الأحد ٢٤ تموز (يوليو) ٢٠١١
في الذكرى الـ 63 لاستشهاده
بقلم توفيق العيسى

الشاعر عبد الرحيم محمود كتب «مانفيستو» الثورة

 الطبعوني: شاعرنا هو المؤسس والأب الشرعي لأدب المقاومة
 أبو غوش: الشاعر الحقيقي هو الذي تعيش التجربة على جلده وتحفر في روحه
 فرحات: كان صاحب عقيدة وطنية، حول فيها الرؤية إلى موقف، والموقف إلى فعل

المشهد العربي – رام الله - توفيق العيسى: إن عبد الرحيم محمود، يؤرخ لاستشهاده بتاريخ النكبة، وكأن النكبة لم تكن بضياع فلسطين فقط، ولكنها بفقدان الرجال الأجمل، ضياع فلسطين في كل أدبياتنا كان بسبب «ضياع» البندقية بكل ما تعنيه كلمة ضياع، وفقدانها، وإذا كانت «أكتاف الرجال خلقت لحمل البنادق» كما علمنا غسان كنفاني، فإن فقدانهم هو الذي تسبب بهذا «الضياع» للبندقية ولفلسطين.

الشاعر المقاوم، وأحد مؤسسي الأدب الفلسطيني المقاوم في القرن العشرين، عبد الرحيم محمود، كتب الشعر بظروف خاصة، واستثنائية، فمن ثورة الـ 36 والتي يقول أحد المصادر التاريخية إنه لم يكن فقط مقاتلا فيها ولكنه كان مستشارا سياسيا وإعلاميا بصحبة الصحفي «نجيب نصار» لقائدها عبد الرحيم الحج محمد، رغم قلة المصادر التي أشارت إلى هذه المعلومة، إلا أن دوره في الثورة كان واضحا وجليا لينتهي بعدها إلى العراق مشاركا في ثورة رشيد عالي الكيلاني، ليعود مرة أخرى إلى فلسطين، مشاركا وأحد قادة المعارك عام 1948 حتى استشهاده.

الـ 63 عاما هو عمر النكبة وعمر استشهاد شاعرنا، الذي جسد شخصية الشاعر المقاوم، ويكفي لقب شاعر ليقودنا إلى كلمة مقاوم، لا نقول إنه تماهى فقط مع لقبه «شاعر» لكنه احترم هذا اللقب، وبلغة يومنا مثقفا عضويا.

«وهو نموذج للشاعر الذي التزم بنصه أو لنقل إنه تبع نصه، ونستطيع أن نقول إنه كتب بيان الثورة، الـ «مانفيستو» بقصيدته الشهيرة «سأحمل روحي على راحتي»، وهي نص ثوري وغنائي، وقاتل كشاعر، هو شاعر مقاتل ومعنى أنه قاتل كشاعر بأنه تبع الأغنية حتى نهاياتها، دون حسابات ربح أو خسارة، وقاتل كما يجب أن يقاتل أي ثوري وشاعر»، بهذه الكلمات يتحدث الشاعر ماجد ابو غوش عن عبد الرحيم محمود ويضيف «إن قيمته ليس كشاعر من الناحية الفنية فقط، فنصه حتى الآن هو نص خالد، وذلك لأسباب عديدة، فهو الشاعر المقاتل الثوري والمنحاز طبقيا للفقراء، فقد عاش حياته مع المهمشين، المزارعين والعمال، فهو لم يكن ابن عائلة ثرية ليقاتل على أساس مصالح تلك الطبقة كما فعلت البرجوازية الوطنية التي شاركت في ثورة الـ 36.

أما الشاعر مفلح طبعوني فيقول: لعبد الرحيم محمود منزلة خاصة في الناصرة تحديدا، لعدة أسباب والرئيسي منها انه عاش في الناصرة خاصة فترة معارك الـ 48 وقبلها، وأصدقاؤه الشخصيون منها. في تلك الفترة تدخل عبد الرحيم محمود لإطلاق سراح شباب من سجن المسكوبية في الناصرة، منهم حسين أبو أسعد وصليبا خميس، ثم انطلق لمعركة الشجرة من مطعم "الجنينة" في الناصرة، وهناك من يحبون عبد الرحيم محمود بدرجة حبهم لتوفيق زياد، وضريحه في الناصرة المجاور لضريح زياد، يزار من قبل أغلب المثقفين والمهتمين وبشكل دائم.

هذا الرجل ظلم، شعره ليس فقط من شعر المقاومة، بل هو الشاعر المقاوم، ولا داعي ان نتحدث كثيرا عن استشهاده، اشترك بالمعارك بشكل عملي، ولم تكن لديه حلول وسط، كان مع قاعدة الجماهير، وبذلك يعتبر المؤسس والأب الشرعي لأدب المقاومة، إلى جانب إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي "أبو سلمى".

لو قدر لعبد الرحيم محمود وإبراهيم طوقان أن يعيشا لفترة أطول من حياتهما لكان لهم دور أساسي وجذري في تقوية هذا الأدب، والجيل الاحق خصوصا، توفيق زياد وجيله يعترفون أنهم اعتمدوا بتجربتهم الشعرية على تجربة عبد الرحيم محمود وأبو سلمى وطوقان، وبالنسبة للأدب الأقرب إلى الناس كان عبد الرحيم محمود هو الأقرب، أقرب بالمعنى الطبقي والنتاج الأدبي. أعرف بيته في الناصرة، متواضعًا، وهو من عنبتا قضاء طولكرم.

أما فيما يتعلق باتجاهاته الفكرية، فيرى الدكتورمحمد نعيم فرحات، أن لا قيمة لتنقيب كهذا عند الشاعر الشهيد، طالما انه كان صاحب عقيدة وطنية، حول فيها الرؤية إلى موقف، والموقف إلى فعل، كان له كل هذا الصدى في الوجدان والوعي الجمعي الفلسطيني.
إن حضوره الطافح كوطني فلسطيني، والذي يشير إلى رؤية وعقيدة ترتبط بهذه الوطنية، هو الذي صنع دلالاته ومعناه وصورته وصوته، ومن خلال كل ذلك وأكثر، قدم لنا دليلا توارثه الفلسطينيون جيلا بعد جيل.

إلا أن طبعوني يختلف نسبيا مع فرحات فيقول: «من يقرأ "أبو الطيب" يرى الاتجاه العلماني الماركسي، لكنه لم يعش طويلا ليتجلى هذه الاتجاه أكثر على الرغم، من قصيدته «يا عامل» كمثال والتي توحي بفكره واتجاهه، إضافة إلى أنه لم يدرس حقا من النقاد والدارسين، وللأسف نقادنا يفضلون الأسماء المشهورة واللامعة، خاصة أن الرجل لم يكن انتهازيا وكان معاديا لها، لذلك عندما طلبته المعركة انطلق ليشارك المقاتلين متجها إلى معركة الشجرة، وكان لعبد الرحيم محمود دور مهم في تثبيت اليسار الفلسطيني في حيفا ويافا وعكا، وطبعا، الناصرة، من خلال الأدبيات والممارسات، وأرى أن محمود لو تجاوز فترة الـ 48 ولم يستشهد لكان له حضور أدبي مميز».

ويرى فرحات بأنه من الصعب اختزال الشعر على هذا النحو، وفي نفس الوقت فإن الشعر يقوم فيما يقوم على: أبعاد الخطابة والشعار وله دور تحريضي، هذا بالطبع يجري داخل ما يمكن تسميته بمهابة الشعر: كجمال وكخطاب يقدم رؤية وموقفا ووعيا محددا. إن الاسترسال السابق هو نوع من مجاملة سؤالك، لان الشاعر الشهيد استجاب عبر أشكال متعددة لتحديات زمنه، استجاب بالقول والشعر واستجاب بالقتال، والمهم ليس شعره بل فاعليته كشاعر وكإنسان، وهذه الفاعلية وما صنعته من معنى ودلالة هي التي أبقت عبد الرحيم محمود حيا إلى هذا الحد، إنه موجود في الذاكرة الجماعية المتوارثة، بحكم حضوره في الزمن والصدى، وليس بسبب من عمل مؤرخ أو باحث أو ناقد.

أما ماجد أبو غوش فمن وجهة نظره لا يوجد شيء اسمه حالة شعرية، أن يعيش الشاعر الانزواء أو في مكان محمي من الجو الخارجي، الشاعر الحقيقي هو الذي تعيش التجربة على جلده وتحفر في روحه، ومن يعيش حلم وتطلعات الجمهور، ليس شاعر ترف أو بلاط، نتكلم عن عبد الرحيم محمود الذي سكن بيتا متواضعا في الناصرة، ويعمل ليكسب قوته، تعرض للسجن وطورد في العراق وفلسطين وقاتل كشاعر ومقاتل، لم ينفصل عن الناس، كثير من شعرائنا كعلي فودة ومعين بسيسو وغيرهم لم يكتبوا فقط في الخنادق ولكن في الساحات والميادين العامة، كتبوا على ورق مستعمل، وكتبوا على طاولات المقاهي، وفي المعتقلات وكتبوا نصوصا تعيد الحياة.

ويضيف طبعوني، «لا أمتلك الأدوات لتقييم قصيدة عبد الرحيم أو غيره، أنا شخصيا أحب شعره، والظروف التي عاشها وكتب فيها شعره لم تكن سهلة، من ثورة الـ 36 وحتى معارك الـ 48 وكان قياديا، وهذه تجعل من الإبداع عملية معقدة، والوقت لم يكن في صالح هذا الجيل من الشعراء ليمارسوا التجريب، فإضافة للمشاكل العامة أو السياسية، هناك المشاكل الشخصية، ففقدان طوقان الذي توفي صغيرا 37 سنة، أثر على عبد الرحيم محمود والأدب الفلسطيني. وقد نقول شعرا مباشرا؟ نعم، ولم يدخل في الحالة الرمزية بسبب كل الظروف السياسية والشخصية لعبد الرحبم محمود، ولو دخل هذه الحالة لدخلها من جهة علمية، فهناك شعراء دخلوا الحالة الرمزية فقط تقليدًا لمحمود درويش وخربوا الشعر والرمز.

فإذا كان الوضع كذلك، فهل هذا يعني ان الزمن قد تجاوز او يتجاوز شعر عبد الرحيم محمود؟

يجيب ماجد ابو غوش: «كما لم يتجاوز الزمن المتنبي وأغاني الشيخ امام، لم يتجاوز نص عبد الرحيم محمود، عندما نتكلم عن نص يرد فيه:

فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا

هذا نص يحدد شروطه الزمنية، نحن حتى الآن نعيش حلم الحرية والحاجة للكرامة والاستقلال، نص يحدد لك إما أن تكون حرا وإما عبدا، ومواصفات الإنسان الطبيعي انه حر، لذلك تحول نصه إلى مانفيستو، بيان ثوري، فإما أن تكون إنسانا أو لا، وإما أن تكون شاعرا أو لا، ومعنى الشاعر تاريخيا ليس ترفا لكنه موقف، ويتبع موقفه.

أما عن الشكل الفني للقصيدة عند شاعرنا، وهل جرب أو جدد في الشعر، يجيبنا فرحات: "يحتاج الجواب عن هذا السؤال لناقد متخصص، يخضع الخطاب الشعري لعبد الرحيم محمود لقراءة معمقه من هذه الزاوية، ولكنني سأشير إلى أمر قريب من فحوى سؤالك، وهو، لقد كان للشاعر الشهيد، خطاب شعري رشيق ومتدفق، وكأنه آت لتوه من معركة أو ذاهب إليها".

ويضيف فرحات: " إن بعض الشعر الأصيل لا يخضع أو (قد) يتجاوز المعايير الكلاسيكية للنقد، ثمة قصائد تصوغها لحظة ساخنة ما في التاريخ وتفلت من إسار النقد، وربما هذا ما حدث مع الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود، كما أن دراسة الأثر وتتبعه هي من اشق الدراسات، ولكن يمكن القول إن عبد الرحيم محمود قد تأثر في شعره بسابقين عليه واثر في لاحقين له، ولكنه بكل حال مثل نغمة خاصة في كتاب الشعر الفلسطيني المعاصر".

أما عن الشعر الغزلي فيسترسل الطبعوني ويقول: « جيل عبد الرحيم محمود وابو سلمى وطوقان، كتب شعرا غزليا راقيا، وقد تكون قصة قصيدة « كفر كنا» التي اتهم بها طوقان من باب المداعبات الأدبية في ذلك الوقت بين الشعراء».

ويضيف الطبعوني "فبالرغم من كل الظروف التي أحاطت بعبد الرحيم محمود وشعره إلا انه كان يمتلك القدرة على الحب كما كان يمتلك القدرة على القتال.

وهنا يقول ابو غوش: «عنترة في إحدى معاركه يقول:

فودت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم

لأننا نريد ان نعيش الحياة ببساطتها، وبكرامة واستقلال، ونحب ونرقص ونغني، لا نريد ان نترهبن، ولا نريد ان نبقى منتعلين الحذاء العسكري، ما نريده هو ان نعيش حياتنا كأناس طبيعيين. عبد الرحيم محمود عاش حياة طبيعية لكن عندما سمع النداء أو النفير قام بدوره الطبيعي وهو القتال والتضحية، ما ميزه عن أي مقاتل آخر هو كونه شاعرا».

اما فرحات فيقول «وأين العجب في ذلك؟! إن شاعرا أو مقاتلا آو إنسانا حقيقيا، لا يكون بذات القدر أو أكثر عاشقا، هو كان منقوصًا في مكان ما من روحه وخياله، وعلى وعينا أن يحرر معنى العشق من رداءة فهمنا له، ومن سجون ثقافتنا ومعازلها التي لا تليق به، والتي ستبقى برهانا على ضائقة كئيبة نعيشها في الوعي والخيال والروح والإدراك الوجودي الأصيل والعميق للحياة. من الذي قال إن الانعتاق والحرية والشعر والإنسان والنضال والجمال تستقيم إذا لم يكن العشق الأصيل منها وفيها: قدرة وقوة وقيمة وفكرة عالية. إن جمال الفقه والتصوف وأصالته قد قادت المتصوفين إلى عشق الله».

وكيف وصلنا نتاجه الأدبي؟ كان سؤالنا للمتحدثين، فأجاب الطبعوني: « لقد نشر عبد الرحيم محمود في جريدة الاتحاد والغد الحيفاويتين، وشارك في أغلب ندوات الوطن، خصوصا في حيفا والناصرة".

اما فرحات فيجيب: «طبع ديوانا أم لا؟ لا ادري، ولكنني ادري بأن شعره قد وصل عبر وسائل أهم بكثير من ديوان مطبوع، لقد وصل عبر الصدى وألسنة الناس ومن خلال وجدانهم وذاكرتهم وتمثلهم لما قال. وعلى ما أظن لم يكن عبد الرحيم محمود بحاجة لطبع ديوانه او سعى لفعل ذلك، ولا الزمن كان يمنح مثل هذا الترف، لقد وصل ديوان شعره بحفاوة الوعي والذاكرة والتبني الجماعي لما كان يقوله، وهذا اعلى ما يمكن أن ترنو له نفس شغوفة».

أما أبو غوش فيختتم حديثه عن الشاعر بقوله: «لماذا لا يحتفى به؟ واضح أن لدينا الآن اتجاها سياسيا يريد أن يهمش كل هذه التجارب، والتي تدل على حق الفلسطيني في وطنه والتي تدل أيضا، على فلسطين نفس فلسطين ورائحة فلسطين، والتي تبين أن الأبيض أبيض والأسود أسود، وللأسف يتم الاحتفاء بأشخاص أدنى بدرجات كثيرة من عبد الرحيم محمود".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى