الأحد ١٤ آب (أغسطس) ٢٠١١

الخصوصية تحصين للذات ضد النموذج العولمي الوحيد

الطاهر الطويل

يعتقد الكاتب المغربي مصطفى يعلى أن التشبث بالأصالة من غير أي إقصاء للمعاصرة هو دفاع عن وجود الإنسان العربي؛ معتبرا أنه ليست هناك بدائل لهذا الخيار التوفيقي الذي تكرس على مضض لدى العرب، منذ عصر نهضتهم في القرن التاسع عشر إلى الآن، والذي تسعى العولمة المتوحشة حاليا إلى سحبه منهم.
وردت هذه الإضاءة في كتاب ’ظاهرة المحلية في السرد المغربي’ الصادر حديثا لمصطفى يعلى، ضمن منشورات ’أربعة’، في 345 صفحة من القطع المتوسط. ولئن كان الكاتب يركز في كتابه على المحلية، فإنه لا يغفل صلتها بالبعد القومي، من منطلق وعيه بوجود مسعى لتذويب الخصوصيات المثرية للشعوب المختلفة في نموذج عولمي واحد ووحيد تحت مختلف الذرائع.
ويلاحظ المؤلف أن المحلية لم تظهر في السرد المغربي (خلال الفترة الممتدة بين أوائل الأربعينيات ونهاية الستينيات من القرن العشرين) بشكل عفوي وتلقائي، وإنما جاءت نتيجة شروط تاريخية موضوعية يظللها مناخ اجتماعي ونفسي خاص، محددا تلك الشروط في العزلة التاريخية، والتسلط الاستعماري، والتجاهل المشرقي لما أنتجته القرائح المغربية من فكر وأدب، والإحساس بضرورة إنعاش الحركة الأدبية المغربية، وتأجج الحس الوطني، مما أدى ـ حسب قول الكاتب ـ إلى تنادي المغاربة بضرورة الاهتمام بكل ما هو مغربي في المجالات الفكرية والأدبية والفنية والحضارية، نزوعا منهم إلى استكشاف الشخصية المغربية واستعادة الهوية الضائعة، دون أن ينسيهم هذا الحماس انتماءهم العربي الإسلامي الذي قامت دعوتهم تلك بوازع منه وغيرة على العروبة والإسلام في هذه الديار. 
ويؤكد المؤلف أن السرد كان من الحقول المواتية لتمظهر التجليات المحلية بصورة مجسدة ورحبة؛ سيما وأن المغاربة اكتشفوا إمكاناته الهائلة في التعبير عن القضايا الفردية والجماعية والوطنية والقومية والإنسانية، لكنهم كانوا يعون المنطلق الصحيح للإبداع السردي، أي البيئة المحلية التي عاينها المبدع وخبر أحوالها جيدا. وترتب عن ذلك ـ كما يقول المؤلف ـ أن مال القصاصون المغاربة القابعون في هذه المدينة أو تلك من المدن المغربية التقليدية العريقة، إلى الاهتمام بمجتمعهم المحلي والتعبير عن أناسه ومشاكله وتطلعاته وتصوير فضائه على وجه يفيض حبا واعتزازا، لكنه لا يخلو من نقد ومؤاخذة بهدف إصلاحه.
ويتوقف الكاتب بهذا الخصوص عند تجارب اختارها عينة لبحثه، ويتعلق الأمر بكل من الكاتبين أحمد بناني وعبد الكريم غلاب في رصد كل واحد منهما للمجتمع المحلي في مدينة فاس، والكاتب أحمد عبد السلام البقالي في تعبيره عن ملامح مدينة أصيلة اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وسياسيا، والكاتب محمد الخضر الريسوني الذي احتفى بالتجليات الاجتماعية بمدينة تطوان، والكاتب محمد أحمد اشماعو في علاقته بمدينة سلا.
ويلاحظ مصطفى يعلى في كتابه الجديد أنه رغم اختلاف الرؤى المحلية بين تجربة وأخرى، فإن الكُتّاب الذين قام بمقاربة نصوصهم السردية اشتركوا في معظم الخصائص الجمالية بناء وأسلوبا، إذ صارت المحلية في نصوصهم شكلا جماليا يتراكب من نسقين اثنين رئيسيين:
 الأول خاص بمعالجة المجتمع المحلي المغلق، بمظاهره وأبعاده المختلفة وهو في حالة ثبات واطمئنان،
 والثاني يخترق النسق الأول ويرجه رجا مخلخلا إياه عبر نظام للمقارنة غير المتكافئة، وكذلك يتصرف تجاه محتواه المحلي، فيصور المجتمع التقليدي في صراعه البئيس بسبب خارجي يتمثل في عنصر التحديث الوارد مع الأجنبي المحتل.


ويشير المؤلف إلى أن عدة مكونات تعاونت لتوفير المشاكلة بين الشكل الفني والمضامين المحلية بالنصوص المدروسة، حيث اعتمد النسق التقليدي بمراحله الثلاث المعروفة (مقدمة، عقدة، لحظة تنوير)، ووقع غالبا تبني صيغة الراوي العارف بكل شيء مسبقا على منوال راوي القصص الشعبي، والإكثار من التسريد الحكائي، والإغراق في الوصف التسجيلي التزييني، وتطعيم اللغة الفصحى بالقاموس المحلي ألفاظا وتعابير في الحوار والتسريد مما لا يفهمه سوى المغاربة أو أبناء المدينة فقط، وتضمين الأمثال والنصوص المحلية والدينية وغيرها، والميل إلى الرمز البسيط أحيانا وإلى المباشرة والتقريرية غالبا، والاستطراد إلى جوانب لا تخدم النص جماليا.
ويخلص مصطفى يعلى إلى القول إن تبلور ظاهرة المحلية في السرد المغربي قد أعطى الدليل القاطع على مدى غنى الحركة الأدبية بالمغرب الحديث وتنوع مجالاتها، رغم ما وصفت به من عقم وجفاف، معتبرا أنه على الرغم من الجهود التي ببذلها بعض الباحثين لاستكشاف هذه الظاهرة الأدبية أو تلك في مختلف الأجناس الأدبية وأنواعها في المغرب وفي العالم العربي، فإنه ما يزال هناك الكثير مما يبحث بعد، وهو في انتظار من يرفع عنه الحجب وينفض عنه غبار المكتبات العامة والخاصة، بغية بحثه وتحقيقه وغربلته وتصنيفه والخروج به إلى النور.


الطاهر الطويل

عن:
القدس العربي

س. 93، ع. 6891، الاثنين 8 آب (أغسطس) 2011، 8 رمضان 1432


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى