الاثنين ٢٧ حزيران (يونيو) ٢٠١١

مرايا الزمن المتوحش

عبد الرزاق جمايعي

مدخل: يقف المهتمّ بالمشهد السّردي في تونس وتحديدا في العقدين الأخيرين على ظاهرة نصّية جماليّة لافتة للانتباه تجلّت من خلال بعض النصوص الرّوائية. وتتمثّل في هيمنة جماليّة التداخل النصي على سائر المقومات الفنية الأخرى في النص ممّا يدفع القارئ إلى حصر أفق القراءة لديه في البحث عن مضمرات النص وسبر أغواره بالحفر في طبقاته السطحيّة والعميقة للظفر بحدود العلاقات التي يشكلها مع متناصاته الممكنة عند انتاجه لنسيجه الحكائي. ومن هذه الرّوايات التي تحتفل بهذا اللون الأسلوبي الإنشائي في محاورة النصوص القابعة خارجه والثّاوية فيه رواية «مرايا الزمن المتوحش» (1) ل «عبد الرزاق السّومري».

وهي النص الثاني ضمن مشروعه الرّوائي. وقد ارتأينا مقاربتها في ضوء مقاربة تطريسية شاملة لما هيأه متنها من مراسم في التقبّل وجهنا الى التعامل معها من خلال جهاز نظري مخصوص ضبط معالمه الباحث الفرنسي «جيرارجينات» ب في كتابيه»طروس» و»عتبات» . ويلزمنا الجهاز النظري بفحص بعض وجوه التّعالي النصي للنص بالنظر في المتعاليات النصية، وأشكال تعالق النص الأصلي مع النصوص الحافّة به. وذلك برصيد نصوصه المصاحبة ووجوه اشتغاله على نصوص سابقة وطرائق اخباره وانبائه عن أسرار تشكّله بالنظر في النصوص النقدية التي تضمنها في متنه لتضطلع بالوظيفة الوصفية بالإضافة الى مساءلة وجوه اللحوق النصي فيه .

إنّ قراءتنا من شأنها أن تظفر بوجاهتها من خلال ما شفّ عنه نصّ «مرايا الزمن المتوحش» من أشكال التفاعل النصي، وهي أشكال متولّدة عن استراتيجيّة سرديّة توخاها المؤلف عند تشكيل خميرته السردية الأولى وحقّقها النص لاحقا فألزم المتقبل بقراءة أثره في ضوء تدبّر تلك الاستراتيجية. وذلك أنّ كلّ نصّ يحدّد أفق تقبله سلفا. إذ النص رحم تنمو فيه المعاني وتتناسل المؤثّرات، والمتقبل يولد بحسب طاقته القرائية ظلالا من المعنى الممكن أو يضع اليد على معان ممجوجة مكرّرة، ويستجيب ان ضدّا أو قبولا لما يبسطه النص من أسئلة يعود بعضها إلى بنية القول وهيئته ويعود بعضها الآخر الى ما أنتج قبله من نصوص تزدحم في ذاكرة القارئ... وبهذا نرى أنّ الأمر عائد إلى نمطين أساسيين من المتقبلين احدهما من داخل النص يراقب المبدع ويتابع حيله في الكتابة ويحرص على تذكيره بالمواضعات، والآخر من خارج النص يتدبّر القول ومدى إيفائه بعهوده» (2).

لئن كانت قراءتنا متنزلة في أفق المقاربة «التطريسية» . باحثة عن أشكال التعالق النصي والتداخل النصي للظفر بالسّمات الإنشائية والأسلوبية التي تطبع النص. فإنّها تستثمر أيضا بعض الآليات السيمائية والتأويلية لتحديد شكل المعمار الفنّي الذي ينهض عليه نسيج النص بنية ودلالة.

1 قراءة في المصاحبات القصية:

يثير مصطلح المصاحبات النصية إشكالا نظريا نظرا لى وسمه لجملة من العلاقات التي يربطها المتن مع ما يحفّ به من نصوص وهي علاقة تتراوح بين الوضوح والتعقيد وتشمل المصاحبات النصية «العنوان، العنوان الصغير، العناوين المشتركة، المدخل، الملحق، التنبيه، التمهيد، الهوامش في أسفل الصفحة أو في النهاية، الخطوط، التزيينات والرسوم، الإشارات الكتابية والطباعيّة أو غيرها التي توفّر للنص وسطا (متنوعا) وفي بعض الأحيان شرحا رسميا أو شبه رسمي لايستطيع أكثر القراء نزوعا الى الصّفاء وأقلّهم اهتماما بالمعرفة الخارجية أن يتصرّف به على الدّوام بالسهولة التي يريدها ولا يمكن أن يزعم ذلك « (3).

حسبنا أن نقف عند بعض المصاحبات النصية في «مرايا الزمن المتوحش» مثل «العنوان الرئيسي» والعناوين الداخلية فصد استنطاق وظائفها الإنشائية والجمالية.

1 1 قراءة في عنوان الأثر:

أصبحت مسألة العنونة مبحثا من مباحث الدّراسات الإنشائية إذ يعدّ العنوان في نظر المهتّمين بهذه المسألة: مفتاحا من المفاتيح الممكنة التي تساعد على فكّ شفرة النص قبل ولوجه. ويساهم العنوان أيضا في تنزيل قراءة الأثر ضمن أفق تأويلي خاصّ عندما يكون ذلك العنوان مشحونا بطاقة إيحائية تراود القارئ فتغريه بتفكيك مغلقات النص. كما تتأتى أهمية العنوان من خلال علاقته بالمتن. فهو أول ما يبرز من النص أي خطاب الرّواية السّردي لحضوره على ظهر الغلاف بالإضافة إلى اضطلاعه بالوظيفة الغرضية إذ يحيل على محتوى النص.

وهو ما يطلق عليه «جيرار جينات» ونحسب عنوان الرواية «مرايا الزمن المتوحش» من قبيل العناوين الغرضيّة لما له من وشائج متينة بالمتن ذلك أنّ المتبصّر في نصوص الأثر الداخلية نجدها مرتبطة ببنية العنوان الرئيسي دلاليّا وبنيويا ومحلّه منها كمحلّ البؤرة الاستقطابية التي تختزل موضوع المتن وبنيته دون أن تفضح أسراره. إذ قدّر له أن يكون إيحائيا يحجب سرّ النص مستغلا في فضاء الإلغاز والإبهام. لكن إذا كان الأمر على هذه الشاكلة فما علاقة هذه العتبة الغامضة بالمحتوى؟ ألا تمثّل قناعا انفصمت صلته بالمتن لاضطلاعه بوظيفتي التّعمية والمناورة؟
جاء عنوان الرّواية في مستوى شكله النّحوي مركبا إسميا بالإضافة وقد انعقدت علاقة الاضافة فيه على وصل صيغة «الزمن المتوحش» ب «مرايا» وهي علاقة تفصح عن إضافة معنوية حاملة لوظيفتي رفع الإبهام والتخصيص إذ علّق العنصر المبهم «مرايا» ب «الزمن» الذي وسم بدوره بالتّوحش وخصصت بكونها مرايا تتمرأى فيها ظلال الزّمن الذّاتي بما شحن به من سمات التوحش علي سبيل الاسقاط والتكنيّة.

ونلاحظ في المستوى الدّلالي للعنوان أنّ المفردة الأولى قد وردت حبلى بالمعاني على الرّغم من وجودها في بنية ملغزة. ويتأكد ذلك بالرجوع الي دلالاتها في القواميس وهي دلالات تجعل العنوان مضطلعا بوظيفة تمييزية تحول دون مشابهة الأثر لغيره من النصوص. فإذا نظرنا في الدلالة المعجمية لكلمة المرايا جمع مرآة بوصفها مشتقة من جذر في لسان العرب ل «ابن منظور» نقف على دلالاتها التالية:

«المرأة، ما تراءيت فيه وقد أريته إيّاه. ترئية: عرضتها عليه أو حبستها له ينظر نفسه وتراءيت فيها وترأيت. وجاء الحديث: لا يتمرأى أحدكم في الماء أي لا ينظر وجهه فيه... والمرآة، بكسر الميم: التي ينظر فيها وجمعها المرائي والكثير المرايا، وقيل: من حوّل الهمزة قال المرايا قال أبو زيد: تراءيت في المرآة ترائيا ورأيت الرجل ترئية إذا أمسكت له المرآة لينظر فيها».

أمّا القطب الثاني من العنوان وهو قطب الزّمن فقد نزل في سياق فضائي شحن بقيمة رمزية خصصته عن غيره من الأزمنة فهو زمن التّوحش. ولمّا كان التوحش نقيض الأنس والألفة ورديف الغرابة فإنّه الوجه الآخر للإنسان وطبع ملازم له. وهو ما يفصح عنه ملفوظ الشّخصيات في المتن وهو ملفوظ يضمر تعريفا بالخلف للإنسانية ينزع عنها أقنعة والطّهر. ذلك أنّنا إذا رمنا تعريف الإنسان نقول إنّه مدني بالطبع أي يميل بطبعه الى الأنس. لكن الرّواية تنخرط من خلال مشروعها السّردي الذي تراهن عليه ضمن سياق تسعى فيه الى إثبات تهافت هذا التعريف وتأسيس البديل لعدّة اعتبارات من بينها أنّها تنطلق من خلفيّة فلسفية تشرّح فيها أبنية الواقع والوجود الإنساني لتثبت فكرة مفادها أنّه في هذا العنصر الذي ساد فيه اعتبار الذّات المفردة وتمّ الانتصار لها والإعتداد بها فالتوحش لم يعد تكلّفا للفعل أي خروجا عن الطبيعة المستلزمة لمقولة «الانسان مدني بالطبع» وإنّما عودة الى الطبيعة حيث أنّ الذات المفردة تتميّز بمقاصد خاصة وآمال وحياة روحية ونفسية حميمة لا علاقة لها بما هو مشترك ومألوف. إنّ العصر اليوم هو عصر التألّف، وعصر الوحشية لا عصر الألفة والتوحش.

ولقد تأكدت آلية التشريح التي يمارسها النص لنزعة التوحش من خلال مرايا ثلاث في سياق نصّي واحد إذ جرى التنويع على دلالة التوحش في ثلاثة مواضع في ص «27» أتساءل أحيانا ممّن ورثنا لذة الاستبداد والقتل نحن معشر الشرقيين؟ فحتى حضارة حمورابي كانت تقتل مجرميها بجرعات من السّم مخدّرة، أمّا نحن فإنّه لا يكفي ذلك حتى نجعل من قتلانا طقسا من الطقوس «كما ورد أيضا في نفس السياق النصي» أنت لا تنظر إلاّ في حدود أنفك فقط. ولا يسعك الاّ أن تفهم أنّ التاريخ يلاحقنا، حاضر في كل ذرّة فينا حتّى في كروزماتنا التي تكره الحرية وتميح الى الشر والاستبداد إنّنا نجني كل ذلك ذلك ونذبح شعراءنا من الوريد ثمّ نقول خير أمّة أخرجت للناس. ثم نذكر حضارتنا العظيمة التي سرقتها منّا أوروبا وخبأتها في المتاحف. كل هذا ومازلنا نتعلق بأستارخلافتنا ونحرّم ونصادر كمانشاء». ص 27
بالإضافة الى تفكيك أسس الإيتقا التي تميّز العصر وهي ايتيقا يمكن وسمها بايتيقا التّوحش وقد صاغها المؤلف على لسان البطل «عاكف الهذيلي» في قوله: «أفهم ما الذي ترمي إليه يا أستاذ فها إنّنا محكومون بإيديولوجيات بدائية متوحشة يمكن أن تلبس ثوب الحرية وما شابه ذلك. مشكلتنا أنّنا نقتل باسم الحرية وعدالة القانون والمصلحة العامة. هكذا نعيد انتاج الطقوس... إنّها أيقونة العصر: الاستبداد باسم الحرية». (ص 27).

1 2 1 في إخبار بنية العنوان عن المعمار الفنّي للرواية:

يجمع بعض الإنشائيين على قضية نظريّة مفادها ارتباط المصاحب النصي الذي يعيّن جنس الأثر بهويته الأجناسية وهو ارتباط يضمر ميثاقا أجناسيا يلزم القارئ بقراءة المتن الذي يحفّ به مصاحب نصي يعلن عن انتمائه الأجناسي في دائرة الإيفاء بمراسم تقبل النص ضمن حدود ذلك الجنس والالتزام بمواضعاعته ومقولاته الفنية.

غير أنّ أولئك الانشائيين لم يولوا كبير عناية الى بعض الوظائف الأخرى التي يضطلع بها المصاحب النصي كأن يخبر العنوان مثلا عن هيئة النسيج الحكائي الذي تتشكل وفقه الرّواية أو أن يفصح عن السيناريو القصصي الذي توخاه الرّوائي فيها. ذلك أنّنا إذا فحصنا بعض العناوين التي تحفّ بالمتون الروائية نجدها مسالك يمكن الاستعانة بها في الإهتداء الى نسيج النص السّردي، من ذلك عنوان الرّواية «مرايا الزمن المتوحش».

فالناظر في نص «مرايا الزمن المتوحش» يصطدم ببنية سرديّة قدّر لها مؤلف الرّواية أن يكون العنوان فيها منارة تضيء متن النص وترشد الي تبيّن شكله بل إنّنا لا نجانب الصّواب إذا اعتبرنا العنوان وهو العتبة النصية الأساسية في هذه الرواية مختزلا للسيناريو الحكائي الذي نهض عليه نص الرواية. وتبعا الى ما نهض به عنوان «مرايا الزمن المتوحش» من وظائف أمكننا تنزيله ضمن ضربين من العناوين تحدّث عنهما ج «جينات» في كتابه «عتبات»: وهما العنوان العرضي وهو عنوان يشف عن محتوى النص والعنوان الشكلي ويتميّز عن الأول بكونه يحدّد شكل الأثر ويرشد إلى انتمائه الأجناسي من خلال ايحائه ببنية الخطاب في النص.

إنّ العنوان في رواية «مرايا الزمن المتوحش» وهو يضطلع بهذه الوظيفة المزدوجة أي الوظيفة الغرضية ووظيفة تحديد شكل النص وبنية الخطاب فيه يجعل الرّواية متنا سرديّا يخرق الأعراف الإنشائية السائدة ويكسّر تقاليد التّسريد المألوفة. وهو أمر من شأنه أن يزعزع طمأنينة المتقبل واستسلامه الهادئ الى غواية النص فيجدّد بذلك أسئلة القراءة لديه لما يثيره هذا المسلك الإنشائي الجديد الذي تراهن عليه الرواية من احراجات. ولنا أن نستند في التدليل على هذا الرأي الى جملة من القرائن الدلالية والإنشائية من داخل النص.

إنّ المهتم بعلاقة التناظر بين عنوان الرّواية في «مرايا الزمن المتوحش» ومتنها يقف على علاقة أخرى في مستوى البنية الخفية للنص وهي علاقة يمكن تنزيلها في دائرة المجاز المرسل ووسمها بعلاقة الكلّ بالجزء. فالعنوان جزء من الرواية يفصح عن بنية الكلّ ومعماره الفني ولنا أن نتدبر ذلك من خلال فحص بنية الرّواية فهي في مستوى بنائها الحكائي تترجم بأمانة شديدة منطوق «المرايا» جمع مرآة لوح شكلي ودلالي شفاف تنعكس عليه ظلال الأحداث وصور النسيج السّردي انعكاسا يغري بوهم المطابقة بين بنية العنوان مرآة وبنية النص الرّوائي ظلالا تنعكس على مرآة العنوان. ولنا أن نؤكد على وجاهة هذه القرءاة من خلال النظر في هوية الرواية وانتمائها الأجناسي فهي تفي في بنيتها لمقومات جنس بعينه من أجناس الرواية وهو جنس الرواية البوليسية التي يختزل فيها العنوان عادة سرّا خطيرا تضطلع الرواية بفكّ مغلقاته ويوحي بمغامرة سردية يحققها النص. وقد استعاد «عبد الرزاق السّومري» في رهانه السّردي هذا النّمط في الحكي السيناريو السّردي نفسه الذي تأسس عليه متن «البحث عن وليد مسعود» ل «جبرا ابراهيم جبرا» وشفّ منطوق العنوان عن علاقة خفية يربطها نصّ «مرايا الزمن المتوحش» مع البنية التي نهض عليها متناص رواية «المتشائل» ل «اميل حبيبي» بل انّ المؤلف لم يكتف بذلك اذ سار على نهج التّسريد في الرّوايتين المذكورتين فزرع لغز اختفاء البطل الرّوائي «عاكف الهذيلي» في القسم الأول من روايته ثمّ شاء للسردية أن تتقدّم من خلال ارتباطها بمشروع فكّ مغلقات ذلك اللّغز بأن جعل كل الشخصيات الثانوية التي عايشت البطل تنبش أرشيف الذاكرة قصد كتابة سيرة البطل كما عايشته. كما ارتقت كل قصّة وردت على لسان شخصية من الشخصيات الي مرتبة اللوحة السردية أو المرآة التي ترسم جانبا من جوانب شخصية البطل. وفي اجتماع تلك اللوحات يحقّق النص ما أفصح عنه منطوق العنوان في مفردة المرايا. فالمرايا تربطها ببعضها علاقة التجاور ولا تؤسّس سرديّا لمشروع القصة التي تستوجب حبكة وبنية حدثية درامية. وقد وعى المؤلف هذا النهج الجديد في الكتابة وأعلن عنه على لسان الراوي في القسم الذي تعلّق ببسط اللّغز في قوله: «ليس من الأمانة ان يكتب عن عاكف الهذيلي ولا بالسهولة المتصورة. أحيانا يحسّ وكأنّه ينبش في متاهة بلا قرار، ثم لا يمكن ان يختزل الأشياء بالسهولة ذاتها، إنّه نوع من الخجل والخوف، الخوف من الخواطر التي تجتاح تلافيف النفس وتغمر بهواها أحداث الماضي. الخوف من أن يصير عاكف الهذيلي قصّة وهو لا يريد كذلك ولا يأمن جنح الخيال كما لا يريدها يوميات عابرة شبيهة بتقارير البوليس السياسي». (ص 7).

إنّ القصص التي يرويها الرّاوي المتعدّد الذي يتماهى مع الشخصيات يجعل نسيج النص معقدا لا يمسك فيه السّارد بخيط السّرد الرّفيع الذي يشد أوصال النص بسهولة نظرا الى تعدّد المرايا السردية فيه بل يجعل التعامل مع متن الرّواية شبيها بالسير في متاهة .

إنّ ما إنتهينا إليه من نتائج تتعلّق بوظائف العنوان عن بنية النص وإشارته إلى المعمار الفني للرواية يتأكّد أيضا من خلال طبيعة المشروع السّردي الذي حققته الرّواية. فبتفكيكنا لبنية النص الداخلية نجدها تنخرط مع العنوان في هدم الأسس الإنشائية التي نهضت عليها الرّواية التقليدية فهي لا تلتزم بالبناء التقليدي المتعارف عليه ولا تراعي قانون الحبكة القصصية إذ لا تتوفّر على البناء الثلاثي للحكاية. ولا تنضبط بالتنويعات السّرية التي أجريت عليه بل تنحت لنفسها مخططها السّردي الذي تلوح ظلاله في العنوان. ولذلك ليست كلمة «المرايا» في بنية العنوان ترفا وتنميقا أسمائيا يروّج فيه للنص بزخرف اللّفظ بل تعكس كلمة المرايا حقيقة النص وتؤشّر لمعماره السّردي.

2 في جمالية التعالي النصي في مرايا الزّمن المتوحش:

أكّدت بعض الدّراسات الإنشائيّة أنّ جنس المزيّة في المتون السردية يتحدّد بحسب تمثّل النّص لنصوص سابقة عليه وبحسب أشكال العلاقات التي يربطها مع تلك النصوص. بل انّ تلك الدراسات في ضبطها لنظريّة في قراءة النص اعتبرت أن النصوص المعالم في كل ثقافة إنّما هي وليدة نصوص طارفة وتالدة تتقاطع فيها لتشكل نصّا جامعا تذوب في أحنائه نصوص أخرى ممّا يجعله فسيفساء تتراءى فيها أشكال وتنويعات سردية مختلفة.

ولنا أن نتدبّر ما ورثّه التداخل النصي من آثار جماليّة في رواية «مرايا الزمن المتوحش» من خلال النظر في ألوان العلاقات النصية التي عقدتها الرواية مع متناصات سردية أخرى تراوح ظهورها في النص بين الخفاء والتجلي. ولنا ان نسبر أغوار متنها قصد الكشف عن ألوان الخدع التي يمارسها النص في تستّره عن تلك العلاقات الظاهرة والخفية والتي عقدها مع متناصات متعدّدة وهي علاقات يمكن ان ننزلّها تحت ما سمّاه «ج جينات» ب «التّعالي النصي للنص وذهب في تعريفها الى اعتبارها «كل ما يضع النص في علاقة ظاهرة أو خفية أخرى» (4).
إنّ الناظر في رواية «مرايا الزمن المتوحش» يستجلي أسرار فتنتها من خلال الوقوف على ألوان الحوار التي أسسها الخطاب السّردي فيها مع نصوص سابقة. ولعلّ أكثر تلك العلاقات وضوحا استحضار «مرايا الزمن المتوحش» للسيناريو السردي الذي قام عليه منتاص «البحث عن وليد مسعود» مثلما أشرنا إلى ذلك في موضع سابق. بل إنّ الرواية لا تقيم علاقة شكلية مع متناصها لتستحضر أسلوبها الفنّي فقط بل ينشب النص اللاحق في هذه العملية التحاورية أظفاره في النص السّابق في مستويات متعدّدة من ذلك استعادة النص اللاحق لخصائص اللّغة الشعرية التي تسم متناصه الذي يتستّر عنه طلبا لحجبه. وهي لغة عانقت في كلاّ النّصين حدّا من الشفافية والفتنة. كما اكتسب النص اللاحق «مرايا الزمن المتوحش» فتنته من خلال حفاظه على بعض السّمات المميّزة للنّص السّابق الذي يربط معه علاقات تتراوح بين الخفاء والوضوح من ذلك محاكاة المؤلف «لجبرا ابراهيم جبرا» في زرع كائنات ورقيّة داخل النص تعدّ بمثابة شخصيات مركّبة حاملة لهموم اللّحظة واخراجها على شاكلة الأبطال الوجوديين. ولذلك فقد قدّها على قوالب شخصيات «البحث عن وليد مسعود» بل لا نشكّ في أنّ اعتماد المؤلف استراتيجية التّعمية والتّمويه في ربطها بمرجعيات وهميّة إذ هي لا تنتمي الى وطن بعينه. ولا يمثّل هذا الصنيع الاّ استعادة لنفس الأسلوب الذي صنع به «جبرا» كائناته الورقية اذ جعل قدر وجودها السّردي في النص مشدودا الى إماطة اللّثام عن لغز اختفاء «وليد مسعود» والذي ارتقى نضاله الى مستوى التراجيديا الوجوديّة وشكل اختفاؤه مأساة قومية ترتفع عن حدود انتمانئها الضّيق الى وطن بعينه.

إنّ هذه العلاقات التي عقدها متن «مرايا الزمن المتوحش» مع متناص «البحث عن وليد مسعود» في مستويات مختلفة يمكن تنزيلها تحت ما يسمّى بالنصيّة اللآحقةا وفي ضوئها وقفنا على وجوه من التّعامل بين نصّ لاحق ونص سابق وهي وجوه تؤكد أنّ مقايس الجمالية في النص الأدبي يتحدّد بحسب ما يعقده مع متناصاته من علاقات وبحسب اختيار المؤلف لأنماط العلاقات التي يجريها بين نصّه وتلك المتناصات غير أنّ إبداعيّة الأثر لا تتحدّد بمعيار استعادته للسيناريو السردي الذي شكّل وفقه متناص «البحث عن وليد مسعود» أو محاكاته للغته أو التناظر القائم بين الكائنات الورقية في مستوى الأسماء والأصوات القابعة خلفها. بل يتجلّى جانب الإبداعية أيضا في العلاقات السّرية التي يقيمها النص مع نصوص روائيّة أخرى من قبيل «برومسبور» و»ليلة الليالي» ل «حسن بن عثمان» في مستوى اقتراض المؤلف في «مرايا الزمن المتوحش» لآلية السخرية التي أضفت جمالية خاصة على الأسلوب السردي في المتنين السّرديين السابقين.

وقد أجرى صاحب «مرايا الزمن المتوحش» آلية السّخرية باعتماد الآلية «الحوارية» أو ما يسمّى لدى «باختين» فنقل على لسان الشخصيات مواقف نقدية ساخرة يمكن تنزيلها خارج سياقاتها النقدية الخاصة بها وهي مواقف مشحونة بحسّ الفكاهة والتهكم المبطّن بلذعة النقد. يقول السّارد على لسان «مسعد أبي الفتوح» في معرض تعليقه على الخطاب النقدي الذي تنتجه المؤسسة الجامعية: «بانت لي كتابتي كالاستمناء، أول شعور يتقاذفني لا لشيء الاّ لكوني كدت أبتلع أقراص الحداثة والتقنيات الجديدة وما إليها من الشطحات التي يتعشقها جامعيونا المتقاعدون أصحاب الكراسي الجلدية الفاخرة. ومن خلال بعض الهذيانات صار البعض باسم التحرر من القوالب وتكسير نمطية الخطاب وما الى ذلك من العبارات الرنّانة.. لست الفيلسوف الذي يمدّد نفسه على سرير بروكست ولا أدعي أن أكون فرزدق زماني حتى أصعد الى الجبل... ثم أعقل ناقتي وأتوسد ذراعي وأنام حتى يأتيني لافظ أو مسحل فما أقوم حتى أقول مائة وثلاثة عشر بيتا» (ص ص 8 9). يمعن هذا الصّوت النّقدي الذي يتسلّل إلى النص من خارج سياقه الحكائي التخييلي في التعريض بسلطة الخطاب النقدي التي تربك العمل الإبداعي وهو خطاب تحتكره جهات أكاديميّة لا تدرك أسرار العملية الإبداعية بل إنّها تشوّه فتنتها عندما تسيجها بجملة من الضوابط وترسم سنن إنتاجها وتحدّد مراسم تقبلها. ويبدو حسّ التّهكم من تلك المؤسسة جليا من خلال فضح عقم خطابها عند استعادة مأزق القراءة القديمة التي باشرت النص الشّعري فكبّلته بنظرية العمود الشعري وهو ما أبان عنه المشهد السّاخر الذي استحضر صورة الفرزدق وشياطين شعره.

ولا يخفي ما ينتجه حضور هذا الصوت القابع خارج النص السّردي الذي ينهض على التّخييل عادة من إرباك في مستوى النص وتشويش يبعث على الدهشة خاصة اذا علمنا بتمايز الحدود بين النص السّردي والخطاب النّقدي. وهو أمر يجعل السّياق السّاخر الذي تلتبس فيه السخرية بالتّعريض والنّقد مؤسسا لوظيفة النصية الواصفة إذ تعمّد الرّاوي من خارج الحكاية إقحام بعض النصوص النقدية التي دكّ حضورها في المتن الإبداعي الحدود بين أجناس الخطاب. وفتح بها تجويفات داخل النص شرّح من خلالها النص بنيته الدّاخلية فيما يشبه تقويم النص لحدود صناعته. وبذلك نشأت علاقات طريفة بين النص التخييلي والنص النقدي انفتحت بواسطتها ألوان من الحوار عقدها المؤلف بين سلطتين متعارضتين في العادة وهما سلطة الإبداع وسلطة النقد وقد ورد هذا الحوار صريحا في بعض السياقات النّصية التي كشف فيها تدخّل السلطة الثانية بعض الخيوط الرفيعة الثاوية في بنية النص. يقول الرّاوي من خارج النص: «لست فهد السّائجي الكائن الورقي الذي يصنع الأحداث ويغيّر مصير الأشياء بدون إحساس، يكفي أنّني الشّاهد الذي لامس من بعيد أو قريب خيوطا قد تضيء الحقيقة أو تعمي البصيرة نهائيا تبدو الأشياء ملتبسة إذا. أنا الشّاهد والضحيّة الحاضر والغائب في آن ولست الاّ العابر الغريب في حكاية لا دخل لي فيها إلاّ بما تفيد الحقيقة ويكشف موتا غامضا حصل في ظروف غامضة ص 162

إنّ اشتغال هذه الآلية أي آلية النصيّة الواصفة من شأنه أن يجعل السّياق السّردي في النص منفتحا على تعدّد أجناسي كما يكسب الرّواية سمات جماليّة تنخرط بها في مسلك الرّواية التّجريبية التي لا تفتأ تبحث عن سبل إنشائية جديدة في الكتابة الرّوائية. ولعلّ من بين هذه الأدوات التّجريبية التي راهنت عليها الرّواية عقد ألوان من العلاقات النصية مع نصوص أخرى بأشكال متعدّدة يمكن تنزيلها تحت أنماط التّعالي النصي من ذلك ما أحدثه الحضور الصريح لنص شعري ل «جاك بريفار» من أثر شعريّ ووقع جمالي في النص سيما وأنّه حضر بصياغته الفرنسية على سبيل الممارسة العادية ل «الاستشهاد» شكلا من أشكال التّعالي النصي. بالإضافة الى حضور الفاتحة الرّمزية التي انفتحت به الرواية والتي ذكرت باللّوحة التي انفتح بها نصّ رواية الشحاذ من ذلك قول الرّاوي في الصفحة الأولى من رواية «مرايا الزمن المتوحش»: طيور تتموّج في المدى الأزرق، نقطة سوداء تمتدّ على الأفق... طفلة صغيرة تسوق بقراتها على مهل ثم تذوب شيئا فشيئا في الوهد.. زخّة المطر تلثم الوجنتين إنّها الأشياء كما هي تسير بصمت ثم تنفذ في أعماقنا... سيقتلنا صمتها الأخرس ص «7» وتكاد هذه اللّوحة تطابق اللّوحة التي نقلها الرّاوي في قوله في رواية «الشّحاذ» سحائب ناصعة البياض تسبح في محيط أزرق، تظلّل خضرة تغطي سطح الأرض في استواء وامتداد، وأبقار ترعى تعكس أعينها طمأنينة راسخة، ولا علامة تدلّ علي وطن من الأوطان» (5).

إنّ المتأمّل في هذه العلاقة وغيرها من العلاقات النصية الأخرى التي عقدتها الرّواية مع نصوص أخرى كشفنا عن بعضها بحسب ما أبان عنه متنها يستشّف عمق الممارسة التّجريبية التي مارسها المؤلف عند بناء نصّه. فقد راهن على محاورة نصوص معالم في الرّواية العربيّة فكانت روايته بحقّ مرايا انعكست عليها فتنة النص في استحضاره ظلالا من نصوص أخرى.
عبد الرزاق جمايعي

الهوامش:

1 (السومري) عبد الرزاق 2003، مرايا الزّمن المتوحش، ط. دار الأطلسية للنشر، تونس.

2 (المبخوت) شكري: 1993، جماليّة الألفة، ط. دار الحكمة، قرطاج، تونس.

3 – جيرار جينيت – كتاب : طروس : الأدب من الدرجة الثانية – دار نشر : سوي ...

4 – نفس المصدر

5 (محفوظ) نجيب: 1993، الشّحاذ، ص 5، ط. الدار التونسية للنشر، تونس

عبد الرزاق جمايعي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى