الأحد ١٧ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم محمد عليان

رحلة لم تنته بعد

هي رحلة طويلة تمتد عشرات السنوات من الضياع والشقاء والتشرد والغربة والتيه والضياع والفقر والجوع، ولفراغ السياسي والفكري والحلم بالعودة إلى الوطن الذي يبتعد كلما مرت السنون.. هذا ما يلاقيه شخوص رواية " رحلة الضياع " للكاتبة القديرة ديمة جمعة السمان، الذين شردوا من الوطن وامضوا عشرات السنين بالبحث عنه في البحر والبر والسماء، ولم يجدوه، ولا نعرف متى سيجدونه. سؤال كبير تطرحه الكاتبة عبر شخوصها: هل ثمة بديل عن الوطن ؟ هم رحلوا رغما عنهم، انتزعوا من بيوتهم ومدنهم وأرضهم وبحرهم ومراكبهم وسمكهم، وسكنوا وطنا غير وطنهم وحاولوا عبثا التكيف مع الواقع الجديد، لم يتمكنوا من الاستقرار ولو للحظة، كان الماضي يشدهم بقوة إلى عكا والبحر والتاريخ، حاول نمر العبد نسيان الماضي لكنه لم يفلح في العيش معلقا بين الأرض والسماء، وانتهى به الأمر غرقا بعد تفجير قاربه على أيدي رجال العصابات، وكذا حال صابرين التي خلعت عنها ثياب اللجوء واقتربت من صفوة القوم في ارض اللجوء، وارتفعت ثم وقعت وخسرت كل شيء، وماتت كمدا وحسرة دون أن تحقق مرادها، وغادر فواز ارض اللجوء ليستشهد على ارض الوطن، وسرعان ما لحق به العربيد والرداد، ومن ثم خلود أما زهرة العاشقة الحالمة التي تبددت أحلامها بعد استشهاد حبيبها فواز، فقد قتلت والده الحقيقي وأودعت السجن. نهايات مأساوية لشخوص أرادتهم الكاتبة أنموذجا لقطاع واسع من الشعب، عاش في ارض اللجوء في ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية مختلفة ولم يستطيعوا، وان أراد بعضهم ذلك أن يعيشوا كما لو كانوا في وطنهم مهما كانت حسن ضيافة الدول المضيفة.

تدور أحداث الرواية في معظمها حول مخيمات اللاجئين في لبنان، في مرحلة تمتد من عام النكبة إلى ما بعد عام 1982، وإذا كانت المخيمات طوال هذه الفترة قد رفدت الثورة الفلسطينية بالفدائيين وكانت الحاضنة لكافة المنظمات الفلسطينية، فقد لاحظنا من أحداث الرواية أنها أفرزت أيضا الكثير من المشاكل الاجتماعية والتشوهات النفسية، بسبب الفقر والبطالة وتردي البنى التحتية والاعتماد على المعونات الدولية القليلة، وانعدام فرص العمل وعدم القدرة على الانخراط في المنظومة الاقتصادية في المجتمع المحلي. لقد عانى جميع شخوص الرواية من هذه التشوهات، وعاشوا التناقضات والصراعات وفوضى الحواس، وكأني بالكاتبة تقول انه لا حياة ولا مال ولا بحر خارج الوطن، حتى العشق في ارض الغربة مصيره الفشل، فالوطن هو العشق والحب والمال والجاه والعزة والكرامة ولا بديل عنه ويجب العودة إليه

وهذا ما أدركه فواز ومن بعده رداد والعربيد وخلود وحتى زهرة التي طلبت الانخراط في صفوف الفدائيين لتلحق بحبيبها فواز.

وإذا كانت الكاتبة تؤكد أن لا بديل عن الوطن، فان رسالتها هذه تكتسب في هذه الأيام أهمية خاصة، في الوقت الذي يحاول فيه البعض حل مشكلة اللاجئين من خلال حلول خلاقة تستبعد إمكانية العودة، وتستعيض عنها بالتعويضات أو بالتوطين في أماكن اللجوء. لقد رفض شخوص الرواية هذه الفكرة، ولم يقبل نمر العبد السكن في شقة فاخرة معلقة بين السماء والأرض، وعاش عمران وزوجته في علب الصفيح، وأمضى فواز العربيد ورداد حياتهم يصارعون أمواج البحر رافضين الانخراط في فوضى المدينة.

البطل في رواية رحلة الضياع هو اللاجئ الفلسطيني الذي يرفض التوطين، ويحلم بالعودة وهو فواز ونمر العبد وزهرة وحميدة ورداد وعمران، هؤلاء وغيرهم من شخوص الراوية الذين ما زالوا في رحلة ضياع وتيه لا نعرف متى ولكن حتما ستنتهي بالعودة .

ملاحظات لا بد منها

رغم سمو رسالتها وعمق فكرتها الا ان الرواية لم تخل من بعض الهفوات الفنية غير المبررة، خاصة وان الكاتبة غزيرة الإنتاج وروائية بامتياز:

1. الحوار: لقد احتلت مساحة الحوار بين الشخصيات مساحة كبيرة جدا من الرواية وكان ذلك على حساب السرد ووصف المكان والزمان وحتى الشخصيات

2. الشخوص: لم تول الكاتبة اهتماما بوصف الشخصيات من حيث الشكل الخارجي كما أنها ابتعدت كثيرا عن الولوج إلى داخل النفس البشرية لشخوص الرواية ورصد الانفعالات، وردود الأفعال إزاء مواقف مأساوية تعرضت لها. كما ان شخوص الرواية كانت جاهزة فكريا وسياسيا واجتماعيا، ولم تتطور وفقا لمنطق الحياة والاحداث، وبقيت كل شخصية متمترسة وراء مواقفها ورأيها حتى نهاية الرواية.

3. مواقف مأساوية: تطرقت الكاتبة الى بعض المواقف المأساوية وخاصة الموت بتسرع وبدون مسوغ فني مثل مقتل والد فواز الحقيقي على يد زهرة، وموت صابرين وحتى انفجار العبوة بين يدي العربيد، وحتى لو كان هذا مبررا في سياق احداث الرواية كان يجب التريث، وتهيئة القارئ لوقوع مثل هذا الحدث.

4. تجاهل أحداث هامة: تجري أحداث الرواية في فترة تمتد من عام 1947 وحتى 1982 تقريبا وخلال هذه الفترة وقعت أحداث هامة ومفصلية في حياة الشعب الفلسطيني مثل حرب حزيران، وحرب تشرين ومعركة الكرامة وغيرها، والسؤال المطروح هو كيف أن هذه التطورات لم تحدث أي أثر فكري أو سياسي أو اجتماعي على شخوص الرواية الذين كانوا على ارض الواقع أكثر الفئات تأثرا منها ؟

5. التسرع والاختصار في الكثير من الأحداث: ربما بسبب توخي الاختصار والخوف من إطالة الرواية أو ربما بسبب الحوار الذي طغى على الرواية اختصرت الكاتبة الكثير من الأحداث، وتناولتها بشكل سريع أو عابر رغم أهميتها وأثرها على سياق الرواية وعلى سبيل المثال معركة الشاطئ ومعركة شقيف وغيرها. اعتقد أن جمالية هذه الملحمة تكمن في التفاصيل الدقيقة التي لم يتم التطرق إليها دون سبب.

رواية جديرة بالقراءة والنقاش وروائية مواظبة تتلمس هموم الناس وتعشق التاريخ والبحر وناشر مشكور على جهوده التي أثمرت عن نشر أكثر من عمل في فترة وجيزة.
"ورقة مقدمة لندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس"


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى