الأربعاء ٢٩ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم مصطفى أدمين

عُزلةٌ في ليلِ شمسٍ لا تغيبْ

أيُّ شيءٍ يُجبرُني على كَرْع ِ مَرارةِ الوحدة من بِرْكَةِ العُزلة الآسِنة؟ لا شيءَ يُلزمُني أخلاقياً بأنْ أستمِرَّ في تجرُّع سُمَّ المدَنية الحمقاء. كلُّ شيءٍ ملأتْني به الأغاني الشجيّة لـ (مارينيلاّ) الإغريقية، يُرغمُني على الخروج إلى المجتمع في هذه اللحظة بالذات. ليس لأنسى وحدتي، فالإحساسُ بالوحدة لصيقٌ بذاتي المنشطِرة بين رغبتي فيما تغيير ما هو كائن ضِدَّ رغبةِ ما هو كائن في استمرارية كينونتِه العبثية. ما هو كائنٌ ليس الطّبيعة؛ إنها الثقافة الوائدَة بجميع تجلِّياتِها الظالمة: الظُّلمُ، الاستبدادُ، القهْرُ، الكذبُ، النفاقُ، طُغيانُ الحيوان على الإنسان، غيابُ هذا الأخير، البحثُ العبثي عن صديق...

مُرّاكُشُ تظهرُ للشّخصِ المعزول المنعزل الأعزل ـ من شُرفةِ شَقَّةٍ في الطابق الرابع، ليلاً، في قيْضِ شهر أغسطُس المجوسي، تحت شمسٍ منسِية، بين كأس وسيجارة رديئين ـ مثلَ قطعةِ شكولاطة مُتأحفِرَة في براءة طفولة لا تُنسى. لا شيءَ يُجبرُني على كَرْع مرارة الوجود حتّى منتصف الليل أو أكثر. (العيْشُ صَعْبٌ) والمرارة تجري في عروقي مثل نُسْغ ٍ مسموم في عُروقِ نخلةٍ نخرتْها السياسة. الناسُ في اللاأدب، وأنا في الأدب، وهذا مصدرُ عذابي. لذا سأخرجُ عليهم الليلة بكلِّ ما أوتيتُ من حِكمة، وسأخرجُ فيهم بما لديَّ من جنون، وسأدخُلُ فيهم بمخزون أربعين سنة من الأسئِلة.

في الارتفاع اللصيق بالأرض، جلستُ إلى طاولة في سطح مقهى (النَّهْضَة) أرقُبُ شمْساً رصاصيةً لا تُريدُ أنْ تغيب. فأحْدثَ فِيَ الشعورُ بالتناقُض ِ ألَماً لا يُطاقُ في مستوى (باب المعِدة). أهـْ!.. إلى متى سأضَلُّ أشعُرُ بأنّني شخصٌ مختلِف؟ ولماذا يجِبُ عليَّ أنْ أتعذّب؟ لماذا أنا؟ من أنا؟ من أنتُم؟... يقولُ (أفْلاطونْ):(اعْرَفْ نفسَكَ بنفسِك!)، ويقول (مِيكْيافيلّي):(اعرف عدُوّك!)، وتقولُ (اللاأدْرِية):(المعرفةُ مُستحيلة)، ويقولُ الفِكْرُ السِّياسَوي:(لسلامتِكَ، يجبُ عليك ألاّ تعرف)، وتقولُ (الحِكمةُ الشعبية):(البابُ الذي يأتيك الريحُ منه، أغلِقه!)، ويقولُ والدي:(ستشْقى يا ولدي...).

انتقلَ الألمُ إلى جِهة القلْب... ينبغي قلْبُ شيءٍ مّا. جنَّ الليْل. ربّما بسبب الشمس الرصاصية التي لا تُريدُ أنْ تغيب. وأنا خارجٌ من عزلتي إلى هذا السَّطْح. وهناكَ في الداخِل امرأةٌ خمْرية زاهية في لونِ العِنَب البنفسجي. هِيَ... هِيَ التي ستُنقِدني لبعض الوقتِ مِمّا أنا فيه من ضيقٍ ووحدانية. أراها تعبُّ مشروبَها في صمت. أشرتُ إليها بأن تجيء لكي تقتسِمَ معي طاولتي، فأشارتْ بأن آتِيَ أنا. اسْتسلمْتُ. سألتُ، فأجابتْ، وسألتُ فأجابتْ، وشربَتْ، وطلَبتِ المزيد، وسألتُ فأجابتْ، إلى أنْ أزفَ موعِدُ شُغْلِها بفندق (مُراكُش)؛ الفنُدُق الذي ما كان، والذي كُنّا نُسمّيه في طُفولتِنا بـ (عَرْصَة الصحْراوي) والذي تقلّدْتُ فيها رُتْبة (كولونيل)...

قُمْنا؛ فرأيتُها تعرج... بلْ كانتْ عرجاء، لكنّ عَرَجَها جميل؛ وكأنّها ترسُمُ برجْلها اليُسْرى كلمَاتٍ ضائعةً، ونُقَطاً حائرةً، وفواصلَ حزينة؛ بعد كلِّ اندفاعةٍ من جِسْمِها الشّقي. وكانَ ذِراعُها الأيْسَرُ مسْلوخاً.
ـ سنستقِلُّ طاكسي. قلتُ.
ـ لا داعي لذلك؛ سأردِفُكَ على درّاجتي النارية.
وأنا خلفَها في ذلِك الليل المُرّاكُشي القائظ، شعرتُ ببعضِ الأمَل لكوْني عثرتُ على روح ٍ مُعذّبةٍ مثلي. وانطلقتْ كسهمٍ مُلْتَوٍ صوْبَ صومعة (الكُتُبية)، وضفائرُ شعرها الذهبي الفائضِ عن خوذة رأسِها الحديدية يَسُوطُ وجهي... الشعور بالوحدة انحَسَر في تلك اللحظة. الليل والشمسُ والرُّكوبُ وهذه العنزة (العِراقية) (المنسوبة إلى عِرْق اللذّة البارز على بطْن ساقِها السليمة) أعادَ لي بعْضَ الأمَل...

على شفير مَسْبح الفُندق، أجلستْني لَصْقَها، وشرَعتْ (تضربُ الورق) للأجانب. كُلٌّ بلُغتِه. ومن حين لآخر كانتْ تمتصُّ فمي. وتقول لزبونة أو زبون:(ذيسْ إيزْ مايْ لُوڤْ). أنا إنسانٌ، ولستُ حُبَّها؛ وأيُّ حُبٍّ مُمكِنٍ بين رجُلٍ وامرأةٍ انقلبتْ بينهُما الأدوار؟ حاولتُ الوقوفَ لأجل تأمُّلِ الشمسِ التي بدتْ لي تغرقُ في مياه المسبَح، فأقعدَتْني. قعيدٌ لصْقَ عرْجاء. ولي صديقُ يشكو (هو الآخر من الوحدة) بمدينة (طَنْجَة) العامرة. بين (الوحدتيْن) هُوة سحيقة. عجيبٌ أن يكونَ لكلِّ من يعيشُ الوحدة القاتِلة، ألفُ صديقٍ يعيشون الوحدة القاتلة! يا شاعِرين بالوحدة في العالم؛ اتَّحِدواْ!

جَنَتْ في تلك الليلة مالاً كثيراً، وشرَّبتْني من (المُغْرَبي المنقوصِ رُبْعُه) ما لا أستطيع؛ فتجلّتْ لي صورتُها الحقيقية شَرّاً كُلَّه، فعادَ عليَّ الإحساسُ بالعزلة أثْقَل وأعْمَق. وعندما انتابَني القيءُ، عرفْتُ بأنّني صِرتُ إنساناً محْكوماً عليه بالوحدَة الأبدية. فشدَّتْ على صُدْغَيَّ في المرحاض. وبعدَ أنْ تقيّأْتُ أمْعائي، غسَّلتْني، ثم اتّكأتْ عَليَّ بقُبْلة نَتِنة ما أنقدني منها غيرُ المسؤول عن (التْواليتْ)... أيُّ عشقٍ هذا؟... أيُّ حُمْق؟. فأخرجتْني منه إلى حُفرة الموسيقى الساقِطة والرقص المجنون، والخمور المُدلّسَة...
ـ كيف حدث لذِراعِك المسلوخ؟
ـ كنتُ شاربةً فسقطتُ.
ـ ومَنْ هذا الشابُّ الجالسُ معنا؟
ـ إنّه ابنُ حَيّنا.
ـ وما هو حيُّكُم؟
ـ سيدي (يوسُفْ بن عْلي).
ـ وكيف حدثَ لك أنْ صِرتِ عَرْجاء؟
فتبدّلتْ سحنتُها إلى أبْشَع وقالتْ من بين نواجِدِها:
ـ (بارَكا) من الأسئلة... اشرب على حِسابي، وكُنْ مُستعِدّا لليلة (ساخِنة) في بيتي...

خبَّأتُ اشمِئْزازي وطلبتُ منها أن تسمحَ لي بالذهاب إلى (التْواليتْ)؛ فقالتْ:(ما كَايِنْ مُوشْكِل يا حبيبي.) ومْنها تسَلَّلْتُ إلى بيت الصّديق... إلى خمْرة الأسف... إلى المزيد من الشعور بألم الوحدة... إلى قديم عُزْلتي واعتزالي... وبالقلم غير القابِل للمحْو، كتبتُ على صفحة مكتبه:(صديقي العزيز؛ شُكْراً لك على حُسْن الضيافة، والآن سأرْحَلُ إلى (كَفْري) لكي أعيش على إرْثي، فَلاَّحاً تحت رحمَة السماء، وأمّا مفاتيحُ بيْتِك، فستجِدُها عند جارك البقّال....)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى