الأربعاء ٢٩ حزيران (يونيو) ٢٠١١

قضاء وقدر

رقية عبّوش

في تلك الممرات الضيقة، رائحة الموت طغت على المكان، أصوات أوجاع تكاد لا تُسمع، ألم لا يحس بلسعاته إلا من حمله بين أحشائه. بينما كنت زائرة لمريض حل ضيفاً على المستشفى، ليشفي جراح البدن إثر حادث انفجار وقع في قلب المدينة، ليحطم قلوب ساكنيها. إلا أن الصدف والقدر ساعداه على أن يكون أوفر حظاً من غيره، ويكون طريح سرير المستشفى، فلفّ بشيء من الضماد، وحمد الله على انه لم يلف بكفن.

دفعني فضولي إلى التجوال في ممرات المستشفى، لألقي نظرة داخل بعض الغرف، لا ابتغي شيئاً معيناً، لكنني في حقيقة الأمر رحت ابحث عن شيء ما، اجهل تفاصيله، دفعني للبحث عنه.

بكاءٌ بصمت، حين سمعته من الغرفة المقابلة لي، ظننت انه آت من احد المرضى لفرط ألمه، إلا أن الأمر غير ذلك... كان البكاء لأم فقدت ابنتها. بعد دخولي بحجة بحثي عن شيء ما، أنصتُّ إلى الحديث الدائر بين أهل الضحية، فتبين لي أنها امرأة من تقاسيم جسدها تحت الغطاء.

حقيقة أذهلني ما سمعت، أهل الضحية يتلافون معرفة الطبيب بملابسات الحادث الذي أودى بحياة الضحية، حريق ما شب في جسدها، أنهى حياتها بعد أيام قضتها بمرارة وصراع مع الألم، كل ما قام به الطبيب هو أنه أكمل كتابة التقرير بالشكل الذي يلائم الموقف لأهل الضحية، مع اختلاق شيء من الأكاذيب، بأن النار التي التهمتها شبت بمجرد حادث و(قضاء وقدر)، أما حقيقة الأمر التي تحققت منها من خلال حديثهم، وبعض الأسئلة التي طرحتها على الممرضات والعاملين في خدمة الغرف، وأهالي المرضى هناك، أنها هي التي كتبت تفاصيل قدرها، وأشعلت النار في جسدها. بعد المعاناة التي عاشتها في صراع بين أهلها وزوجها الذي كان يبرحها ضرباً كل صباح ومساء، بسبب وبغير سبب، مكملاً للذة الكأس الذي يحتسيه كل ليلة، وبعد فرارها من زوجها إلى بيت أهلها بدأت المشاحنات تأخذ أطاراً أوسع، حتى وصلت بها الحال إلى أن تضرم النار في جسدها، محاولة لفت انتباههم، إلى ما تحسه من ألم وعذاب وإحباط نفسي.

مشكلتنا أننا ما زلنا ندور في دائرة مغلقة، كلما حاولنا فتح هذه الحلقة عدنا إلى إحكام غلقها من جديد، نضع قوانين قضائية وننشئ منظمات ونخلق حقوقاً إنسانية، كل ذلك مجرد تدوينات وعلم متداول غير معمول به. فلمثل حال هذه الضحية وجب على من هم يناشدون حقوق الإنسان البحث وراء القضية ومعرفة أسباب الحادث وما هي الدوافع التي تجعل الإنسان يزهق روحه بيده بهذه الطريقة، ومقاضاة من يدفعوا بها إلى حالة الإحباط التي أودت بها لتقوم بهذا الفعل، وان كنا غافلين عما يحدث كل يوم حولنا من انتهاكات للحق الإنساني فهذا يأتي من بعد نظرتنا عن الجوانب الإنسانية التي أهملناها، وما يؤلم حقاً حين نرى حال تلك السيدة ومثيلاتها، ونظرة المجتمع إليها كقاتل حوكم بالإعدام ونال العقاب المستحق، ورحنا نبحث وندقق ونتعب تفكيرنا في سؤال لا جواب له (هل هي من أهل الجنة؟ أم من أهل النار؟)، ناسين أو متناسين رحمة الله التي وسعت كل شيء!

أما أهل ضحايا الانتحار إن كان حرقا أو بعيار ناري او بسمّ، فيتلافون حقيقة ما حدث لضحاياهم! وكأنها ارتكبت إثماً وأساءت إلى سمعة أهلها أو انتهك عِرضها، فقتلت نفسها، تاركين الجوانب النفسية والإنسانية وما يتعرض له الإنسان من ضغط نفسي من المجتمع والمحيطين به.

كل ما نأمله اليوم وغداً هو أن نبحث عن حقوق الإنسانية الحقيقية، ولا نتركها مجرد شعار نهتف به، ولافتات معلقة على الجدران

رقية عبّوش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى