الأربعاء ٢٩ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم عبد الجبار الحمدي

دماء تحمل الفقر..........

تواترت الأيام نهبا في أجساد صغيرة، بعدما كتبت الفراق عنوان على أبواب الحياة، وجاء المرض يحمل عباءته السوداء ليسدلها كستار في نهاية عمر، على مسرح الحياة الكبير، أما هو فقد دلف ينظر إلى نبتة عمره، وهي تذبل خلف الكواليس، رغم أنه صفق كثيرا براحتي يديه، حسرات على عدم قدرته لفعل أي شيء، فبعد أن نقر الغراب جرته، وأسقط ما فيها من بقايا قوت لأيام سوداء، ساءت حالة ولده الصغير، طرق أبواب السؤال عونا من قلوب رحيمة، تَعرف جيدا انه في عوز، لم ينل استحقاق آدميته، رغم أن الكثير ممن لم يستحقوها، توجوا بها، ورغم نواميس داعرة، شطب العدالة من قاموسه، أمسى هوسه الوطن وأبنه، فبعد أن سار في طرق عديدة بحثا لأمل في علاج ولده الوحيد، إلى من حملوا الإنسانية شعارا، والديمقراطية رداء لكل الطبقات، وحين وصلت عنده ضاقت بالقياس عليه، لأنه دون الآدمية التي ينظرونها، فقد صنف هو ومن هم على شاكلته، مشاريع وهمية، الغرض منها الدعاية والكسب السريع، فمال إلى جيران وأصدقاء، كان الحنق يملئه شهيقها، وزفيره ينفث الآه دموع كبرياء، إهانة وألم، حتى ذلك اليوم حين حمله على يديه وهو يدفع باب الغرفة، ليضعه على السرير أمام الطبيب باكيا، أرجوك يا دكتور أتوسل إليك.. أنه ولدي لقد هزل وسقط فجأة! لم اعلم لحد الآن ما علته؟!! رغم أني راجعت الكثير من الأطباء، بَيدَ أن تشخيصهم لم يقع على علته، أتوسل إليك افعل شيئا، كان الطبيب مشغولا بغيره، فقد اعتادت العيادات الخاصة على كثرة شكوى المرض، بعد أن نزل على بلدهم كالوباء بلاء، الكل يشكي والكل مريض، فبعد شعورهم أن الحياة يمكن لها أن تتغير، إلا أن الغراب لا زال ينعق، لذا ترى الكثير من النفوس تتساقط، حتى باتت أماكن عيادات الأطباء كمحال التسوق اليومي، لا تنفك من مرضى يشكون رفع الأوجاع والمعاناة، فليس عليك أن تشكو مرضا عضويا، حتى تكون مريضا، فقد طغت الأمراض النفسية، والانتظار المميت للتغيير، هي الوباء الحقيقي لإبادة الإنسان، لم يكن الطبيب في بادئ الأمر مهتما، فبين يديه مرضى يحاول أن يستمع إليهم سوية، حتى يصف العلاج مرة واحدة، وللجميع، كان الطفل الصغير قد تبسم إلى تلك الملائكة التي التفت حوله،وهو بالكاد يتحرك، فقد أثخنه الوجع صمتا مميتا، حتى اختلط بياض عينيه مع سوادها، تضرعت كل المعاناة توسلا مع جريان دم أضمحل جوعا في بدن، التصق الجلد على نوازع عظام متآكلة آيلة للسقوط، فوهن العظم شيبا، مد يدا ليمسك أحد أصابع يد والده توسلا لراحة من ألم، هاجت مواجع أبيه فصرخ ... أرجوك أرحم ولدي، وارحمني ووالدته، إنه يموت ألا ترى!!! أنه طفلنا الوحيد الذي خرجنا به من هذه الدنيا العقيمة، وانحنى باكيا ...أُقَبل يدك، ألتفت الطبيب نحوه...، ثم تطلع إلى الطفل، وقد تمددت أوصاله كل على حدة، كأنه في غيبوبة أو ميت، فهو لا يصدر أية حركة، رق له وضع الطبيب سماعته على صدر الصغير، ليسمع أنات قلب متعب باكٍ يشكو الوجع، فتح عينيه ليجدها قد لبست البياض والسواد حزنا على رحيق عمر، أَسْكَت والداه، أَخرَجَ من كان في الغرفة، وقال: ما هذا؟؟!! أنه مريض جدا، حالته متأخرة، وأخذ يقلب الصغير ذات اليمين واليسار، أملا ولو بحركة حتى وإن كانت لا إرادية، حاول ضربه على وجنتيه اللاتي مزقها المرض تشققا وامتص رونقها جفافا، عله يستجيب أو يفتح عيناه، ألتفت إلى الأب... غريب أمرك يا رجل!! إن ولدك في حالة متأخرة جدا، لا أدري ما اصنع له، لما تأخرت عنه هكذا وتركت المرض يأكل عظامه الصغيرة، وينخرها، استجمع كلمات تمنت الموت لنفسه لا لصغيره فقال: لا يا سيدي لم أفعل.. لكني حاولت علاجه أقسم بالله، وراجعت العديد من الأطباء، وخاصة أطباء العيادات الشعبية، والمستشفيات الحكومية، فليس لي القدرة على مراجعة العيادات أو المستشفيات الخاصة، فأنا كما ترى حالتي لا تسمح، ولولا أهل الخير والرحمة ما حضرت اليوم عندك، أتوسل إليك، اقبل يدك وقفز على يد الطبيب ليقبلها،كانت والدته قدر رمت بنفسها هي الأخرى على قدمي الطبيب باكية... أرجوك أرحمني وأنقذ ولدي، لقد رأيت العذاب حتى وُلِد، سأعمل خادمة لك مدى عمري، أرجوك، كان الطبيب يدرك أن لا حول له ولا قوة، فالمرض قد استفحل بولده، وتمكن منه، حسنا اهدءوا سأرى ماذا يمكنني أن افعل!! نادى على الممرض طالبا منه عمل تحاليل الدم اللازمة له، ليتأكد من تشخيصه، ربما يكون مخطئاً، كان الأب وألام في حالة ذعر، قلوبهم تتضرع إلى الله وعيونهم تبكي الشكوى على ضعف حال، وعقل ووجع من عوز، يدعو ويشتم مسئولي الدولة، وما آل إليه الحال التعس، فهو من سيء إلى أسوأ، في تلك الأثناء عمد الطبيب تعاطفا، إلى إدخال الصغير في مستشفى خاص يعمل فيه، كل ذلك يحدث كشريط سينمائي، والوالدان بين لوعة وفرحة أمل، لم يصدقوا ما شاهدوه، سكن روعهم قليلا، أنه الآن بين يدي الله، وتلك الأسباب، وجاءت نتيجة التحاليل، طلب الطبيب من الأم والأب أن يجلسا ليحدثهما عن مرض ولدهم، فقال لهم: لقد شككت في بداية الأمر عن تشخيصي، إلا انه تبين وبعد التحليل، أنني على صواب، إن ولدكم مصاب بمرض فقر الدم، ويسمى الثلاسيميا، ولا أدري إن شَخّص لكم طبيبا آخر حالته، إلا أنها متأخرة جدا، وهو مرض يصيب الجلوبين، أي الدم في الإنسان، كما أنه يعمل على مادة الهيموجلوبين ويصيبها بالعجز، مع عدم قدرتها على حمل الأكسجين للرئتين، ولأجزاء الجسم الأخرى، أي بمعنى آخر هو مصاب بالأنيميا الحادة، وهذا المرض وراثي، أي أن السبب هو تشابه دم الأب وألام، أقول لكم ذلك ولا أدري إن كنتم تعون ما أقول أم لا لكن واجبي يحتم علي إخباركم، كان الأب فاغرا فاه والأم قد فقدت النطق، فهم لا يعرفون عن ماذا يتكلم الطبيب، تحدث الأب فجأة! فور توقف الطبيب عن الكلام قائلا: يعني الفقر قد لحق بنا حتى إلى الدم ليمتصه يا الله أرجو لطفك، ولكن هل يمكن علاجه يا دكتور؟؟ وهل سيعيش؟؟؟ وجم الطبيب وهو يرى تكسر الدموع على وجوه نخرها العوز، والحظ، والجهل، فأطبقت بمخالبها على نفس بريئة، لا لشيء فقط لأن الفقر قاتل، والعوز يغتال حياة الأبرياء، أجاب: لا أظن أن هناك علاج، فحالته متأخرة جدا، نحبت الأم بصوت ارتجفت العذابات كلها لطما على وجه قدر، وخرجت تجري نحو ولدها الصغير، دفعت الباب وهي تصرخ ولدي محمد... لا تتركني وتذهب، خذني معك وأمسكت تهز جسده الصغير، والذي بات بين يديها كسعفة فقدت رمق الحياة، وما أن أحست برحيله، حتى صرخت... محمد، خرت بعدها على الأرض، هرعت الممرضات نحوها، إلا إنها قد فارقت الحياة، كان الأب لا زال في غرفة الطبيب، يرجوه أن يفعل شيئا، فرأى أن هناك حالة من الذعر، والهرج، تصور أن ولده قد فارق الحياة، قفز من مكانه إلى الردهة، وجدهم متجمعين فوق جسد زوجته، صرخ هو الآخر، بعد أن وجد ولده قد أسلم روحه أيضا إلى خالقها، رمى بنفسه فوق ولده.. صارخا لا..لا..لا...... بُني... حبيبي لماذا؟؟؟ يا الله؟؟ لماذا لقد كان صغيرا لم يرى من الحياة شيئا؟ لِمَ عليه أن يدفع ثمن العوز والفقر؟ ونظر إلى زوجته وهي ممدة على الأرض وصرخ.. لا تتركوني وحيدا في هذا العالم الحقير المليء بأنيميا الإنسانية والموت... وعمد على ضرب رأسه في الحائط، إلا أن تدخل الممرضون والإمساك به، محاولة ردعه، أفقدته توازنه، فصار يصرخ فيهم، ويسب، ويشتم من أوصله إلى هذه الحالة، فغيره ممن جاؤوا يرفعون شعارات الحياة الجديدة، والتغيير محصنون من كل شيء، لم يكن يعرف أبدا، أنه ومن هم على شاكلته وقود التغيير والحياة الجديدة، وإنها ستكون على حساب عذاباتهم وأوجاعهم، فغيرهم مُنَعَم بثروات الوطن، بعد أن باع إنسانيته وضميره، ومن ثم باع تراب وطنه، وها هو طفله يجني الموت موطنا، وسيعود إلى التراب جسد بعظام برعميه، ومن مثله العديد، الذين تربوا على هذه الأرض، لعلها تثمر يوما، لتكون بعيدة كل البعد عن الشعارات الوطنية الجديدة، وعن القادمين من البعيد، عبر البحر المتوسط حاملين فقر الدم معهم، وفقر الضمير، وباء لقتل الأبرياء.

الأخ كاتب النص

نرجو أن ترسل المقال مقسما لفقرات وأن تترك كل فقرة بعدها سطر فارغ ليظهر النص بشكل جذاب وليس كأنه فقرة واحدة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى