة الكتابة والتأليف الذي ضاق ميدانه، وصعب مجاله مع انتشار المواقع الإلكترونية المجانية، والتي لا تتطلب واسطة أو تزكية للنشر.

س: إذن لماذا تكتب رغم العراقيل؟

الكتابة هي بصمة الوجود التي يتغلب بها كاتبها على عجزه الإنساني، وظروف واقعه القاسية، ليثبت لنفسه، وربما قبل الآخرين، بأنه كفؤ فيما اختار ممارسته من كتابة تحقق الارتقاء بالروح والعقل لدرجة الخلود وصناعة أمل، وليؤكد بها على أنه ليس هملا ولا زائدا على هذه الدنيا كما قال محمود درويش: "أكتب... لأني بلا هوية ولا حب ولا وطن ولا حرية" . وأن له صوتا مسموعا كغيره يستطيع به المشاركة في تغيير واقعه الحياتي وبالتالي في تغيير محيطه الصغير، ومنهما بلاده الكبير، كما قال الأديب الصيني باجين: أمارس الكتابة لكي أغير حياتي وبيئتي وعالمي الفكري ما استطعت.

لذلك فأنا أكتب لأني أجد متعة عارمة في الكتابة تفوق عندي متع الحياة بأسرها، وذلك لأني حين أكتب فإني أستمتع بفعل الكتابة التي ليست مهمتها الوصول إلى مراتب مادية معينة، أو التوقف في علامة شرف محددة، بقدر ما هي محاولة حضور وصناعة أمل وخلود، كما جاء في المثل السائر "اليد تفنى ويبقى كتابُهـا فإنْ كتبتْ خيراً ستُجزى بمثله وإنْ كتبتْ شرّاً عليها حسابُها" وكما قال الأديب التشيكي ياروسلاف سايفرت: "أكتب... ربما تعبيرا عن الرغبة الكامنة في كل إنسان في أن يخلف وراءه أثرا"، ولعل جميع الكتاب وبدون استثناء يريدون أن يخلفوا لهذا الكون أثرا يترجم لحظات السعادة التي ينتشون بها عند الكتابة، عبر محاورة الكلمات والحروف التي تحمل عنهم عبء الدوران حول ذواتهم في صراع ضيق لا تتحمل نكده نفوسهم الرقيقة الحالمة..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى