الاثنين ١١ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم محمد نادر زعيتر

ابن الأعورين

وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ

ابن الأعورين.. ابن الأعورين ...كم كانت تحز في نفسه إذ يُـغْـمَـز نحوه سراً أو تلميحاً!


فؤاد طالب في السنة النهائية للثانوية، في وجهه آثار حبوب مندملة، يلبس نظارات سميكة، معروف بذكائه، مشهور بتفوقه الدراسي، لطالما سمع من والدته أنها كانت تتمنى أن يحصّل علامات الطب في فحص الشهادة الثانوية وأن يتخصص في طب العيون في اسبانيا، لايدري فؤاد سر هذه الأمنية ولماذا اسبانيا بالذات؟

والده كان أعور، توفي بينما كان فؤاد في السنة الرابعة من العمر، وترك للعائلة بناية سكنية فخمة معدة للإيجار فضلاً عن منزل السكن الحالي.

والدته مثقفة موظفة إدارية في جهة عامة، كانت هي أيضاً عوراء، لذلك كان ينظر إليه الحاسدون بازدراء وينعتونه بابن الأعورين.

له أربعة إخوة، أختان تزوجتا وأخوان تركا الدراسة لكي يعملا في مهنة كهرباء السيارات للمؤازرة في معيشة العائلة.


ـــ أمي، لماذا وأنت عوراء تزوجت والدي الأعور، فكنت الضحية بأن أصبح نظري حسيراً؟ ألا تعرفون أن الوراثة قد تؤدي إلى اضطراب في النسل؟

ـــ مخطئ يا بني، أنا لا أتصل بوالدك قبل الزواج بصلة القرابة، ثم إن إصابة العين ليست من الأمراض الوراثية، إنها عارض جسدي. ولم يكن في عائلة والدك أو عائلتي من لديه مرض في العيون.


نجح فؤاد في الثانوية بتفوق، وانتسب لكلية الطب، وتخرج في الطب بامتياز، أصرت عليه والدته أن يتابع دراسته ليتخصص في طب العيون في الجامعة المركزية في مدريد حصراً، نعم فعل ذلك، درس في الجامعة المذكورة وتخرج بدرجة الشرف على زملائه، عرضت عليه إدارة الجامعة أن تتعاقد معه للعمل فيها بصفة بروفسور، اعتذر، إن قومه أحوج إليه ....


عاد إلى الوطن، إلى وطن الوطن حضن أمه، مفتخراً معتزاً بها لأنها كانت المهماز الذي أوصله لهذا المآل.

وفي فرصة سانحة، انفردت الأم بابنها فؤاد ليكون بينهما سجال ذو بال!

ـــ أي فؤادي الحبيب، سأنهي إليك بسر دفين، كان بالنسبة لي كسجن نفسي لا أستطيع منه فكاكاً، والدك لم يكن بالأصل أعور، وكذلك والدتك لم تكن بالأصل عوراء،

بينما كنتَ في الثالثة من العمر أصبتَ بمرض الجدري الذي فتك بوجهك وشوه عينيك، وبعد التعافي من هذا المرض الوبيل، تبين أنك فقدت البصر، راجعنا طبيباً مختصاً في العيون في العاصمة متخرجاً من اسبانيا.

ــــ لا أمل في إعادة البصر، لكن يوجد في اسبانيا في مشفى مركزي في مدريد تابع للجامعة بروفسور مشهور يتجرأ على إجراء مثل هذه العمليات وأغلبها ناجحة، ويقصده مرضى من أنحاء العالم لهذه المعالجة الحساسة.

أسقط في يد أبيك وأمك، لا يدريان ما يفعلان، هل يستسلمان للمصيبة وثمة بصيص أمل ولو في آخر الدنيا، ثم المصاريف الباهظة من أين؟ الحال لا يساعد على هذه المغامرة.

وهما ـــ ياولدي ـــ في غمرة الحراك الفكري الخناس، اتصل طبيب العيون في العاصمة بأبيك يعلمه أن وفداً طبياً اسبانياً من شتى الاختصاصات قادم لسورية بعد شهر، وأنه سوف يقوم بإجراء عمليات جراحية نوعية مجاناً وخاصة في أمراض العيون، ويضيف هذا الطبيب: إن من حسن الحظ أن يكون من عداد الوفد ذلك البروفسور الشهير، وأنه ابلغه بحالة فؤاد ووعد خيراً. أنصحكم بالمثول إلى عيادتي مع فؤاد كي تنجزوا الفحوصات النسيجية والمخبرية والدموية لتحديد المتبرع بعينه لاستبيان صلاحيته، استجاب الوالدان وتبين بنتيجة الفحوصات صلاحيتهما (الوالدين كليهما) الفنية لإمكانية التبرع،

ـــ أنا الوالد أولى بالتبرع يا أم فؤاد، أنت ذات مهام متعددة ومن الصعب أن تقومي بواجباتك العائلية والاجتماعية على ما يرام إذا أصبحت بعين وحيدة.

ـــ أنت رب العائلة ومسؤوليتك أعظم، دعني أريح ضميري بأن أكون المتبرعة أليس هو قطعة من كياني أصلاً؟

حين لاحظ الطبيب تهافتهما على التبرع، ألقى كلاماً جزافاً بأن يتبرع الإثنان كل منهما بعين، ولكن هذا الكلام أخذ على محمل الجد، وتم الاتفاق أن يقدم كل من الأبوين عينه، وجرت الرياح كما تشتهي السفنُ....

تجري العملية، تنجح العملية، ويبصر فؤاد النور بعيني والديه، بينما يغدو كل منهما أعور،

ـــ كان ذلك منذ ربع قرن يا فؤادي، بعد العملية بسنة واحدة يتوفى والدك، وبقي سر العملية محفوظاً حتى الآن لا يباح به لأحد. انتظر قليلاً....

عادت الأم وهي تحمل بين يديها قارورة.

ـــ انظر فؤادي إلى داخل هذه القارورة في السائل المطهر ضمنها، ماذا تجد؟

تأمل فؤاد ــ وهو الآن طبيب العيون الدكتور فؤاد ـــ محتوى القارورة.

ـــ هنا يا ولدي ترقد عينان أغلى عينين في العالم، عينا فؤاد اللتان استبدلتا بعين يمنى من أبيه وعين يسرى من أمه، وهما الآن تحدقان، إنهما أمانة مكنونة احتفظت بها للآن للوعد المحتوم.

انكب فؤاد على قدمي أمه يقبلهما والعبرات تغالبه والكلام يصمت، أما أمه الرؤوم فقد مالت عليه حانية واختلطت الزفرات والعبرات وتشعَّث شعرها الأشهب على محيا فؤاد في مشهد درامي عنيف.

ـــ والدك، بعد إجراء العملية هجر مهنته كصائغ لأنه لم يعد لائقا لها بعد أن غدا أعور, و بعد سنة واحدة حيث تفاقم الالتهاب الناجم عن العملية وطغى على سائر الجسم توفي حاملاً معه سره الدفين.

ـــ أنا والدتك، استقلت من الوظيفة، وكنت أتدبر تكاليف الحياة..

ـــ والدتي ما سر إصرارك على تخصصي بطب العيون؟ ومن إسبانيا في جامعة مدريد بالذات؟

ـــ إن العيون وشؤونها وشجونها يا بني كانت الهاجس الهائل لي ولوالدك، دعوت الله في ليلة القدر في رمضان من السنة التي تقدمت بها لامتحان الثانوية أن نرد بعض جميله بمداواة الذين يعانون من العيون، وشعرت كأنه استجيب لتضرعي، أبشري يا أم فؤاد فقد نلتِ، وأصررت على جامعة معينة لأن فيها ذلك البروفسور العتيد الذي أجرى لك العملية، لقد كنت المريض لديه منذ قبل وعيك، ثم صرت الطالب لديه وأنت وهو لا تدريان، ثم إذا أنتما الآن زميلان، أرجو أن تتابع خطاه في الخير وتنوير سبل البائسين.

ــــ وأنا الآن يا حبة قلبي يا ست الحناين ماذا علي أن أتصرف، أنا رهن أمرك.

ـــ تبادر لعمل مشروع صرح طبي لمداواة العيون في بلدتك المتواضعة وبين أهلك الأوفياء. أقدم لك البناية التي خلفها المرحوم والدك، ونجمع تبرعات ومساهمات من أهل البلد من أجل مستلزمات المشفى، وتبدأ على بركة الله بالمعالجات دون تحديد تسعيرة طبية، حيث يدفع كل زائر ما يجود به خاطره ويشتري الدواء بنفسه لنفسه...

ـــ وتكونين أنت المديرة المدبرة.

نما المشفى وازدهر وتوسع نشاطه وشمل القادمين من أماكن بعيدة، وضم إليه جناح لمساعدة المكفوفين وتثقيفهم وروضة لأطفالهم وضم إليه مؤخرا جناح لاستقصاء حالات الجدري في البلدة وتعميم اللقاح بالتعاون مع الجهة الصحية المختصة.

أما دخل المشفى فكان يرتد على ذوي فؤاد وفقراء بلدته بعد أن ينال المساهمون أنصبتهم.

وحين سئل فؤاد عن طموحاته، قال: أتمنى على الدولة أن تصدر قانوناً حول التعاون الصحي على غرار قانون التعاون السكني، وبذلك ينخدم جمهور يعاني من الحاجة لضرورة حيوية تتراوح بين الموت والحياة. إن الإجراءات الحالية وخاصة الروتين والروح السلبية لدى البعض لمما يعيق أي نشاط لتصعيد المهمة المقدسة للأطباء في محاولات إنشاء مشاريع صحية تعاونية.


من يذهب إلى تلك البلدة يجد على جبهة بناء ضخم لوحة دلالية كبيرة:

مستشفى ابن الأعورين


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى