الأربعاء ١٧ آب (أغسطس) ٢٠١١
بقلم حسين سرمك حسن

الساموراي العاشق الأخير

يوما بعد آخر يتخلى الشعراء العرب عن أعظم قضاياهم المركزية التي هي المفتاح لباقي الاهتمامات الإنسانية والوجودية، ألا وهي قضية الحب، حب المراة تحديدا، وما يتفرع عنه من إنشغالات تتصل بالأمومة والأرض والطبيعة والإنتماء وغيرها، حدّ أن شعراء كبار معروفين بدأو قبل أكثر من نصف قرن، عشاقا كبارا، وإذا بهم ينتهون الآن وقد نفضوا أيديهم الشعرية من هذه القضية المفتاح بدعوى أنهم صاروا « رائين»!! وبهذا يخسرون الشحنة العظيمة المنعشة المسؤولة عن وجودهم إنسانيا وشعريا. يقول المحلل النفسي الفرنسي «بيير داكو»: (نساء أيامنا هذه أو النساء منذ بعض الزمن هي الاستطاعة الخفية التي تقود العالم، سواء كن سراري بيوت الحريم أو الخدور أو مومسات أو عشيقات أم زوجات وأمهات أسر، فليس نظام الأبوة ولو كان هادرا سوى مزاح لطيف بالقياس إلى القوى الغامضة التي يتصف بها النوع الأنثوي). وقد يكون التحول من موضوعة المرأة العظيمة إلى موضوعات الرؤية ممثلة في عروق النحاس وإسقاطات المربع الأزرق والمرايا الميتافيزيقية وغيرها مرتبطا، عند بعض الشعراء، بضمور قواهم النفسية والجنسية مع تقدمهم في العمر. إنهم ينسحبون من أروع ساحات المواجهة الشعرية وأكثرها سخونة وضرورة لزرق مصل الحياة والنماء والديمومة في عروق وجودنا التي أيبستها حركة الحضارة المادية الساحقة. إنهم يخلون المضمار أمام حركة العولمة الكاسحة، التي تهدف، ببساطة، وفي تعليق طريف لأحد المختصين بعلم الاجتماع، إلى تحويل الإنسان إلى أنبوب يمتد من المطبخ إلى المرحاض عبر خلخلة كل القيم الجميلة التي تتأسس عليها حياة المجتمعات البشرية، وتحويلها إلى مفهومات تتعلق بالحركة اليومية المتعلقة بسد حاجات البقاء الحيوانية. إن استقرار أي قيمة معنوية يجعلها قيمة جوهرية في مسيرتنا وأطر علاقاتنا الإنسانية، في حين أن خلخلتها وجعلها مهتزة الدعائم ومتغيرة الدلالات في حيواتنا يجعلها عابرة وغير حاسمة في تقرير ماهيات سلوكياتنا. قبل سنوات سئلت مجموعة من الشباب والشابات الأمريكان عن معنى الرومانسية، فأجابت غالبيتهم بأنها الإتصال الجنسي بالشريك في "البانيو" أو في الحديقة تحت المطر!! وصحيح، بطبيعة الحال، أن التحولات الجذرية التي حصلت في المجتمع قد طالت المفاهيم الروحية والأخلاقية والسلوكيات الجنسية، ولكن حركة "تصنيع" الحب العارمة التي تشهدها المجتمعات الغربية، والتي تحاول شركات الإعلام والموضة والسينما والجنس عابرة القارات الكبرى هناك تصديرها إلى العالم، مسؤولة عن جانب كبير من مسخ وتشويه تلك المفاهيم الجميلة في الحياة الإنسانية وفي مقدمتها: الحب، الحب الذي لم يكن له، ولم يبق له من نصير منافح غير الشعراء. فالشعراء هم " الساموراي الأخير " الذي أخذ على عاتق روحه مسؤولية الدفاع عن آخر معاقل الحب في الحياة البشرية. فهم يدركون أن الإنسان لا يتربع على هامة المملكة الحيوانية إلا لأنه "حيوان رومانسي":

( مُرّي بـصـحـرائي
لِـيُـعْــشِـبَ
بـلـقـعُ..
حتى الـرّصـيـفُ إذا مـررتِ
سـيـخـشـعُ
إنْ كان حُـسْـنُ الأخـرياتِ قـصـيـدة ً
فـجـمـالُ وجـهِـك ِيا أمـيـرةُ
مَـطـلـعُ.. )

ومن هؤلاء الشعراء الذين تصدّوا، وعبر أكثر من أربعين عاما من مسيرته الشعرية، وبدءا من أول مجموعة شعرية له " عيناك دنيا "، لمعالجة موضوعة الحب، والإنهمام العميق والملتهب بالمرأة المعشوقة بتمظهراتها الوجودية كافة، بإيمان حقيقي وإدراك ثاقب، هو الشاعر "يحيى السماوي. وتأتي مجموعته الأخيرة هذه " بعيدا عني.. قريبا منك "، لتؤكد نظرتنا هذه.
درس من " حافظ الشيرازي":

( هناك وصف أسطوري ومثير للقاء بين حافظ الشيرازي والشخص الأكثر شرّا في ذلك الوقت، الغازي القاسي تيمورلنك، الذي اندفع بقوة في جنوبي فارس، وقتل سبعين ألف شخص في أصفهان، ودخل شيراز في ديسمبر من سنة 1387 م. استدعى حافظا الكبير السنّ، كانت سنّه آنذاك سبعا وستين سنة، وقابله بأبيات من إحدى القصائد:

( إذا كانت الحسناء التركية تقبلني
فسأعطيها بدل خالها سمرقند وبخارى )

ثم قال تيمورلنك بغيظ:
" بسيفي الصقيل أخضعت معظم العالم، وأنت شاعر بائس سيّء الحال تبيع مدينتي وقاعدة ملكي بخال على خدّ فتاة ؟! "

أجاب حافظ حانيا رأسه احتراما:
" أنت على حق، إنه بسبب هذا الإنفاق المتهوّر أُلتُ إلى الحال البائسة التي تجدني عليها الآن ".

سُرّ الإمبراطور كثيرا بحافظ، ولم يكتف بأن أعفاه من العقوبة بل بعثه بعيدا وقدّم له أُعطية – كتاب " يد الشعر " – ص221 و222 ) (1).

.. وإذا كان "حافظ الشيرازي" الشاعر المتصوّف مسرفا، أوصله إنفاقه المتهور في الحب إلى الحال البائس الذي رآه عليه تيمورلنك، فإن وريثه الماكر " يحيى السماوي " يشترك معه في هذا الإسراف الجنوني في الإنوخاذ – وليس بتعبيرات المتصوفة رغم محاولة يحيى التستر بأرديتهم الأخاذة – في الحبيبة " اللاتسمى ":

( جِـئْـتُ يـاقـانِـتـتـي الـزهــراءَ
أشـكـوني إلـيْـك ِ
فأنـا أصْـبَـحْـتُ غـيـري:
سُـفـنـي ترفـضُ أنْ تُـبْـحِـرَ
إلآ
لـمـراسـيْ شـاطِـئـيــك..
وطـيـوري
لا تـرى مـنْ شـجَــر ِ الـبسـتان ِ
إلآ
نـاهِـدَيـك ِ..
وفـمـي
أعْـلـنَ إضـرابـا ً عن الـتـقـبـيـل ِ
إلآ
شــفـتـيْـك ِ..
ودروبـي
كـلـهـا تـنـبـذ خـطـوي
حـيـن لا يـأخـذنـي الـخـطـوُ
إلـيْـك ِ
ويـديْ
تَـصْـْـفـعُـنـي لـو مَـسّــدتْ
غـيـرَ يـديـك ِ..
وفـؤادي
لا يـرى شِـعـري جَـديـرا ً
بـمـداد ِ الـنـبـض ِ
إلآ
عـنـدمـا يـهـطـلُ أمـطـارا من الـدّفء ِ
عـلـيـك ِ..
مـا الـذي أبْـقـيـتِ مِـنـي
لـلـيـنـابـيـع ِ..
وللأرطـاب ِ..
والأطـيـاب ِ..
والأحـبـاب ِ..
والأصـحـاب ِ..
إنْ كـنـتِ مـلـكْـت ِ الأمـرَ مـني
وأنـا ـ كُـلّـي ـ لـدَيْـك ِ ؟.. )..

ويحيى يشترك مع الشيرازي – ومع الشعراء المتصوفة عموما – في صفة الإسراف المتهور الآسر في التعلق بالمحبوب.. في غربته عن ذاته عندما لا تكون المعشوقة في ذاته.. في ضياعه حينما لا يكون مأوى سفنه شاطيء الحبيبة الدافيء.. وفي تشتت بعضه وقت أن لا يكون كلّه بين يدي " قانتته". لكن يحيى له امتيازاته الخاصة التي أسسها بعرقه الشعري والتهاب انفعالاته الحبية؛ امتيازات تضع له توصيفا يجعله يفترق عن سبيل حافظ وأنداده. لقد اسس يحيى " بنية " خطاب صوفية في رسائله الملتهبة التي يوجهها إلى حبيبته. لقد اختار اسما ذا مسحة دينية/ صوفية معروفة استولى على المجموعة وهو: الزهراء:

( أنـزلـتُ خارطة الصبابـة ِ من جـدارِ الـقـلـبِ..
عـلّـقْـتُ الـتـي لـيـسـتْ تُـسـمّـى..
زخّـتِ الـزهـراءُ مـنْ عـلـيـائـهـا
مَـطـرا ً مـن الـضّـوء ِ الـمُبـارَكِ..
فـاسْـتـحَـمَّ الـقـلـبُ بـالـنـور ِ الـمُـقـدّسِ
فـرَّتِ الـظـلُـمـاتُ مـن لـيـلـي
فـحـيـثُ مـشـيـتُ يـأتـلِـقُ الـطـريقْ
بـشـمـوس ِ قـانـتـتـي الأميــرة ).. ِ

وهو – أي يحيى – حين يوصّف محبوبته بهذا الإسم الأنثوي: الزهراء، فإنه يخلق فارقا شاسعا بينه وبين الشعراء المتصوفة الذين يضعون موضوع حبهم في صيغة المذكّر لأسباب نفسية عميقة ليس هنا مجال تناولها. وهو يفترق عنهم كذلك في أنه لا يتردد في إضفاء " أسماء حسنى " على هذه الحبيبة، فهي التي تختصر الأسماء، وهي المئذنة الضوئية.. وهي ذات أسماء " أرضية " مشتقة من الطبيعة التي هي ؛ الأنثى، رمزها وخلاصة فعلها، هي النجمة والوردة والنخلة.. لكنه سرعان ما يقفز – وهذه من سماته الأسلوبية التي عالجناها سابقا (2)- من أرضية التسميات اليومية المعتادة إلى التسميات والصفات الوجودية الحاسمة شبه المؤسطرة، فهي الماء المحيي الذي جعل الله منه كل شيء حي، وهي المحراب المقدس الذي يفتح ابواب الفردوس:

( وأسَـمّـيهـا: الـتي تخـتصرُ الأسـمـاءَ..
والمـئـذنـة َ الضوئـيـة َ..
النخلة َ..
والوردةَ..
والنجمة َ..
والماءَ الذي
يُحْـيي هـشـيـما ً ويَـبـابْ
والـتي مِـحـرابُـهـا
يـفـتـحُ لـلجـنّـة ِ
بـابْ.. )

.. وحتى في التسميات والتوصيفات الأرضية / البشرية هي جامعة مانعة لكل شيء في وجود الشاعر المتيم. إنها في مجموع صفاتها ومسمياتها هي في المعنى الباطن لحضورها الموضوع الأمومي الكلّي.. وهو – أي الشاعر – ومن جديد، يتحول من هذا الكيان الموصف الأرضي / البشري، إلى ما هو فائق الفعل.. متعال.. شبه مؤسطر:

( الأنـيـسـة ِ..
والـنّـديـمـة ِ..
والـصـديـقـة ِ..
والـعـشـيـقـة ِ..
والـرّفـيـقـة ِ..
والـحـبـيـبـة ِ..
والـتـي نـفـخَـتْ بـروح ِ الـعـشـق ِ
فـي صـحـراءِ عـمـري
فـاسْـتـحـالَ الـرّمـلُ يـاقـوتـا ً
وصـار حـصـى مـفـازاتـي
الـزّبُـرْجـدَ والـعـقـيـقْ )

ويحيى لا يتردد في استعارة الصفات المقدسة ليمزجها في تركيبة مغيبة بصفات حسّية منعشة فتساهم هذه التركيبة في تخدير ردة فعل البصيرة الناقدة، تخديرا يعبر عن وقفة تصافقية لأنانا الأعلى.. وعلى وفق هذا المخطط يدس الشاعر الكثير من سموم الهبوط بمقررات التعالي السماوي المرجعية في عسل التحليق بممكنات الإنتفاخ النرجسي الأرضي الشعرية، في خلطة خطابية تضمر ما هو مؤسس مهيب لصالح ما هو مبتغى عشقيا:

( يا حبيبي
أيّهـا الآمـِرُ..
والـواهِـبُ..
والمانِحُ..
والمُـمْسِـكُ..
والمُـمْـطِـرُ دفـئـا ً وعـبـيـرْ
جـئـتُ مـذبوحـا ً من الـشـوق ِ..
ظمـيـئـا ً..
فاسْـقـني من ثـغـركَ العـذب ِ
ولـو
كأسَ زفـيـرْ.. )

وسريعا سأستبق ما يمكن أن يثور في ذهن المتلقي من إمساك نقدي محق عن استخدام الشاعر ما يسمى عادة بـ " الغزل المعاكس"، تغزّل الشاعر الذكر بمحبوب من الجنس ذاته في الوقت الذي قلنا فيه إن الشاعر قد افترق عن الشعراء المتصوفة في التشخيص المؤنث لموضوع الحب، فأقول إن ما يبدو مفارقة هنا سيكون موقفا مبررا ومتسقا حين نضع في اعتبارنا الظل الأنثوي في لاشعور الرجل، والظل الذكوري في لاشعور المرأة، اللذين يتيحان لهما التغني بموضوع حب مطابق لجنسهما.

... المهم أن الأسماء، ولأن اللغة أداة بشرية، تصل حدا تعلن فيه عجزها عن الإحاطة بسمات المحبوبة.. محبوبة تتسع، بفعل انوخاذ الشاعر، دائرة فعلها لتبلغ مديات كونية، ولهذا فلن يبقى لدى الشاعر من منفذ غير أن يضع لموضوع حبه اسما " لا يُسمّى "، وهي مداورة تحرّشية ترتفع بالمعشوقة من الأرض إلى السماء، مداورة تصل ذرى اندفاعتها المسمومة في التسمية اللاحقة: " اللا أحد " التي يضفيها يحيى على حبيبته برهاوة، تسمية تستل من مخزوننا الجمعي اللاشعوري التسمية المقدسة الغائرة:

( بـتُّ أدعوها " الـتي لـيسـتْ تُـسَـمّى "..
فهيَ الـشـيءُ الخـرافيُّ
الـذي أعْـجَـزَ قـامـوسي
فأطـلـقـتُ عـلـيـه ِ " اللا أحَـدْ "
وهِيَ الـرُّوحُ
الـتي أوجَـدَهـا اللهُ
عـلى شـكل ِ جَـسَـدْ
وهِـيَ الـلـحـظة ُ..
والـبُـرْهَـة ُ..
والـدَّهـرُ الأبـدْ
زفّـهـا اللهُ لـقـلـبي
فـاتّـحَـدْنـا..
مَـنـحَـتْـنـي شـرَفَ الـمـوت ِ..
ومـيلادا ً..
ونـهـرا ً..
وولـدْ.... )

.. وهذه الحبيبة ذات قدرة كلية خارقة هي مزيج من التصور الطفلي عن الرحم الأمومي الذي يحيي ويميت.. موطن الهناءة الفردوسية الأول الذي نسج الخيال البشري الجنة السماوية في الحياة الآخرة على منوالها.. واستيهامات القدرة الكلية التي تنبني عليها سيكولوجية الطفولة المبكرة في علاقتها بالعالم الخارجي والتي تبقى لائبة في أحشاء العملية الشعرية مسؤولة عن أكثر عطاياها إلهاما وتأثيرا في الموقف الدفاعي للإنسان في وجه المثكل.. إن ملهمته لا تمتلك القدرة على أن تجدد شبابه وتعيده صبا فتيا:

( وأسَـمّـيـني الـذي شـاخَ شـريـدا ً
ثمّ لـمّـا
دخـل المـحـرابَ صَـبّـا ً
حـاسـرا ً عن قـلـبـه ِ
عـادَ فـِتـيّـا ً
يـركـبُ الـبـحـرَ
ويـرتـادُ الـسّـحـابْ.. )

حسب، بل هي قادرة على بعث الأموات، وهو انموذجهم، تبعثه بالكلمة.. كن فيكون:
( مـرّة ً:

كـرَّ عليَّ الـحـزنُ والـشـوقُ
فـمُـتُّ..
شـيّـعَ الأطفالُ والعـشـاقُ جُـثـمـاني..
ولكـنْ
قـبـلَ دَفـني
هـبَـطـتْ مُـلـهـمـتي من عـرشـهـا الصـوفيّ
صاحَـتْ:
أيّـهـا الجاثِـمُ في الـتـابـوت ِ: إنـهَـضْ..
فـبُـعِـثـتُ
نـابـضـا ً.. حَـيّـا ً..
كأني
مـرّة ً أخـرى وُلِـدْتُ!.. )

.. والشاعر منبهر مسحور بحضور هذه المرأة في حياته حدّ أنه يعيد ترتيب الحقائق كلها، مهما كانت راسخة ومتطاولة، كي تتناغم مع مظاهر وجود ملهمته. أكثر من ذلك إنه مستعد للي عنق كل تلك الحقائق ويعيد تفسيرها بطريقة " إسقاطية " تؤسس لأطروحات جديدة لم ينتبه غليها المؤرخون ولا التاريخ.. فالتاريخ قد أخطأ خطأة كبرى حين ثبت أن المعلقات عشر قصائد عظيمة كتبت بماء الذهب وعلقت في أستار الكعبة.. إنه يؤرخ الأمر من جديد في " علم " كلي يرى فيه البدايات الإرهاصية الشديدة الكمون في أحشاء التاريخ:

( قـدْ أخـطـأَ الــتـاريخُ
حـيـن قالْ:
إنّ الـمُـعـلّـقـات ِ عـشْـرٌ
كُـن َّ يا أمـيـرتي أجْـمَـلَ مـا قِـيْـلَ من الـشّـعـر ِ
ومـا يُـقـالْ..
عُـلِّـقْـن َ في الـكـعـبـة ِ يا أمـيـرتي
أجـيـالْ
قـدْ أخـطـا الـتـاريـخُ يا حـبـيـبـتـي..
وهـا أنـا اكـتشـفـتُ
حيـن أبْـحَـرتْ سـفـيـنـتي
تـبـحـثُ عـن مـمـالـك ِ الـيـاقـوت ِ..
والمـرجـانِ..
و الـتّـيْـنِ الذي تُـصْـنـعُ منـه ُ
الـخـمـرة ُ الحَـلالْ:)

فما هي الحقيقة التي عثر عليها يحيى، والتي أخطأ التاريخ في تسطيرها ؟. هي حقيقة أولى تبدا مع الوجود الأمومي الذي هو دائما مبتدأ ومنطلق.. كرامات الزهراء القانتة هي في جوهرها كرامات أمومة.. وانفعالات الشاعر في حقيقتها إنفعالات الإبن المبهور المغيّب الذي يعيد كتابة التاريخ من لحظة إلتحامه البدئية بالكينونة الأمومية.. تلك الأنثى التي تشكل أول وآخر الحقائق في حياة الشاعر الإبن.. فما " يعلق " أولا هما عينا الأم على أستار كعبة وجوده.. تعليق يكتسب مدياته الشرعية من فعل الله وتفضيله جمال الأنثى الأثيرة المتوّجة على عرش اللاشعور:

( عـيـنـاك ِ أوّلُ الـمُـعـلّـقات ِ
لـكـنّ الـذيـن أبْـحَـروا فـي الـبَـحْـث ِ
قـدْ خـانـهـمُ الـخـيـالْ..
لـمْ يـعـرفـوا
أن ّ الإلـه َ يـعـشـق ُ الـجـمـالْ
وأنـهُ
حـيـن انـتـهـى
مـن خـلـق ِ كلّ الـكون ِ
في لـيـالْ
سَــوّاك ِ يا حـبـيـبـتي قـصـيـدة ً
تـمـشي عـلى الأرض ِ
فـتـمـشـي خـلـفـهـا
حـديـقـة ٌ زهـورُهـا الـشـعـرُ..
وبـسـتـانـان ِ مـن تـيـن ٍ
وبُـرتـقـالْ!!)

.. ودائما تأتي عملية الخلق ساترة للتصور الطفلي عن الحمل والولادة ونشأة الكون والحياة.. فأول شيء يُخلق، وحسب تسلسل أولويات وجود " الآخر " في عالم الحياة الطفلية وضرورته لديمومتها ونمائها هو الحبيبة التي تحمل سمات صورة تلك الأنثى الغائرة في الوجدان. وتلك الأنثى هي " طبيعة " الإنسان الأولى.. هي الطبيعة الحقة في ازدهارها وينعها وخصبها، بل هي ملكة الطبيعة المتوجة والمرجعية التي لا معنى لاي فعل كوني إذا لم يرتبط في لاشعورنا بفعاليات تلك الطبيعة الأصل.. فالنهر والفراشات والزنابق العذراء – ولاحظ وصف العذرية للزنابق – لها – كما هو معروف – قيمة بايولوجية كبرى في حياتنا كموارد للبقاء والجمال.. لكن كل تلك القيم لا تزدهر إلا عبر تلك الترابطات الخفية بالدور الرحمي الفردوسي المنعم مع إحالاته العشقية التي تجعل الثرى سماء في ضربة شعرية سحرية:

(أميـرتي صـاحِـبـة َ الـجـلالة ِ
الزهـراءْ:
الـنـهـرُ..
والـنـدى..
الـفِـراشـاتُ..
الـشّـذا..
الـيـنـبـوعُ..
والـزنابـقُ الـعـذراءْ
واقِـفـة ٌ
وراء سـور عـرشِـك ِ الصّـوفيّ
تـسْـتـأذِنُـكِ الـدخـولَ
كيْ تُـعْـلِـن َ عن ولائـهـا
لِـتـاجـك ِ الضّـوئيّ في
مـمـلكة ِ الـعـشـقِ الـتي
قـد جعلتْ مـن الـثـرى
سـمـاءْ!..)

وقفة مع السمة السردية والوحدة الموضوعية:

.. وقد قلت سابقا إن يحيى يعمد قاصدا على توظيف الروح السردية، وهذه من سماته الأسلوبية، في تقديم ثيمته الشعرية أفكارا وصورا في صورة وقائع محبوكة تشد أوصال القصيدة فلا تعود صورا متناثرة وأحيانا مفككة كما يحصل لدى بعض الشعراء. إن روح الحكاية في تسلسل حوادثها، ووجود " ثيمة " مركزية يعزز نسيج القصيدة. كما أن اللجوء إلى الحوار " يمسرح " الأدوار ويخلق تناظرا في الأصوات التي يوزع الشاعر عليها دلالات خطابه. يظهر ذلك في أكثر مقاطع القصيدة ولكنه يتجلى بقوة في المقطع السابع عشر حيث يشق جدار القلق الوحشي رأس الشاعر، فيسيل دمه، ويتم إدخاله المستشفى. ويحكي لنا الشاعر الكيفية التي تعاملت فيها الممرضة معه، والحوار الذي دار بينهما، والإجابة " النكوصية " المحيّرة التي قدمها عندما سألته الممرضة عن عمره:

( أجْـلـسَـتـنـي امـرأة ٌ تـعْـتـمِـرُ الـقُـبّـعَـة َ الـبـيـضاء
فـوق مـقـعـد ٍ شِــبـه ِ وثـيـر ٍ
سـألـتـنـي بـعـدمـا قاســتْ لـيَ الـضّـغـط َ..
ونـبْـضـي..
ورأتْ إشـارة َ الـمِـحْـرار ِ:
كـمْ عُـمْـرُكَ " يـايـا " ؟ *
فـأجَـبْـتُ:
أنا يـاسـيّـدتي مـا زلـتُ
فـي رَحْـم ِ " الـتي لـيْـسَـتْ تُـسَـمّـى ":
نُـطْـفـة ً تـأمَـلُ أنْ يُحـضـنـهـا صـدرٌ وبَـَيـتُ..
أتُـرانـي
دون َ أنْ أدري:
اكتسـى عـظـمـيَ لـحْـمـا ً
فـوُلِـدتُ ؟
أتـرى أنَ الـدمَ الـنـازف مـن رأسـي
بـقـايـا مـن دم الـطّـلـق ِ
ولـكـنـي جَـهـلـتُ ؟
إنـنـي أعـرفُ نـفـسـي: لـمْ أعِـشْ بـعـدُ..
فـهـل يُـمْـكِـنُ أنْ يـحْـدثُ قـبـلَ الـعـيْـش ِ
مـوْتُ ؟.. )

وارتباطا بالوحدة الموضوعية فإن المتلقي قد لا يجد ضرورة سياقية تفرض وجود المقطع السادس عشر الذي يتحدث فيه الشاعر عن زيارته بحيرة البط حيث رأى طفلا ليس كالأطفال العاديين:

( أمـسِ ضُـحـى
رأيْـتُ في بـحـيرة ِ الـبـط ِّ صَـبـيّـا ً
يـرتدي سـحـابـة ً..
تـضـحَـكُ فـي مُـقـلـتِـه ِ الـحـقـولْ
رأيْـتُ فـي ضـحـكـتـه ِ
بـراءة َ الـقـانـتـة ِ الـبـتـولْ
وفي بـيـاض ِ الـبـطّ لـونَ قـلـبِـهـا..
وكنتُ ما بينهما
سـفـيـنـة ً تُـبـحـرُ في الـمـجـهـولْ.. )

ولا أريد الإطالة في المعاني الرمزية لاستدعاء هذا الكيان الطفلي في بحيرة البط، حيث يهيمن البياض على المناخ العام هناك، وسأركز على سمة أسلوبية لدى يحيى وتتمثل في " قصديته " العالية، حيث يكون لكل " حركة " شعرية مغزى ودورا. وهو لا يلقي باي صورة أو مشهد أو فكرة عبثا ويتركها سائبة بلا وظيفة. فبعد عشرة مقاطع، يعود الشاعر إلى صورة الطفل والبط.. ليضرب بنعومة على وترها رمزا لانعتاقه وعودته إلى بهاء الطفولة وبياض نقائها وهو يعود إلى أحضان البتول المباركة حيث أشرق بدرها في ظلمة عزلته وضياعه:

( أعْـشَـبَـتْ كـلَّ صـحـارايَ..
ظـلامُ الأمـس ِ ولّـى..
فـغـدي أبـصـرُهُ الان أمـامي
واضِـحـا ً
كـالـبـدر ِ فـي الـلـيـل ِ الأغـنَّ
فـأرى شـبّـاكـيَ المــفـتـوحَ لـلـشـمـسِ
مـلاذا ً لـلـفِـراشـات ِ..
الـعـصـافـيـر ِ..
أرانـي فـيـه ِ طـفـلا ً
يـسـبـقُ الـبـط َّ إلـى الـنـهـر ِ
يُـغـنّـي.. )

عودة:

.. وقد قلت أن الشاعر قد أشاد بنية صوفية / دينية لخطابه العشقي، فهناك المحبوبة التي يضفي عليها سمات القداسة وحتى التأليه، وهناك رسولها، " صوفائيل " الذي حاول الشاعر " تنكير " طبيعته الحسّية من خلال اشتقاق تركيبة الأسم من السمة الصوفية المرتبطة بلاحقة لغوية سومرية ترتبط بسمة الألوهة " إيل "، تضاعف من " التغريب " الأسطوري لدوره، وهنا الـ " المرسل " إليه، الشاعر الذي " ينتظر" أن تأتيه وصايا قانتته الزهراء.. أن " تنزل " عبر صوفائيل الذي " يبلّغه" بها بصورة غير مباشرة:

( جاءني في خلوةِ الفجر ِ على الساحلِ " صوفائيلُ "
يمشي خلفهُ الأطفالُ..
والأزهارُ..
والنهـرُ..
وأسـرابُ الـحَمامْ
قـالَ لـيْ:
تُـبْـلِـغُـكَ الضّـوئـيّـة ُ الـعِـشـق ِ الـسّـلامْ
وتـقـولُ احْـذرْ مـنَ:
الـغـمْـز ِ..
أو
الـلـمْـز ِ..
أو الـهَـمْـز ِ
إذا تـكـتـبُ شـعـرا ً..
فالـذي يـغـمـزُ
أو يـلـمِـزُ
أو يـهـمِـزُ من طاهرة ِ الـثـوب ِ لـئـيـمٌ..
وأنا فـردوسـيَ الـنـاسِـكُ لا يـدخـلـهُ
الـمارقُ..
والآثِـمُ..
والآكِـلُ مـن صَـحْـن ِ الـلـئـامْ
لِـيـكـنْ شِـعـرُكَ عَـفّـا ً كـالـتـراتـيـل ِ..
طـهـورا ً كـالــتّـسـابـيـح ِ..
نـقِـيّـا ً كـدمـوع ِ الـعِـشـق ِ والـوجـد ِ..
مُـضـيـئـا ً كـالـمـرايـا..
ونـديّـا ً كـالـغـمـامْ
لـيـسَ شِـعـراً
حـيـن لا يُسْـهِـمُ فـي الـذّود ِ عـن الـوردِ..
وعن عـشّ ِ الـعـصـافـيـرِ..
الـفـراشـاتِ..
ولا يُـسْـهِـمُ فـي حـرب ِ الـقـنـاديـل ِ
عـلى وحـشِ الـظـلامْ.. )

.. وهنا، وفي واحدة من حالات " التبليغ " غير المباشر، تأتي الوصايا أخلاقية لا تشمل السلوك الإنساني الشخصي للشاعر حسب، بل السلوك الشعري أيضا. كما أنها تكون في الغالب هادئة ومتصالحة مع الوضع الاستقبالي المسترخي للشاعر. لكن، في بعض الحالات، لا يتورع الرسول عن أن ينقل رسائل حسّية، كأن تكون رسالة ذكرى طعم قبلة علقت في ذهن وروح الشاعر.. قبلة كان قد تعاطاها مع المحبوبة المتعالية:

( زارَنـي في الـطّـيـف ِ " صـوفـائـيـلُ "
غـطّـانـي بـورد ٍ..
رشّ جُـرحي بـزفـيـر ٍ
فـيـهِ نـفـحُ الـفـلِّ..
والـرّيـحـان ِ..
والـنـعـنـاع ِ..
دفءُ الـخـبـز ِ..
طـعْـمُ الـقـبـلـة ِ الأولـى الـتـي كـانـتْ
وكـنـتُ
نـتـسـاقـاهـا إذا ثـرثـرَ عِـطـرُ الـلـيـل
واسْـتـفـحَـلَ صَـمْـتُ! ).

لكن حركة " التبليغ " هذه ترتبط برهبة عميقة تهز كيان الشاعر العاشق حتى عندما تكون عبر الرسول صوفائيل في أي وقت تتجسد فيها "آيات" ودلائل الحضور الخارق للقانتة التي لا تُسمّى.. لتمظهرات خرافية تبرهن على لاأرضية هذه الإمرأة الخارقة.. هذه " اللاأحد" التي تشكل لها الآيات الشعرية المبلّغة عير صوفائيل أنها " كل أحد ".. وأنها القوة المحيطة بكل وجود.. والشاعر يتبلغ برسالة القانتة الزهراء فيرتعد كيانه.. ويرتجف.. ويبكي.. ويتشاهد.. ويكبر وهو يسمع صوفائيل يصوّر له واحدة من آيات اللاتسمى / اللاأحد حيث العلامة المعجزة التي ينسكب فيها المطر، في حركة معكوسة تخالف ما سارت عليه شرعة الكون ونواميسه الطبيعية، من الأرض على السماء!! فيخر الشاعر خاشعا مغشيا عليه:

( ذُعِـرَتْ روحـي..
تـسـاءلـتُ: هـل الـسّـاعـة ُ حـانـتْ ؟
فـتـشـاهَـدْتُ..
وكـبّـرْتُ ..
وحَـوْقـلْـتُ..
وبَـسْـمَـلْـتُ.. فـصـوفـائـيـلُ لا يـكـذبُ..
صـوفـائـيـلُ مـبـعـوثُ الـتي أكـرَمَـهـا الـلـهُ
فـكانـتْ كـعـبَـة َ الـعـشــق ِ
ونـامـوسَ الـنـقـاءْ
رَجَـفَ الـقـلـبُ..
تـمـاسَـكْـتُ..
ولـكـنْ خـانـنـي صـوتـي
فـأجْـهَـشـتُ بـنـوبـات ِ بُـكـاءْ!
صـاحَ " صـوفـائـيْـلُ " بـيْ:
يـاسـادن َ الـصـوفـيّـة ِ الـعـذراء ِ
لا تـفـزَعْ..
فـإنّ الـخـيـرَ جـاءْ
هـذه ِ الأمـطـارُ بـعـضٌ
مِـنْ كـرامـات ِ الـتي أكْـرَمَـهـا الـلـهُ
فـكـانـتْ كـعـبـة َ الـعِـشـق ِ..
ومِـحـرابَ الـعـصـافـيـر ِ..
إذا تـسْـجـرُ تـنّـورَ الـدعـاءْ:
يَـحْـبَـلُ الـغـيـمُ.
وتـخْـضَــرُّ الـبـسـاتـيـن ُ..
وتــنـهـالُ عـلى الظـلـمـة ِ
مِـشـكـاة ُ الـضّـيـاءْ!.. )

.. وصحيح أن المتلقي قد يعتقد في التقاطة محكمة ظاهريا أن الشاعر مازال يقف في صف الصوفية التي تضفي الكرامات على محبوبها، وهذه كرامة من كرامات هذه القانتة الزهراء أنعم بها الله عليها كما يخبره صوفائيل، وهو استنتاج يمكن ان نربكه في الإيغال معه وتعزيزه من خلال حركة يشيدها الشاعر على أساس شرط صوفي آخر يصوّر فيه تلك المرأة الزهراء القانتة، وقد باغتته في غفوة عزلة لتمارس معه كرامة مضافة. لكن التأمل العميق الذي يربط هذه الحركة بالحركة الكلية العامة للقصيدة ( جشطلت –gestalt ) سيكشف لنا دهاء الشاعر ومكنته المسمومة المقتدرة في رسم حركة مماهاة يكون فيها " مدثرا " نائما، مدثرا بالشوك وشباك الصيد، ونائما على سجادة الرمل.. تدخل عليه فجأة وتصرخ به فترتعد أوصاله وتتمزق.. وتمد يدها السحرية لتنعش روحه وتحقق آيات جديدات من آيات حضورها الخارق، فإذا الشوك عشب وشباك الصيد غيمة.. وإذا النورس المقطوع الجناحين الذي كان يرقد إلى جواره قد غدا طفلا يلعبُ!!:

( داهمتني..
في مـتـاهـات ِ ضَـيـاعـي " اللا أحَـدْ ":
نـائـمـا ً..
مُـفـتـرِشـا ً ســجّـادَة َ الـرّمْـل ِ
لـحـافـي مـن شِـبـاك ِ الـصّـيـد ِ
والـشّـرْشَـفُ شـوكٌ وزَبَـدْ
وجِـواري نـورسٌ
دون جَـنـاحـيـنِ رقـدْ
مُـطـبِـقـا ً ثـغـري عـلى زهـرة ِ رُمّـان ٍ..
يَـدٌ وسّـدَت ِ الـرّأسَ
وفـوقَ الـوجْـه ِ يـدْ
صَـرَخـتْ بـيْ ..
فـزَّ قـلـبـي..
فـتـنـاثـرْتُ قـدَدْ
لـمْـلـمَـتْـنـي..
ثـمّ غـطّتْـنـي بـشـيء ٍ يُـشـبِـهُ الـغَـيْـمَـة َ..
مـدّتْ يَـدَهـا تـحـتَ ضـلـوعـي
فـاسْـتـحـال الـشّـوكُ عُـشْـبـا ً
وإذا الـنـورسُ طِـفـلٌ يـلـعَـبُ.. )

.. لكن من هنا ستأتي البراهين التي تطيح بالقناعة التي أسسها المتلقي قبل قليل والتي سرنا معه فيها خطوة مداهنة استدراجية.. فلا المرأة القانتة تماثل الأنموذج الصوفي المعروف لموضوع الحب، أو حتى للحضور الأنثوي في سياق الظاهرة الصوفية.. ولا كراماتها تشابه كرامات المرأة الصوفية.. فالشاعر له نهجه " الصوفي " الخاص.. وهو نهج ينزل بموضوع الحب الأنثوي إلى أرضية الفعل الجسدي البشري.. وفي لغته ومسار تعامله مع هذه القانتة يجد أن من أعلى أشكال حصانتها هو: عصمة نهديها. هكذا يصفها: "معصومة النهدين" وهو يجب على سؤالها إياه عن سرّ شقائه:

( سَـألـتْـنـي: مـا الـذي أشـقـاكَ ؟
قـلـتُ: الـنَـدَمُ الـصّـوفِـيُّ يـا مـعـصـومـة َ الـنـهـديـن ِ..
بـيْ مـنـي حَـيـاءٌ: أنـتِ قـلـبٌ طـاهِـرٌ بِـكْـرٌ
وقـلـبـي ثَـيِّـبُ..
وأنـا أمْـسـيَ طـيْـشٌ..
والـطِلا..
والـلـعِـبُ
والـنـدى أمـسُـك ِ يـامُـلـهِـمَـتـي
والـذّهَـبُ
كـيـف لا يـنـشـبُ مـا بـيْـنَ ضـلـوعـي
الـلـهـبُ ؟
كـفـكـفـتْ دمـعـي وقـالـتْ
لـكَ مـاضـيــكَ..
ولـيْ يـومُـكُ والآتـي الـذي أرتـقِـبُ.. )

.. وإعلان الشاعر " ندمه الصوفي " هو، ومرة ثالثة، مناورة مراوغة قد توقع القاريء في مصيدة التأويل الصوفي الفج والمباشر. ومن حقائق السلوك الصوفي، هو أن الصوفيين الكبار ما هم إلا خطاؤون كبار لم يصلوا سدة النقاء السلوكي والتطهر الروحي والالتحام بالمطلق، إلا بعد رحلة طويلة مع الخطيئة وأثقال الذات المنهكة بالآثام. ويحيى، في الظاهر، وكرحلة ابتدائية، يتفق معهم في هذا الوجدان المثقل بالذنوب، ذنوب وصل ثقل حمولاتها على كاهل ضميره حدّ أنه لا يسطيع النهوض. كان ضائعا تتلاقفه أيدي الملذات الشيطانية التي ألقته في مهاوي متاهات النزوات الطائشة كما يقول:

( كـنـتُ لا أقـدرُ أنْ أنـهـض
مـن ثِـقــلِ خـطـيـئـاتِ ضَـيـاع ِ الأمـسِ
مـا بـيـنَ نـديـمـاتٍ
وكـأس ٍ راعِـفِ الـرّاح ِ ودِنِّ
فـأنـا كـنـتُ ضـحـايايَ..
وجـلّادي..
وسَـجّـانـي..
وسـجـنـي..!
خَـدَعَـتْــنـي نــزَواتٌ
أوْهَـمَـتْ عـيـنـيَّ..
فــاسْــتـعْـذبـتُ فـي طـيـشـيَ شـهـداً..
ورحـيـقـا ً..
بـكـؤوس ٍ مـن مـتـاهـاتٍ وظـنّ ِ.. )

إنه يبدأ معهم منطلقا واحدا من خط شروع الشوط نفسه في الضمير المعذب بالإحساس بالذنب بسبب واحد وحيد هو الغرق حتى أذني وجوده في ملذات العشق والجسد حتى أنه صار يخشى أن تفتح بوابة ذنوب الماضي الذي يلاحقه ويؤرقه، ماض لا خلاص من سياطه سوى أن يتبتل في محراب البتول القانتة:

( لا تـفـتحـي بـوّابـة َ الأمـس ِ
اغـلـقـيـهـا..
واخـتـمـي بـالـشّـمْـع ِ نـافـذةَ الـعِــتـابْ
كُـنّ الـسّـرابَ..
وأنـتِ وحـدك ِ جـئـت ِ بـالأنـهـار ِ..
والـواحـات ِ..
في زمـن ِ الـتـصَـحُّـر ِ والـخـرابْ
.................................
مـا عـدتُ أذكـرُ مِـن رمـاد ِ الأمـس ِ شـيـئـا ً.
مَـنْ تـكـونُ مَـهـا ؟
ومـنْ لـيـلـى ؟
أضـعْـتُ كـتـابَ ذاكـرتـي
وصِـرتِ الأبـجـديـة َ..
والـيَـراعَـة َ..
والـمِـدادَ..
غـدوت ِ وحْـدَكِ ـ لا شـريـكَ لـديـنِ عـشـقِـكِ ـ
فـي تـفـاصـيـل ِ الـكـتـابْ
فـدعي ســؤالـك ِ عـن رمـاد ِ الأمـس ِ
إنّ تـهـجّـدي الـصّـوفيَّ
فـي مـحـراب ِ عِـشـقـك ِ ـ إنْ سـألـت ِ ـ
هـو الـجَـوابْ.. )

ولا حل لديه للهروب من ماض "نواسيّ – نسبة إلى أبي نواس " سوى التطهر الكامل ؛ غير أن ينفض يديه من آثام عمر كامل أمضاه في خضم الطلا والنهود والسيقان المغوية.. كان نواسيا حدّ النخاع.. ثم صار يفزع من الحان والدنان وخصور القيان. وكل هذا التغيير قد حصل بفعل تعلقه بالقانتة، وهذا هو حال يحيى في تماهيه مع أنموذج لا يصلح للتماهي هو أبي نواس:

( أبـو نـؤاس ٍ تـابَ..
لا يُغـويـه ِ صـدرٌ نـافِـرُ الـنـهـديـن ِ..
لا مَـلاسَـة ُ الـسـاقـيـن ِ..
لا تـغـنّـجُ الـعـيـنـيـنِ ..
لا الـكـحْـلُ الـذي يَـثـمَـلُ مـنـهُ الـجـفـن ُ
والأهـدابْ
........................
أبـو نـؤاس ٍ لـمْ يـعُـدْ أبـا نؤاس ٍ
صـار يُـدعـى:
ســادِنَ الـقـانِـتـة ِ الـصّـوفـيّـة ِ..
الـبـتــول ِ..
والأمـيـرة ِ الـنـاسِـكـة ِ..
الــطّـاهِـرة ِ الـتي هـواهـا رحـمـة ٌ
وعِـشـقُـهـا ثـوابْ.. )

وتماهي يحيى مع النواسي، وكان بإمكانه أن يختار أنموذجا صوفيا خطاء مادام قد وضع نصب عينيه وكرر أنه قد نجا من الغرق في بحر آثامه بسبب " الندم الصوفي " كما اصطلح عليه وتحوّله إلى سادن للقانتة البتول – هذا التماهي هو نوع من انسرابات مكبوتات اللاشعور التي امتهنت الغواية.. مكبوتات اللاشعورالتي هي الحي الذي لا يموت.. مكبوتات تضغط لتنسرب عند أي فرصة وتحت أي غطاء خصوصا عندما ترتخي قبضة السلطة الرقابية في جهازنا النفسي الداخلي كما هو الحال في لحظة الإبداع الشعري. انسربت هذه المكبوتات ولوّنت بقوتها الغرائزية المحببة صور توبة الشاعر الذي منحها بدهاء وإلحاح لغوي مثابر طابعا صوفيا، فهو الخطّاء التائب الذي أصبح سادن مخلّصته القانتة البتول ذات الكرامات عبر استلام وتنفيذ وصاياها التي يبلغه بها رسولها صوفائيل. لكن صوفية يحيى هي صوفية الشعراء الذين يتبعهم الغاوون، الذين يقولون ما لا يفعلون.. ويفعلون ما لا يقولون. لقد أعلن عن ندمه الصوفي لفظا وجاء سلوكه حسّيا وأرضيا عملا، وها هو يرسم أمام أعين المتلقين فعلا أو استيهاما حلميا إلتحامه " الصوفي " الخاص:

( أمـسِ ـ فـجـرا ًـ أطـبَـقَ الـسُّـهـدُ جـفـوني
فـرأيْـتُ الـوردَ ـ أو شُـبِّـه َ لـيْ ـ
يـنـسـجُ ثـوبـيـن ِ من الـعـطـر ِ..
وعـصـفـورا ً عـجـيـبـا ً
ريـشُــه ُ يـقـطـرُ نـورا ً
كـالـذي يـقـطـرُه ُ في الــلـيـل ِ
جـفـنُ الأنـجُـم
..............................
ورأيـتُ الـنـهـرَ ـ أو شُـبِّـه َ لـيْ ـ يَـغـسِـلُ
سـاقـيـك ِ..
ونـهـديـك ِ..
ويَـلـتـفُّ عـلى الـخـصـر ِ الـتِـفـاف َ الـبُـرْعُـم ِ
فـتـعَـجّـبْـتُ..
وصـلّـيْـتُ صلاة َ الـفـجـر ِ قـصـرا ً..
ثـمّ صـلّـيْـتُ...
وصـلّـيـتُ...
ولـكـنْ:
فـرَّ مـن وجـهـي إلى ثـغـرك ِ والـجـيـد ِ فـمي
ويـدي مَـرّتْ عـلى الـخـصـر ِ بـرفـق ٍ
كـالـذي يـفـعـلُ ذو نُـسْــكٍ
بـبـاب ِ الـحَـرَم ِ.. )

وهو التحام يختلط به في تركيبة عجيبة المقدس والمدنس في وصقة كيميائية شعرية يجيدها يحيى. خلطة تعيد إلى ذهنك انسابات مباركة كثيرة في مواضع عدة من القصيدة على طريقة " الخمرة الحلال " التي تحدث الشاعر عنها سابقا، أو على طريقة وصف توبة أبي نؤاس - أو الشاعر لا فرق – الذي تحول صبوحه الكتاب وغموقه دمع التوبة ومزّاؤه الترتيل!!، أو، وهذه أشد الانسرابات مكرا، ما حمله المقطع الثالث عشر من مقارنة إلتفافية محكمة بين عذابات حبة القمح في تحملها عناء الإنفلاق من أجل أن تصبح بيدر قمح، أو احتراق رغيف الخبز لينضج ويصبح طعمه مقبولا للاستهلاك البشري، ضربها الشاعر كامثلة على الحالة التي يكون فيها الوجع نعمة مثل وجع المخاض ليصل إلى " تخريج " مراوغ يبرر فيه " عذابات " انغماسه المطوّح في آثام الغرائز وذنوب الملذات كي يصبح " موضوعيا " في حاجة للتطهر العزوم على يدي قانتته البتول!!:

( نِـعَـمُ الـلّـه ِ كـثـيـراتٌ.
وبـعـضُ الـوَجَـع ِ الـقـاتِـل ِ نُـعْـمى
حَـبّـةُ الـقـمح ِ إذا لم تـنـفـلـقْ
داخـلَ طيـنِ الـحَـقـل ِ
لن تصبحَ لـلـبـيـدر رحْـمـا
ورغـيـفُ الخـبـز لـولا الـنـارُ
مـا اسْـتُـعْـذِب طـعْـمــا
وأنـا لـولا ذنـوبُ الأمْـسِ
مـا جـئـتُ إلى واحـاتِـك ِ الـزهـراء ِ
تـوّابـا ً مـن الـشّـوك ِ
وأسْــتـسْـقـي هَـديـلا ً يوقِـظُ الــنّـايَ الأصَـمّـا.. )

.. ولكن ضياع يحيى، والحق يقال، وهذه من السمات الأسلوبية لمنجزه الشعري، لم يكن بفعل دوامة ضغوط غريزية فجة مربكة. أبدا، إنه نتيجة طبيعية لاغترابه مع ذاته وفي وطنه. إنها غربة مضاعفة واستلاب مرير. جحيم أن تكون غريبا عمّن حولك، وأكثر جحيمية أن تكون غريبا عن البشر الذين يحيطون بك حدّ أن تشعر بأن " لا أحد " يحيط بك من كل جانب في خواء مرير ومهلك، وشتان بين حالة الـ " اللاأحد" الإغترابية الفاجعة التي يحياها الشاعر في أتون مجنته واستلابه، وبين تلك البتول، وعصومة النهدين، " اللاأحد" أيضا التي "هبطت" عليه من فردوسها لتستنقذه. هي الحل العلاجي الوجودي " الطباقي". لقد نبذه وطنه بلا رحمة فالتهمته الأذرع الأخطبوطية للمنافي الخانقة ليحاصره كابوس " اللاأحد" في الداخل والخارج:

( لا أحَـدْ..
خلدَ الطيرُ إلى العُـشّ ِ..
الـنـدامى غادروا مائدة َ الليل ِ
ونامَـتْ خـضـرةُ الأشجار ِ
والشـارعُ قـفـرٌ ..
لا أحَـدْ....
وحـدَكَ الانَ تجـوبُ الليلَ
تسْـتجـدي من الشـمـس ِ شـروقا ً..
نـيـزَكٌ يسْـقـط ُ..
بـرْق ٌ..
نادِلاتُ المـطـعـم ِ الـليلـيّ أطـفـأنَ المصابيحَ..
السُّـكارى غـسـلوا بالصّخبِ الشـارعَ
من ثرثرة ِ الصمت ِ..
وأنتَ الـنورسُ الشـرقيُّ
تستجْدي الفراتين ِ نميرا ً
وحبيبا ً كلما تقربُ من شـرفة ِ عـينيه ِ
ابْـتـعَـدْ!.. )

ولعل أكثر حالات " اللاأحد" الموغلة في تمزيق الروح أن تستعصي على الشاعر، وهو منبوذ في منافيه، أن ينتخي بالأنموذج الذي من المفترض أن يكون حاضرا دائما، أنموذج المرأة المنقذة الحانية.. الحبيبة.. فلا يأتيه سوى صدى مدوٍ لنداء الخراب يلاحقه من مستقره الرحمي الذي لفظه إلى جحيم المنفى: لا أحد.. لا أحد.. لا أحد. وهي حالة خرابية مدمرة يصوّرها الشاعر بعين سينمائية مفعمة بالحركة المعبرة حيث الظلمة الحالكة في الداخل والخارج.. ظلمة اليأس والاختناق في الروح.. تستجيب لها ظلمة في السماء.. مطر ثقيل ورعد اشد.. وجسد متهالك مثقل بالخيبات والمشاعر المريرة بالانهجار والوحدة:

( لا أحَـدْ
وحْـدَكَ الان َ..
الـمـشـاويـرُ ضَـيـاعٌ
أسْـدَلـتْ أجـفـانهـا الأنجـمُ
والـقـنـديـلُ يـشـكـو منْ رَمَـدْ
زخّـة ٌ أخـرى..
ثـقـيـل ٌ مطـرُ الليلة ِ
والـرّعْـدُ أشـدْ..
تـتـركُ الـسّـاحِـلَ
تـرمي الجـسَــدَ الـمَـبـلـول َ
فوق المقعـد ِ الخلفيّ
تـسْـتـحـضـرُ أنثاكَ الخرافيّة َ
تـسـتـنجـدُ بالقانتة الزهراء ِ : بـئـري مُظـلـمٌ
مُـدّي لمـقـتـولِـك ِ عِـشـقـا ً من مَـسَــدْ!
فيجيء الـصـوتُ:
عُـذرا ً لا أحـدْ.. )

وإذا كان لكل تحوّل " تجربة " عاصفة تخض وجود الفرد وتشعره في الختام المحتدم بأولويات خلاصه، تجربة تعيد إلى ساحة الشعور، عبر مداورة الألم والمعاناة الباهضة التي توفر الغطاء " المنطقي " لقناعة الخلاص الجديدة القديمة. وقد جاءت تجربة التحول هذه ممثلة في رحلة البحث عن رحم أمومي بديل.. عن وطن آخر.. أن يكون سواه.. غير هويته السومرية أو البابلية الأصيلة.. وهي في جوهرها العميق ودلالاتها اللاشعورية هجران الانثى الأصل بحثا عن رحم بديل:

( جَـرّبْـتُ يـومـا ً أنْ أكـون سِـوايَ
غـيـرَ الـبـابـلـيِّ..
كأنْ أكون الطائـرَ الـجَـوّالَ
والغـجـريَّ لا وطـن ٌ لـهُ غـيـرُ الفضاءِ
وخيمةٍ تُـطـوى بلا تـعَـبٍ
إذا أزِفَ الـرّحِـيــلْ
أبدلـتُ بـالـيـشـمـاغِ قُــبَّـعـة ً..
وبـالـمَـشـحوفِ نـعْـلَ تـزلّـج ..ٍ
وبـطـاسَـة ِ الـلـبَـنِ الـخـضيـض ِ الكأسَ ..
والـسُّـمَ الـمُـعـتّـقَ
بالـنّـمـيـر ِ الـسّـلـسـبـيـلْ
طـوَّفـتُ في مُـدُنِ الـنُّـحـاس..
قـطـفْـتُ مـن روض ِ الـثـغـور ِ الـوردَ ..
لـكـنْ:
فـي الـحقـيـقـةِ لم يـكنْ إلآ رمـادا ً.. )

وكنتيجة تترتب على هذا الهيمان اللاشعوري يحاول الشاعر الاستقرار عند أول ضفة أنثوية يقابلها، وهذا ما يقع فيه أغلب المهاجرين والمنفيين، البحث عن رحم حام منعم.. عن جسد أنثوي يحنو ويمنح الدفء في صقيع المهجر الموحش:

( جـرّبْـتُ يـومـا ً أنْ أعـيـشَ تـمَـرُّدي
فـي جَـنّـة َ الـمُـتـشـرّديـنَ:
غـفـوتُ في الـمُـتـنـزّهـاتِ
وفي مَـحـطـاتِ الـقـطـاراتِ الـقـديـمـة ِ..
قـاسَـمَـتْـنـي غـادةٌ " روسِـيّـة ٌ " مـأوايَ
فـوق الـمَـصْـطـبـات ِ..
وفي الـمـزارع ِ..
فـي بـيـوت ٍ بَـخـسَـة ِ الإيـجـار ِ
يَـنْـدرُ أنْ يـعـودَ إلـى أسِـرّتِـهـا ـ إذا خـرجَ ـ الـنّـزيـلْ
وصَحَـبْـتـهـا فـي رحْـلـتـيْـن ِ..
وحـيْـنـمـا أفـلـسْـتُ:
بـعـتُ الـخـاتـمَ الـذهـبـيَّ والـسّـلـسـالَ..
عِـشـنـا لـيْـلــة ً حـمـراءَ ـ أو سـوداءَ ـ
فـي نُـزْل ٍ يُـطِـلُّ عـلـى مَـضـيــق ِ " الـدّرْدَنـيـلْ "..
ثـمّ افـتـرقْـنـا بـعـد يـوم ٍ واحِـد ٍ
ذهـبَـتْ إلى " هِـنـغـارِيـا "..
وأنـا اتّـجـهْـتُ إلـى " بـلـغـرادَ "..
الـحـقـيـقـة ُ لـمْ أفـكّـرْ بـالـرّحـيــلْ
لـكـنّـمـا " اسْــتـنـبـولُ ":
مـوحِـشـة ٌ بلا مـال ٍ تـنـشُّ بـه ِ
ذئـابَ الـوحـشـة ِ الـخـرسـاء ِ
فـي الـلـيـل الـطـويـلْ.. )

.. ومن مدينة إلى أخرى.. والمدن مكافئات لأرحام حامية أو التهامية، والسبب، سبب رحلة العذاب الحارق هذه، كما يقول الشاعر، هو أن دليله للخلاص والاستقرار والتصالح مع الذات والمجتمع، وهي المنقذة البتول، لم تكن قد " هبطت " عليه بعد، ولم يكن رسولها صوفائيل قد " بلغه " برسالتها أو أظهر له آيات حضورها الناجز الخارق:

( لاح " صوفائيلُ " في الأفـق..
فــتـمْـتـمْــتُ خـفـيـضـا ً:
بـصَـري كـان سـلـيـما ً
غـيـرُ أنّ الـقـلـبَ أعْـمـى.. )

وبعد تجربة " التحوّل " المربكة والماحقة هذه، تأكد لديه أن لا خلاص إلا بالعودة إلى ذاك الرحم الأصيل. عودة هو في الواقع مستعد لها مسبقا، وقد تأججت حاجته إليها بعد أن تأكد لديه، عبر رحلة الاغتراب والانهجار الممزقة، أن لا بديل " خارجي " يحل محل البتول المنقذة. وها هو يستجيب بلا تردد لرسولها صوفائيل وهو يأمره أن " يقوم " ويزيح عنه دثار الخيبة والتراخي، ويبلغه رسالة التي " لا تُسمّى " بأن يقوم، والشاعر يستعين من جديد بالموروث القرآني، و " يأخذ كتابه بقوّة " – وقد خاطبته أنا قبل اشهر بالأمر نفسه في الحلقة الأولى من سماويات - بع أن " أكملت له سفر عشقه ".. أكملت له رسالته وحددت وصاياها وتهاليمها.. وهي الآن تخاطبه باسمه المباشر " يحى السماوي " تعبيرا عن نرجسية الشاعر الضارية والمتصاعدة، ليأخذ الكتاب ويحمل رسالة الحب العظيمة ويعيد أمجاد " قيس بن الملوح"، كرمز للثبات العارم على قيم العشق والنقاء والوفاء.. يحملها كآخر العشاق المقاومين:

( وتـقـولُ:
يـا يـحـيـى الـسّـمـاويُّ
الـشـهـيـدُ الـحـيُّ
والـحـيُّ الـشـهـيـدُ
وخـاتـمُ الـعـشّـاق ِ فـي عـصـر ٍ
يـضـجُّ خـنـا ً وغـيّـا
الـيـومَ قـد أكـمـلـتُ سِــفْـرَكَ..
فـانـطـلِـقْ بـرسـالـة ِ الـعـشـقِ الـمُـقـدَّس ِ
كـنْ رسـولـي فـي الـهـوى
حـتـى يُـعـادَ الإعـتِـبـارُ
لـعَـقـلِ " قـيـسِ بـنِ الـمـلـوّحِ "
و" الشـريـدِ الـسّـومـريِّ "
ويـسْـتـعـيـدَ عَـفـافـهُ:
الـوَجْــدُ..
الـتـهَــيُّــمُ..
يَـسْــتـحـيـلُ الـعِــشــقُ خـبـزا ً لـلـقـلـوبِ
فـلا يـعـودُ الـحـزنُ سـيـمـاءَ الـمُـحَـيّـا
وتـقـولُ
يـا يـحـيـى الـسّـمـاويُّ
الـمُـضـرَّجُ بـالصَّـبـابـة ِ
كـنْ بـعِـزّة ِ سَــيِّـدِ الـشّـجَـر ِ الـنـخـيـل ِ:
يـمـوتُ مُـنـتــصِـبـا ً..
ومـثـلَ الـوردِ:
لـو ذبـحـوهُ يـبـقـى عـطـرُهُ
يـذكـو شـذِيّـا
الـعِــشْـقُ بـابٌ لـلـخـلـودِ
فـإنَّ " قـيـسَ بـنَ الـمـلـوّح ِ "
لـمْ يـزلْ لـلـيـوم ِ حَـيّـا!.. )

.. وقد تسلم يحيى الرسالة.. رسالة الحب التي ستزرق في عروق وجودنا المتيبسة مصل الحياة والخلود.. وسيدافع عنها كـ " ساموراي أخير ".. فتحية له..

هوامش:

(1)يد الشعر – خمسة شعراء متصوفة من فارس – محاضرات ألقاها عنايت خان – ترجمها إلى الإنكليزية كلمان باركس – ترجمه عن الإنكليزية د.عيسى علي العاكوب – دار الفكر – دمشق – 1998.

(2)إشكاليات الحداثة في شعر الرفض والرثاء: يحيى السماوي أنموذجا – حسين سرمك حسن- دار الينابيع – دمشق – 2010.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى