الأربعاء ١٧ آب (أغسطس) ٢٠١١

فلسـطين

السيد حسن الأمين

حـدودها

يحد فلسطين من الغرب البحر الأبيض المتوسط، على ساحل طوله نحو 224 كيلومترا ومن الشرق سوريا- ويبلغ طول الحدود بين القطرين 70 كيلومتر- والأردن على حدود طولها نحو 360 كلم، ومن الشمال لبنان - على حدود طولها 79 كلم وسوريا، ومن الجنوب سيناء وخليج العقبة. ويبلغ طول الحدود المصرية الفلسطينية بين رأس طابا على خليج العقبة ورفح على البحر الأبيض المتوسط نحو 240 كلم هذا وطول الساحل الفلسطيني الواقع على خليج العقبة عشرة كيلومترات ونصف الكيلومتر.

تعينت الحدود بين فلسطين من جهة ولبنان وسوريا من جهة أخرى بموجب الاتفاق الفرنسي- البريطاني المنعقد في /12/1920 وفي عام 1922- 1923 عدلت هذه الحدود فأدخلت ضمن حدود فلسطين بعض الأراضي السورية القريبة من نهري بانياس والحاصباني وكذلك بعض المواقع اللبنانية وكان أهم ما أخذ من لبنان هو منطقة (الحولة) التي كان اليهود يمهدون لشرائها ثم اشتروها، وكذلك جزء من جبل عامل فيه بلدة هونين. وبموجب هذا الاتفاق تسير الحدود من «رأس الناقورة» الواقع على البحر الأبيض المتوسط باتجاه الشرق إلى قرية «يارون» في لبنان. ومن ثم يسير باتجاه الشمال الشرقي إلى «القدس» و«المطلة» في فلسطين، وعبر وادي الأردن إلى «تل القاضي» في فلسطين، وإلى «بانياس» في سوريا. وبعد ذلك يسير خط الحدود باتجاه الجنوب الغربي إلى«جسر بنات يعقوب» ومن ثم يسير باتجاه الجنوب على طول نهر الأردن حتى بحيرة طبرية، وساحلها الشرقي إلى نقطة تكاد تكون من مدينة طبرية حيث ينحرف خط الحدود في اتجاه الجنوب الشرقي إلى أن يصل محطة «الحمة» الواقعة على سكة حديد درعا- سمخ. وحسب هذا التحديد تقع جميع «بحيرة الحولة» وحوضها، و«بحيرة طبرية» بأكملها في فلسطين.

ويتألف القسم الفلسطيني الواقع شرقي البحيرتين من قطاع ضيق يمتد على طول ساحل بحيرة الحولة الشرقي، وقطعة ضيقة تقع شرقي بحيرة طبرية يتراوح عرضها بين 10-2000 متر على أكثر تعديل. وأما الحدود مع شرقي الأردن فقد حددها المندوب السامي البريطاني لفلسطين وشرقي الأردن في ا أيلول 1922. وهي تبدأ من نقطة اتصال اليرموك بالأردن فتسير جنوبا من منتصف مجرى نهر الأردن وبحيرة لوط ووادي العربة حيث تنتهي في ساحل خليج العقبة على بعد ميلين غربي مدينة العقبة.

وكانت الحدود بين فلسطين ومصر قد حددت بموجب الاتفاقية المعقودة في 12 شعبان 1324 أول أكتوبر- تشرين الأول- 1906 م. بين خديوية مصر والحكومة العثمانية. وتمتد الحدود من "تل الخرائب" في "رفح" على ساحل البحر الأبيض المتوسط وتنتهي في "رأس طابا" على خليج العقبة. وخط الحدو هذا يكاد يكون في امتداده مستقيم

كان العثمانيون يعتبرون هذه الحدود حدودا إدارية تفصل بين (خديوية مصر التي كانت لهم عليها سيادة اسمية- وبين ولاية سورية ومتصرفية القدس.

مسـاحة فلسطين السطحيّـة

تبلغ حوالي (27009) كيلومترات مربعة: 10421 ميلأ مربعأ، من هذه المساحة (704) كيلومترات مربعة : 262 ميلا مربعا، مساحة بحيرة الحولة وبحيرة طبرية ونصف مساحة البحر الميت. ولا يمكن اعتبار أرقام مساحة البلاد صحيحة ونهائية، وذلك لعدم تعيين الحدود في "وادي عربة" بين فلسطين وشرقي الأردن. فقد جعل الحد في وسط الوادي ولكنه لم يعين حتى نهاية الحكم البريطاني فضلا عن مجرى نهر الأردن الذي يفصل بين البلدين، عرضة للتغيرات الكثيرة, الأمر الذي يؤثر في خط الحدود, وبالتالي في مساحة البلاد. ان الوكالة اليهودية تذكر في صفحة 435 من احصاءاتها المطبوعة في عام 1947 بأن ما يملكه اليهود من ارض فلسطين, في نهاية شهر أيلول من عام 1946 بلغ 18070000 أي ما يعادل 6,8% من جميع أراضي البلاد.

وتوزع الدونمات عليها كما يلي:

 175000 أجرتها الحكومة للوكالة اليهودية.

 325000 منحتها الحكومة للوكالة اليهودية وهي من أملاك الدولة.

 420600 ما حصل عليه اليهود في عهد الدولة العثمانية- حسب إحصاءات الوكالة اليهودية- وذلك بعد جهود عظيمة بذلت خلال خمسين عاما في العهد المذكور، وهذه الدونمات تعادل نحو 6،1% من مجموع مساحة البلاد باع العرب هذه المساحة في وقت لم يعلموا فيه شيئا عن الغايات الصهيونية.

 261400 مساحة الأراضي التي اشتراها اليهود من عرب فلسطين. وبعضها نتيجة لقانون نزع الملكية وتنفيذا لأحكام أصدرتها المحاكم المختصة، أو لظروف اقتصادية بالغة القسوة والشدة.

 625000 ما باعه الأقطاعيون من بعض (اللبنانيين ) و(السوريين) من غيرأهل فلسطين وتفصيلها كمايلي: 1807000 دونم .

 400000 دونم في مرج بني عامر 156000 دونم في أراضي امتياز بحيرة الحولة 32000 دونم أراضي امتياز وادي الحوارث 28000 دونم من أراضي أقضية الناصرة وصفد وعكا وبيسان وجنين وطول كرم. ويتضح من هذه الأرقام بأن الفلسطينيين باعوا، ومعظمهم تحت ظروف قاهرة، أقل من 1% من مجموع مساحة البلاد البرية. وفي آخر إحصاء للأعداء أنهم كانوا يملكون في نهاية الانتداب البريطاني من فلسطين 15،7% من مجموع مساحة ا لبلاد. هذا والدونم يساوي ألف متر مربع أو 10/1 من هكتار. والفدان الواحد يساوي 0,405 من الهكتار.

عـدد السّـكان

قدر العثمانيون سكان فلسطين في عام 1914 العام الذي أعلنت فيه الحرب العالمية الأولى ب689275 نسمة 8% منهم من اليهود. وكان عدد سكان فلسطين حسب التقدير الرسمي، في سنة 1920م 673000 نسمة منهم 0 521000 من المسلمين .67000 من اليهود و78000 من المسيحيين و7000 من المذاهب الأخرى. وفي الإحصاء الذي أجراه البريطانيون في 22 تشرين الأول (أكتوبر) من عام1922 بلغ عدد السكان 757182 نسمة بينهم 83794 يهوديا، والباقي عرب يعودون في أصولهم إلى العناصر العربية التي هاجرت قديما من الجزيرة العربية وسكنت في هذه البقعة المقدسة من الوطن العربي.

وفي 13 اذار من عام 1947 م قدر عدد سكان البلاد بنحو 193367 نسمة على حساب عدد بدو بئر السبع هو 47981 كما جاء في إحصاء عام 1931. ولما كان عدد هؤلاء البدو بلغ في إحصاء فني سري دقيق، أجرته الحكومة عام 1946، 91934 نسمة فيكون عدد سكان فلسطين هو:

1933673-47981×91934=1977626 نسمة. بينهم 614239 يهوديا، وهذا يعادل نحو 31% من مجموع السكان وفي اخر إحصاء للأعداء أن عددهم بلغ عند نهاية الانتداب حوالي 650000 نسمة إلا أن معظم هؤلاء اليهود كانوا من المهاجرين الذين دخلوا البلاد بالقوة، وخلافا لرغبات سكانها الأصليين فلا يمكن اعتبارهم كالسكان العرب مواطنين فلسطينيين شرعيين بأي حال من الأحوال، وعليه فإن النسبة المذكورة أكثر من الواقع بكثير.

تطـور قضيـة فلسـطين

وفيما يلي كلمة للدكتور عبد الوهاب الكيالي عن الحركة الصهيونية منذ سنة 1897 حتى سنة 1947 السنة المشؤومة التي تمزقت فيها فلسطين. أما ما أتى بعد ذلك فسيكون له دراسات مستغلة نرجو أن نوفق لاستيعابها.

قال الدكتور الكيّـالي :

تعود جذور الصراع العربي- الصهيوني المعاصر إلى ثلاث ظواهر متداخلة متفاعلة متناقصة، برزت فى القرن التاسع عشر وحددت الإطار العام للحركة الجدلية التاريخية في المنطقة العربية :

أولاً : الظاهرة الإمبريالية وأطماع الغرب في المنطقة.

ثانيا : ظاهرة اليقظة القومية التحررية عند العرب.

ثالثا : الظاهرة الصهيونية الاستيطانية الإجلائية وهي ظاهرة وثيقة الصلة والتحالف بالظاهرة الأولى كما سنبين.

لفلسطين أهمية تاريخية وروحية وجغرافية واستراتيجية فريدة. فهي قلب الوطن العربي وواسطة عقدة وهي التي تصل أوروبا بآسيا وإفريقيا، وهي مهد الديانات التوحيدية الكبرى في التاريخ وملتقى الحضارات ومن أهم بقاع الأرض قاطبة من النواحي الاستراتيجية والسياحية والدينية. ومن هنا كانت أطماع الدول الغربية في فلسطين قديمة العهد، تشهد بقوتها ومداها الغزوات الصليبية المتعاقبة.

وقد استعاد الغرب اهتمامه الشديد بمنطقتنا في أعقاب احتلال بريطانيا للهند في القرن السابع عشر وبروز الأساطيل الغربية لتأمين المواصلات والتجارة بين الدول الأوروبية ومستعمراتها. كما أيقظت حملة نابليون بونابرت على مصر وفلسطين في أواخر القرن الثامن عشر وأطماع بريطانيا ورغبتها في السيطرة المباشرة نظرا إلى ما انطوت عليه حملة نابليون من تهديد خير للمصالح البريطانية. من هنا إن بريطانيا حرصت على الحفاظ على الإمبراطورية العثمانية كحاجز في وجه أطماع الدولة الغربية الأخرى وعارضت قيام أية قوة حقيقية محلية في المنطقة. وهكذا نظرت بريطانيا في قلق بالغ إلى بروز محمد علي الكبير في مصر ما لبث أن تحول إلى تدخل عسكري عندما هزمت جيوش محمد علي (بقيادة ابنه إبراهيم باشا) الجيوش العثمانية ووحدت مصر وسوريا الطبيعية مهددة بذلك استنبول عاصمة الدولة العثمانية ومعها مصالح الدول الغربية وامتيازاتها في المنطقة. أثار تقدم جيوش محمد علي في المشرق العربي ما عرف بـ "المسألة الشرقية" واستتبع ذلك إقدام بريطانيا على الالتزام بسياسة ثابتة هدفها الحفاظ على المصالح التجارية البريطانية في المنطقة، تحت ستار حماية الأقليات الدينية، وذلك عن طريق الحيلولة دون قيام دولة موحدة تضم مصر وسوريا تستطيع أن تهدد نفوذ الدولة الأجنبية ومصالحها.

وكان من جراء تلك السياسة أن أقامت بريطانيا أول قنصلية غربية في القدس عام 1839 وجهت معظم جهودها ونشاطها إلى حماية الجالية اليهودية في فلسطين التي لم تكن تتجاوز تسعة الاف وسبعمائة نسمة. وحاولت بريطانيا استقدام جاليات يهودية لأسباب ودوافع استعمارية بينها في وضوح الفايكونت بالمرستون رئيس وزراء بريطانيا في رسالة بعث بها إلى سفيره في إستانبول شرح فيها المنافع السياسية والمادية التي تعود على السلطان العثماني من جراء تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين وإقامة حاجز بشري استعماري يحول دون قيام دولة موحدة تضم المشرق العري وإفريقيا العربية.

"إن عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين بدعوة من السلطان وتحت حمايته تشكل سدا في وجه مخططات شريرة يعدها محمد علي أو من يخلفه".

وقد تبنى فكرة بالمرستون في هذا الصدد رجال السياسة الاستعمارية البريطانية الذين توالوا على الحكم في بريطانيا في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ولا شك في أن شق قناة السويس واحتلال بريطانيا لمصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان لهما أعمق الأثر في تفكير الساسة الإنكليز الاستراتيجي بالنسبة إلى أهمية فلسطين وضرورة السيطرة عليها وأدى بالتالي إلى تزايد الحماسة لفكرة إقامة مستعمرة يهودية تحت الحماية البريطانية فيها.

نشـوء الحـركة الصهيونية

وعلى رغم تبني بالمرستون للفكرة الصهيونية فإن الفكرة الصهيونية السياسية لم تأخذ في شق طريقها إلا بعدما فشلت الأفكار الليبرالية التي نادت بها الثورة الفرنسية في فرض مبادئ الإخاء والمساواة على المجتمعات الأوروبية، وبعدما اتضح أن الأكثرية الساحقة من اليهود عجزت عن الانصهار في المجتمعات التي تغيم فيها أو أن هذه الأكثرية رفضت ذلك. وهكذا جاءت الفكرة الصهيونية كتعبير عن فقدان الأمل في قيام مجتمعات أوروبية تحررية عادلة قادرة على استيعاب اليهود اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وكاستجابة لرغبة الدولة الاستعمارية الكبرى في استخدام الجاليات اليهودية لأغراض استعمار الشعوب المختلفة. وقد لاقى ذلك تشجيعا من كبار الرأسماليين اليهود في غرب أوروبا الذين كانوا يرغبون في تحويل سبل الهجرة اليهودية من أوروبا الشرقية (نتيجة زحف الرأسمالية الصناعية إليها وفقدان اليهود مكانتهم ووظائفهم التقليدية) إلى خارج أوروبا لتجنب نتائج منافسة اليهود الوافدين للبورجوازية الصغيرة في أوروبا الغربية وعواقب البطالة في إثارة النعرات اللاسامية عند الطبقات الشعبية.

وفي مطلع ستينات القرن التاسع عشر أخذ بعض المفكرين اليهود في الدعوة إلى العمل من أجل "العودة إلى فلسطين واستعمارها وكان أولهم هيرش كاليشر وذلك في كتابه "البحث عن صهيون" الصادر عام 1861 وفي العام التالي نشر مؤسس هس كتابه "روما والقدس" الذي نادى فيه بإقامة دولة يهودية في فلسطين. أما معاصرهما دافيد غوردن فقد نادى بما سماه "دين العمل " مشددا على أهمية استعمار اليهود لفلسطين والعمل اليدوي لتحويل اليهود إلى أمة كغيرها من الأمم. ويعتبر كتاب ليون بينكر التحرير الذاتي الصادر عام 1882 والذي حلل الوضع اليهودي العام وخلص إلى المناداة بوطن قومي يهودي في فلسطين أو أميركا، أقوى الكتابات الصهيونية وأعمقها أثرا.

لكن الصهيونية بقيت مع ذلك فكرة معزولة عن جماهير اليهود حتى العام 1881 عندما اضطرت أعداد ضخمة من هؤلاء إلى النزوح عن روسيا نتيجة المجازر التي وقعت ضدهم أثر اغتيال القيصر الروسي الكسندر الثاني. وكان من نتائج المجازر انهيار الحركة الاندماجية اليهودية وقيام جمعيات صهيونية محلية مكانها باسم "حب صهيون" (نسبة إلى جبل صهيون في القدس ). وطرحت هذه الجمعيات مسألة استيطان اليهود لفلسطين كاحتمال عملي كما درست إحياء اللغة العبرية لتصبح لغة غالبية اليهود عوضا عن اليديشية التي كانت أقرب إلى الألمانية.

أدت المجازر الروسية من جهة ونشوء جمعيات "حب صهيون" من جهة أخرى إلى قيام بضع مئات من الشباب الصهيوني بحركة "البيلو" التي عملت على تهجير اليهود إلى فلسطين بقصد الاستيطان وتمكنت عام 1882 من إيصال 20 مستعمرا يهوديا إلى فلسطين شكلوا طليعة ما اصطلح على تسميته الهجرة الأولى. وحول هؤلاء قرى عربية نائية عدة إلى مستعمرات صهيونية شكلت في ما بعد المراكز الرئيسية للاستعمار الزراعي الصهيوني في المراحل اللاحقة لكن هؤلاء "الرواد" واجهوا مشاكل شائكة لم تكن في حسبانهم، فقد كانوا يجهلون أساليب الزراعة إضافة إلى عدم تعودهم الطقس وصعوبة المعيشة وغير ذلك من العوامل التي جعلتهم في حالة من اليأس الشديد.

وبقيت الحركة الصهيونية مبعثرة تفتقر إلى التنظيم الشامل والخطة الواضحة والجهاز القادر على تنفيذها إلى أن تمكن يهودي نمساوي اسمه تيودور هرتزل من عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية في 27 آب 1897، في حضور 4 0 2 مندوبين يمثلون جمعيات صهيونية متناثرة في أرجاء مختلفة. وتمخض هذا المؤتمر عن رسم أهداف الحركة الصهيونية، في ما عرف ببرنامج بازل، وإنشاء الإدارة التنيمية لتنفيذ هذا البرنامج: المنظمة الصهيونية العالمية التي حددت أغراضها بالعمل على استعمار فلسطين بواسطة العمال الزراعيين والصناعيين وتغذية الشعور القومي اليهودي وتنظيم اليهودية العالمية والحصول على الموافقة الحكومية الضرورية لتحقيق أهداف الصهيونية.

وعلى رغم تأييد بريطانيا والدولة الغربية الأخرى للصهيونية ولمشاريع هرتزل فقد فشلت جميع محاولاته لحمل السلطان العثماني عبد الحميد على منح اليهود الحق في فلسطين. ولهذا السبب قررت المنظمة الصهيونية غزو فلسطين عن طريق التسلل والهجرة التدريجية. وخلال الفترة 1905-1907 بدأ ما يسمى "الهجرة الثانية" التي كان من أبرز قادتها دافيد بن غوريون. وقد وجدت الحركة الصهيونية في ثورة "تركيا الفتاة" عام 1908 وحركة الاتحاد والترقي فرصة لزيادة الهجرة والاستيلاء على الأراضي والاستيطان نظرا إلى التعاطفط الذي أبداه عدد من القادة العسكريين الذين شاركوافي الحكم الجديد، بعد العام 1908، إلا أنهم اصطدموا بمعارضة عربية قوية.

يقظـة العـرب

شهد القرن التاسع عشر احتكاكا حضاريا مهما بين الغرب والمنطقة العربية وخصوصا في مصر والمشرق أدى إلى تفاعلات بعيدة الأثر. فمع فتوحات نابليون أدخلت وسائل الطباعة الحديثة وتسربت بعض الأفكار الجديدة، ومع بروز محمد علي الكبير جاءت محاولات تحديث مصر في مختلف الحقول الاقتصادية والثقافية مما تطلب إيفاد البعثات الدراسية إلى الغرب والانفتاح على أفكاره وحضارته ولا سيما أفكار الثورة الفرنسية والفكرة القومية الليبرالية. وكانت بداية ظهور الوعي السياسي التيقظ للرابط القومي العربي والمطالبة بالتحرر والاستقلال سابقة لبداية بروز الحركة الصهيونية في طورها التنظيمي. وقد تتبع جورج أنطونيوس فى كتابه القيم "يقظة العرب" إرهاصات الحركة العربية الحديثة منذ عام 1868 في الجمعية السورية العلمية السرية حيث أطلق رواد النهضة الأدبية والعلمية العربية الحديثة صرختهم الشهيرة "تنبهوا واستفيقوا أيها العرب" والتي بفضلها أمكن عام 1875 تأسيس أول حركة قومية سرية.

والواقع أن تقارير قناصل الدول الغربية تلقي المزيد من الضوء على التحرك السياسي القومي في تلك الفترة وتؤكد الطابع الوحدوي العربي والتحرري لهذا التحرك. ولم يكن عرب فلسطين معزولين عن التيارات والاتجاهات السياسية الجديدة في المنطقة. وبحسب شهادة القنصل البريطاني في القدس فإن عرب فلسطين أبدوا تجاربا في يافا والقدس مع ثورة أحمد عرابي ووقوفه ضد الاحتلال البريطاني لمصر. كما أنهم تعاطفوا مع ثورة المهدي في السودان "كعربي يناضل من أجل جنسه (العربي ) ضد السيطرة العثمانية وسوء الحكم العثماني".

ومن المهم أن نلاحظ أنه لم يرافق يقظة الشعور القومي عند العرب في القرن التاسع عشر أي شكل من أشكال العداء لليهود قبل بداية الغزو الصهيوني والهجرة الصهيونية الأولى عام 1882. كان رد الفعل الأولي هو رد الفعل الطبيعي لشعب أخذ يستيقظ، محب لأرضه، متمسك بها وبتاريخه إزاء محاولات الغزو والاغتصاب. ففي الريف بدأ أول اصطدام مسلح بين الفلاحين العرب والغزاة الصهيونيين عام 1886 عندما هاجم الفلاحون المطرودون من الخضيرة وملبس (بتاح تيكفا) قراهم المغتصبة التي أجلوا عنها على رغم إرادتهم. أما في المدن فقد أثارت الهجرة اليهودية الجديدة مخاوف المهنيين والتجار وبادرت هذه القطاعات وغيرها إلى تقديم عرائض احتجاج إلى الصدر الأعظم طالبوا فيها بمنع هجرة اليهود إلى فلسطين وتحريم استملاكهم للأراضي فيها في مطلع العقد الأخير من القرن التاسع عشر. واشتدت الحملات المناوئة للصهيونية في أعقاب المؤتمر الصهيوني الأول انطلاقا من إدراك حقيقة هدف الصهيونية في إقامة دولة يهودية في فلسطين، واتخذت شكلا تنظيميا محدودا وحالت دون حصول اليهود على أراض زراعية جديدة لسنوات وكان لمشاعر الفلسطينيين العرب صدى لدى المفكرين العرب كما كان لهذه المشاعر أثرها في مواقف السلطان عبد الحميد نفسه.

وبقيام ثورة 1908 وإعلان الدستور وإجراء انتخابات الهيئة التشريعية (المبعوثان) دخلت المناطق العربية في الإمبراطورية العثمانية مرحلة جديدة نظرا إلى ما تضمنه الدستور من إطلاق بعض الحريات وحق إصدار الصحف والى الآمال الواسعة التي علقت على المرحلة الجديدة. ولكن سرعان ما اتضح أن دعاة الإصلاح الدستوري الأتراك هم من غلاة العنصريين الأتراك الذين يكنون للعرب الحقد الأمر الذي دفع الشبان العرب في استنبول إلى تبني آراء ثورية والبدء بتأسيس جمعيات سرية ("القحطانية" و"العربية الفتاة") إضافة إلى إقامة النوادي الاجتماعية والأدبية (المنتدى الأدبي ) واتخاذها ستارا لبث روح القومية العربية. وكانت جمعية "العربية الفتاة" أول جمعية تطالب بالاستقلال الكامل لا مجرد الحكم الذاتي للعرب ضمن الإمبراطورية. وأدى نشاط الجمعيات المختلفة إلى تحرك سياسي واسع مما دفع السلطات العثمانية إلى القيام بحملة اعتقالات شملت السياسيين والصحفيين.

1908-1914

أثار توافد يهود "الهجرة الثانية" الذين كانوا يتمتعون بدرجة عالية من التنظيم والتزمت الصهيوني المتمثل في مقاطعة اليد العاملة العربية مقاطعة تامة، استياء الفلاحين العرب ورافقت هذا الاستياء موجة من الغضب على الملاكين الإقطاعيين الغائبين، بعضهم من غير الفلسطينيين وبعضهم من التجار، الذين كانوا يجنون الأرباح من بيع الأراضي للصهيونيين وبحلول 1909 أصبحت معارضة الهجرة الصهيونية موضوع الأحاديث الدائمة للناس وعبرت عن ذلك الصحيفتان الفلسطينيتان الوحيدتان في ذلك الحين "الأصمعي" و"الكرمل "، ثم انتقلت معارضة الصهيونية إلى صحف دمشق وبيروت كما تولى نواب فلسطين في المبعوثان التعبير عن معارضة العرب الفلسطينيين للصهيونية والهجرة اليهودية. ولم يكتف العرب بتسجيل الاحتجاجات وإرسال البرقيات إذ شهد العام 1910 ظهور دعوة إلى مقاطعة البضائع اليهودية ردا على مقاطعة الصهيونيين للبضائع والأيدي العاملة العربية.

وفي العام 1911 قام "الحزب الوطني العثماني " الذي كرس جهوده لمحاربة الخطر الصهيوني على فلسطين. وفي آب 1913 أعلنت صحيفة "فلسطين" في أحد أعدادها أنها ستضطر إلى زيادة عدد صفحاتها حتى تتمكن من استيعاب العدد المتزايد من العرائض والاحتجاجات الواردة ضد الصهيونية وفي الشهر نفسه نشرت صحيفة الكرمل في صفحتها الأولى نبأ قيام تظاهرة كبيرة في نابلس ضد اعتزام الحكومة بيع أراضي بيسان التابعة للدولة لليهود، وما لبثت أن أعلنت الصحيفة قيام "جمعية مكافحة الصهيونية" التي اتخذت من نابلس مقرها الرئيسي لإنشاء فروع لها في بعض المدن الفلسطينية الأخرى.

وفي السابع من تموز 1913 نشرت االكرمل نداء إلى الفلسطينيين تلقته من القدس جاء فيه:

"،. .هل تقبلون أن تصبحوا عبيدا للصهيونيين الذي جاءوا لطردكم من بلادكم مدعين أنها بلادهم ؟.. أيرضيكم ذلك أيها المسلمون والسوريون والعرب. . إننا نؤثر الموت على أن نسمح بأن يحدث ذلك".

وحث النداء الشعب على الضغط على الحكومة لحظر بيع الأراضي الأميرية للأجانب وتشجيع الصناعات الوطنية ومحاربة الهجرة والنهوض بالصناعات والمهن الزراعية وعدم الاعتماد على الحكومة في كل ذلك. وكشف هذا النداء النقاب عن أن الفلسطينيين فقدوا الأمل في أن تتخذ الحكومة أي إجراء ضد العدوان الصهيوني، ومن هنا كان التفكير بالانتفاض على الحكم العثماني. وهكذا ضمنت جمعيتا "العهد" و"الفتاة" الثوريتان العديد من الفلسطينيين الذين باتوا ينظرون إلى الأتراك كحلفاء للصهيونيين في وجه النهضة العربية. وعبرت الانتخابات التي جرت على عام 1914 للمبعوثان عن جو البلاد حيث أعلن جميع المرشحين معارضتهم القوية للصهيونية ولسياسة الحكومة التي تعمل على تسهيل استيلاء الصهيونية على البلاد.

الحـرب العالميـة الأولى

كان من شأن اندلاع الحرب العالمية الأولى صرف الأنظار عن الأحداث المحلية. ومن دون الدخول في تفاصيل تطور الأوضاع العربية أثناء الحرب فإنه يكفينا في هذا المجال أن نقول أن العرب وجدوا في الحرب فرصة للثورة على الأتراك لنيل استقلالهم ووحدتهم عن طريق محالفة الإنكليز ضد دول "المحور" الذي جذب الإمبراطورية العثمانية إلى جانبه. أما الصهيونية فقد نشطت للحصول على فلسطين بموجب إعلان يصدر عن الدول المتحاربة وبما يوافق رغبة بريطانيا وفرنسا في تجزئة المناطق العربية الخاضعة للحكم العثماني. ووجدت هذه الجهود المتضاربة تعبيرا لها في وعود الحلفاء واتفاقاتهم السرية خلال الحرب. ففي مراسلات حسين ومكماهون وعدت بريطانيا العرب بتأليد مطالبهم في الاستقلال والوحدة في الوقت الذي اتفقت -سراً- مع حليفتها فرنسا اتفاق (سايكس – بيكو) على تجزئة الشرق العربي إلى مناطق نفوذ ضمن المنطق الاستعماري المحض كما حصلت الحركة الصهيونية على وعد بتأييد بريطانيا لأمانيها في إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين عرف بوعد بلفور ( 2 تشرين الثاني 1917). ويعتبر وعد بلفور من أغرب الوئائق الدولية في التاريخ إذ منحت بموجبه دولة استعمارية أرضا لا تملكها (فلسطين ) لجماعة لا تستحقها (الصهاينة) على حساب من يملكها ويستحقها (الشعب العربي الفلسطينى) مما أدى إلى اغتصاب وطن وتشريد شعب بكامله على نحو لا سابقة له في التاريخ.

سعت الإدارة العسكرية البريطانية التي حكمت فلسطين طوال تلك الفترة إلى تهدئة عرب فلسطين وذلك بإخفاء الحقائق عنهم والتوفيق ما أمكن بين الزعماء العرب والصهاينة تمهيدا لفصل فلسطين عن سوريا وتمكين السيطرة الاستعمارية عليها.

1917-1920

وحاول الصهاينة أن يتجاوزوا معارضة عرب فلسطين لهم ولمشاريعهم عن طريق اتصالات - بتأييد من بريطانيا - مع العرب خارج فلسطين "حتى يؤثروا في العرب داخل فلسطين ". وإزاء اتضاح اللقاء الكامل بين السياسات البريطانية والأهداف الصهيونية، ونظرا إلى اندماجهم في الحركة العربية، تبنى الفلسطينيون في آيار 1918 "العلم العربي "و"النشيد القومي العربي " (نشيد الثورة العربية) كذلك عمدوا إلى إنشاء الجمعيات والنوادي بما في ذلك أول ناد نسائي عربي، وفي حزيران تم في القدس تشكيل جمعية مسيحية-إسلامية ذات برنامج يهدف إلى مقاومة السيطرة اليهودية وإلى مكافحة النفوذ اليهودي والحيلولة بجميع الوسائل الممكنة دون شراء اليهود للأراضي. وقد فشلت طبقة الوجهاء التي كانت تقود هذه الجمعيات كما فشل أسلوبها في تقديم الاحتجاجات الخطية والشفهية في ممارسة تأثير حاسم على السياسة البريطانية.

إلا أن ردة الفعل العربية للسياسة البريطانية الصهيونية لم تكن متماثلة عند جميع فئات عرب فلسطين. ففي المؤتمر العربي الفلسطيني الذي عقد في مطلع العام 1919 للبحث في أمر عرض المطالب الفلسطينية في شأن تقرير المصير على مؤتمر السلام والإعراب عن معارضة الصهيونية، نشب صراع شديد بين الوجهاء والشيوخ والملاكين الموالين لبريطانيا والميالين إلى انتهاج سياسة مساومة والشباب المثقف المنتسب في غالبيته إلى الطبقة الوسطى الذي تمسك بالمطالبة بفلسطين (سوريا الجنوبية) مستقلة تشكل جزءا من دولة عربية كبرى ذات سيادة. وكان تيار الشباب الوطني هو المعبر عن الضمير الفلسطيني والغالبية الساحقة بحيث أدرك الصهاينة وقادة بريطانيا أنه ليس في الإمكان تطبيق البرنامج الصهيوني بالقوة وفرضه بالإكراه وعندما أوفد مؤتمر السلام الذي عقد في باريس على أثر انتهاء الحرب لجنة لاستفتاء رأي سكان المقاطعات العربية في الإمبراطورية العثمانية، وجدت إجماعا إسلاميا - مسيحيا على معارضة الصهيونية في فلسطين وعموم سوريا على رغبة سكان فلسطين في الحفاظ على الوحدة مع سوريا التي هم جزء منها.

الصهيونية الإجلائيــة

وعلى رغم الدور البارز الذي لعبه الشباب المثقف فإن الفلاحين الفلسطينيين كانوا أشد فئات المجتمع استعدادا للثورة والتضحية بالنفس ومرد ذلك إلى أسباب عدة منها: الأضرار التي لحقت بالفلاحين من المقاطعة الصهيونية لليد العاملة العربية وتعرضهم للتشرد كلما وضع اليهود أيديهم على مزيد من الأراضي علاوة على المعارضة الصهيونية لبرنامج القروض الزراعية للفلاحين رغبة في إفقار الفلاح الفلسطيني تمهيدا لإجلائه عن وطنه. ووجد هذا الشعور تعبيرا له على شكل هيئة نضالية سرية هي جمعية "الفدائية" هدفها الإعداد الشامل للثورة بما فيها ذلك "تسليح الأعضاء بالأسلحة الخفيفة وإعداد قوائم بأسماء اليهود البارزين والعناصر الموالية للصهيونية من غير اليهود مع تسجيل إقامة كل منهم. بث الدعاية بين بدو شرق الأردن ... وبذل الجهد لتركيز الضباط الفلسطينيين في عمان ثم تعليم عدد محدود من العملاء اللغة العبرية حتى يمكنهم متابعة ما يقال أو ينشر في الصحف العبرية، وتعيين عملاء لمراقبة كل ما يدور ويجري، بذل الجهد للاتفاق مع رجال البوليس والدرك على تسليم أسلحتهم أو على الأقل عدم وضع العقبات في الطريق إذا ما نشبت الثورة، تشريب الأطفال مبادئ الوحدة العربية ولا سيما طلاب مدرستي الرشيدية وروضة المعارف ".

وقد ساد الأوساط الوطنية شعور معاد للبريطانيين بحيث أصبح من الواضح في بداية العام 1920م أن انفجارا غدا أمرا وشيك الوقوع وفي شباط جرت تظاهرة عربية سياسية كبيرة أعقبها تظاهرة أخرى لمناسبة تنصيب فيصل ملكا على سوريا وفلسطين. وشن تشكيلان من الفلسطينيين المسلحين هجوما على اثنين من المستوطنات اليهودية قرب الحدود السورية وقتل في هذين الهجومين الكابتن جوزف ترامبلدور وستة يهود آخرين. وعلى رغم الأثر السلبي الذي أحدثه اقتراب العهد الفيصلي في دمشق من الانهيار، فإن حشود الزوار من المسلمين في القدس لمناسبة الاحتفال بموسم النبي موسى في نيسان كانت كافية لإشعال حريق انتفاضة 1920 التي استمرت طوال الفترة الواقعة بين الرابع من نيسان والعاشر منه وأعلنت خلالها الأحكام العرفية. ووصل مجموع الإصابات التي بلغ عنها 251 معظمهم من اليهود، وجرح سبعة جنود بريطانيين على أيدي المتظاهرين العرب بينما بلغت إصابات العرب 28 إصابة بينها 4 قتلى بالرصاص. وصدرت أحكام مختلفة بالسجن ضد 23 شخصا ونحي موسى كاظم الحسيني من منصبه برئاسة بلدية القدس بسبب اشتراكه في التظاهرات ضد سياسة بريطانية الصهيونية.

من انتفاضة إلى انتفاضة

وعلى رغم عنف المعارضة العربية، لم تغير بريطانيا سياستها بل بادرت إلى تعيين هربرت صموئيل اليهودي الصهيوني البريطاني البارز أول مندوب سام بريطاني في فلسطين. وواصل مؤتمر السلام تحيزه الفاضح ضد العرب وضد شعب فلسطين بالذات، فقد حدد واجبات بريطانيا كدولة منتدبة من خلال تكرار نص وعد بلفور في صك الانتداب مع أن ذلك يتناقض وحق الشعب فى تقرير مصيره وسيره نحو الاستقلال بموجب ميثاق عصبة الأم المتحدة وبموجب وعود الحلفاء في هذا الصدد. ولهذه الأسباب اتخذت السلطات البريطانية إجراءات أمن غاية في الشدة واضطر وجهاء فلسطين إلى مقاطعة بعض الاجتماعات التي دعاهم صموئيل إليها. إلا أن صموئيل أخذ ينفذ خطة بريطانية مؤداها إقناع عرب فلسطين من جهة إن إنشاء وطن قومي لليهود هو أمر مفروغ منه ومن جهة أخرى محاولة كسب تأييد الفلسطينيين المعتدلين وأصحاب المصالح من خلال المودة الشخصية و"عدم التحيز" ضمن إطار تصريح بلفور. وكانت حقيقة هذه الخطة هي التنفيذ التدريجي لخطة تهويد فلسطين عن طريق الهجرة والاستيطان وتعليق الحكم الذاتي الذي من شأنه لو تم أن يتيح للعرب عرقلة إقامة الوطن القومي اليهودي. وسارعت الصحف العربية إلى الاحتجاج في شدة على "عزل فلسطين عن أمها سوريا وجعلها وطنا قوميا لليهود، وأشارت إلى "أن إقامة وطن قومي لعناصر غريبة في بلادنا لا يمكن أن يتم من دون المساس بحقوقنا الدينية والمدنية".

ووضع المؤتمر الفلسطيني الثالث الذي انعقد (بعد سقوط الحكم العربي في دمشق ) في كانون الأول 1920 سياسة وطنية عامة التزمت بها المؤتمرات اللاحقة وانطلقت من رفض وعد بلفور وعدم الاعتراف بشرعية الانتداب البريطاني لمخالفته مشيئة سكان البلاد ولتضمنه وعد بلفور وسياسة الوطن القومي اليهودي علاوة على رفض مبدأ الهجرة اليهودية والمطالبة بحكومة تمثيلية وطنية. وعندما زار تشرشل فلسطين عام 1921 بصفته وزيرا للمستعمرات، جابه تظاهرات عربية كانت تنادي بسقوط بلفور ورفض الصهيونية. إلا أن الوزير البريطاني تمسك بالسياسة الصهيونية مما دفع العرب إلى التظاهر على رغم حظر الحكومة للتظاهرات فوقعت صدامات بين المتظاهرين والشرطة أصيب فيها من أصيب الأمر الذي مهد الطريق لاشتعال ثورة (انتفاضة) يافا في أيار 1921 التي سرعان ما امتدت إلى الريف، واضطرت السلطات البريطانية - على رغم محاولات الوجهاء تهدئة الوضع - إلى إرسال مفارز عدة من الجنود والسيارات المدرعة والطائرات والشرطة إلى عدد من الأماكن وإرسال السفن البحرية إلى يافا وحيفا. ومع أن ثورة يافا كانت في الأصل موجهة ضد المهاجرين اليهود والمستعمرات اليهودية فإن دور القوات البريطانية وهجماتها الشرسة على التجمعات العربية المهاجمة للمستعمرات أثبتت التطابق التام بين سياسة بريطانيا والصهيونية. وقدرت لجنة التحقيق البريطانية عدد القتلى في الثورة ب ه 9 قتيلا بينهم 48 عربيا و 47 يهوديا.

وأربكت الصلابة الوطنية لعرب فلسطين تشرشل الذي اعترف أمام مجلس الوزراء بأن البلاد بأكملها في حالة الغليان "ولا تلقى السياسة الصهيونية قبولا لدى أحد غير الصهيونيين أنفسهم وأن كلا الجانبين العربي واليهودي مسلح وماض في التسلح ومستعد للانقضاض على الجانب الآخر".

وأوفدت القيادة السياسية وفدا لزيارة لندن، لكن مجلس الوزراء البريطاني رفض قبول المطالب الفلسطينية التي تقدم بها الوفد. ولم تنتظر الحركة الوطنية عودة الوفد بل مضت في عقد اجتماعات سياسية سرية هدفها مقاومة الهجرة اليهودية بالعنف عن طريق القيام بسلسلة منظمة من الغارات على اليهود في فلسطين. وقد وقعت اصطدامات دموية في القدس في تشرين الأول 1921 ذهب ضحيتها خمسة قتلى من اليهود وثلاثة من العرب وأصيب 36 شخصا بجراح.

حاولت الحكومة البريطانية تهدئة الموقف عن طريق كسب صداقة الحاج أمين الحسيني، الشاب الذي كان يتمتع بسمعة وطنية ويحلم بعطف شعبي، وذلك بالتساهل معه في الانتخابات التي جرت لملء مركزي الإفتاء والمجلس الإسلامي الأعلى، وبإصدار كتاب تشرشل الأبيض للعام 1922 الذي أعلن فيه أن تصريح بلفور لا يهدف إلى إخضاع السكان العرب أو الثقافة العربية وأن على الهجرة اليهودية ألا تتعارض مع الطاقة الاستيعابية الاقتصادية في البلاد، وأن الحكومة البريطانية تعتزم تبني التطور التدريجي نحو الحكم الذاتي الكامل. لكن عرب فلسطين رفضوا كتاب تشرشل الأبيض لأنه ينطلق من وعد بلفور ومن مبدأ حق اليهود في الهجرة إلى فلسطين أي الحق في الغزو التدريجي والسيطرة على فلسطين .

مطلب وطني أساسي

وعند هذه النقطة بدأت تتكشف معالم تغيير مهم في الاستراتيجية الفلسطينية إذ تولد اعتقاد أن الطريقة الوحيدة لمقاومة الانتداب وسياسته الصهيونية إنما هي معارضة الانتداب البريطاني كمجموع والتحرك نحو الاستقلال التام وإقامة دولة موحدة تتألف من سوريا وفلسطين. وكان الاتجاه الأخير متجاوبا مع التضامن المتزايد بين الهيئات الوطنية في كل من سوريا وفلسطين ومصر وتجدد الدعوة إلى الاستقلال والوحدة في سوريا. وقد حثت الهيئات الوطنية الفلسطينية الفلاحين على الامتناع عن دفع الضرائب إلى الحكومة وظهرت تيارات شابة تدعو إلى انتهاج أساليب ثورية وتتبنى "الاستفادة من البدو للقيام بحرب عصابات ". غير أن وجهاء الحركة الوطنية آثروا الوسائل السلمية. وفي آب 1922 عقد المؤتمر الفلسطيني الخامس وتبنى 18 قرارا أهمها رفض الدستور الفلسطيني المقترح ومقاطعة انتخابات المجلس التشريعي الذي نص عليه كتاب تشرشل الأبيض ومقاطعة مشروع روتنبرغ والبضائع اليهودية ومحاربة بيع العقارات لليهود وتعميق الوعي الوطني في الريف.

وتبني المؤتمر "ميثاقا وطنياً فلسطينيأ يشدد على مقاومة الصهيونية والتمسك بالوحدة العربية تنهد المؤتمرون بالتمسك به وأقسموا اليمين الآتية على ذلك :

"نحن ممثلي الشعب العربي الفلسطيني في المؤتمر العربي الفلسطيني الخامس المعقود في نابلس نتعهد أمام الله والتاريخ والشعب بأن نستمر في جهودنا الرامية إلى استقلال بلادنا وتحقيق الوحدة العربية بجميع الوسائل المشروعة وسوف لا نقبل بإقامة وطن قومي يهودي أو هجرة يهودية".

وتمكنت الحركة الوطنية من إحباط مشروع انتخاب المجلس التشريعي كما مارست اللجنة التنفيذية للمؤتمر الخامس ضغطا قويا على المرشحين المعينين من كبار الملاكين والوجهاء للمجلس الاستشاري (وهو بديل المجلس التشريعي) فاضطر هؤلاء إلى الاستقالة قبل موعد الجلسة الأولى. على أن الحركة الوطنية عجزت عن تصعيد الموقف مع الحكومة في المؤتمر الفلسطيني السادس الذي انعقد في حزيران 1923 نظرا إلى التدهور الذي طرأ على القضية العربية ونظرا إلى استفراد فلسطين من قبل البريطانيين والصهاينة علاوة على التركيب الطبقي والفكري للقيادة الفلسطينية العليا. ذلك أنه عندما ناقش المؤتمر مشروع الامتناع عن دفع الضرائب إلى الحكومة، أفاد العديد من الحاضرين -من اصحاب المصالح والمسنين- إنه من المتعذر تنفيذ ذلك من دون إحداث ثورة وأن من العبث أن يؤمل في نجاح ثورة ضد الحكومة البريطانية في بلد صغير وفقير كفلسطين.

وعندما وصل الانتداب الفلسطيني إلى مرحلة التنفيذ الكامل بناء على قرار مجلس عصبة الأمم الصادر في التاسع والعشرين من أيلول 1923، كانت مواقف أطرف الصراع الثلاثة قد تبلورت : فالحكومة البريطانية متمسكة في قوة بتصريح بلفور وسياسة الوطن القومي اليهودي. والحركة الصهيونية كانت مقتنعة بأن بنود الانتداب الصهيوني والسياسات البريطانية وجهود الحركة الصهيونية في الهجرة والاستيطان كفيلة بأن تؤدي إلى تحقيق هدفها فى الوصول بالبلاد إلى أكثرية يهودية وبالتالي السيطرة السياسية عليها. اما في صفوف الأكثرية العربية الفلسطينية فكان ثمة اقتناع بأن بريطانيا والانتداب هما الحاميان الفعليان للصهيونية وأن سياسة الوطن القومي إنما تمثل تلاحم المصالح الإمبريالية البريطانية في المنطقة العربية بالاستعمار الصهيوني فى فلسطين وأن هدف الحركة الصهيونية إجلاء عرب فلسطين عن ديارهم .

الهدنة الكبرى 1923-1929

شهد المسرح السياسي الفلسطيني خلال الفترة الواقعة ما بين 1924و1928 فترة فريدة من الركود والشلل لاسباب عدة أهمها:
أولا: التسوية النهائية لامر الانتداب في عصبة الأمم وتصميم بريطانيا الكامل على عدم الاستجابة لمشاعر الفلسطينيين وضغوطهم من اجل تعديل السياسة البريطانية.

ثانيا: انخفاض الهجرة اليهودية انخفاضا حادا (وكانت هجرة اليهود إلى خارج البلاد أكثر منها إلى الداخل في العام 927 م ) وإصابة الصهيونية مؤقتا بعجز عن التغلب على الصعوبات الناجمة عن ذلك.

ثالثا: ازدياد حدة التشرذم وهيمنة المنافسات والمصالح الشخصية والعائلية (بين آل الحسيني وآل النشاشيبي ) على مواقف الوجهاء والقيادات الفلسطينية طوال هذه الفترة.

ثـورة البـراق

وقبل نهاية العام 1928م كانت هناك علائم تشير إلى أن فترة الركود السياسي أخذت تشرف على نهايتها بتجدد البادرة الصهيونية وبالتالي بتجدد أعمال التحريض العربي الفلسطينى واتخاذ الإجراءات المعاكسة. فقد عمد الزعيم الصهيوني وايزمن إلى توحيد الحركة اليهودية الأميركية (من صهيونيين وغير صهيونيين) وتنشيط الجباية والتبرعات لشراء المزيد من أراضي الدولة وتخصيصها للاستعمار اليهودي والهيئات الزراعية الصهيونية. وإدراك وايزمن أن إثارة المشاعر اليهودية مرتبطة بتحريك الأحداث في فلسطين وطرح المطالبة بملكية اليهود لحائط المبكى، فأخذت الحركة الصهيونية تحاول تغيير الوضع الراهن بالنسبة إلى طقوس اليهود أمام الحائط الذي يشكل الحد الغربي من الحرم الشريف المعتبر من أهم مقدسات المسلمين على الإطلاق.

وعلى الرغم أن العامل الديني لم يلعب دورا رئيسيا في الصراع العربي-الصهيوني فإن استفزازات اليهود عززت الشكوك حول احتمال إعادة بناء الهيكل على أنقاض الحرم الشريف وأثارت ردة فعل عربية قوية. وكان لا بد من هذا التوتر أن يؤدي إلى اصطدامات دموية بين الفريقين في آب 1929 في القدس سرعان ما امتدت إلى المناطق الأخرى من فلسطين وإلى المستعمرات اليهودية نفسها، ودامت زهاء أسبوع. بلغ مجموع القتلى من اليهود 133 نسمة وبلغ عدد الجرحى 329 بينهم 198 إصابة بالغة استوجبت إدخال أصحابها إلى المستشفيات بينما استشهد 116 عربيا وجرح 2032 شخصا. وعرفت هذه الانتفاضة بثورة البراق.

الكّـف الأخضـر

وكان من جراء أحداث 1929 أن اتجهت أنظار الشباب الفلسطيني إلى ضرورة توجيه المقاومة نحو الإنكليز لا نحو الصهاينة وحدهم. فعلى رغم جميع المساعي التي بذلتها الهيئات الوطنية في سبيل الاستعاضة عن أحكام الإعدام بالسجن المؤبد فقد صدر قرار رسمي بإعدام كل من عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي يوم الثلاثاء 17 حزيران وأبدى الشهداء من رباطة الجأش والتفاني في سبيل الوطن ما جعلهم مخلدين في قلوب أبناء الشعب وما دفع الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان إلى تخليدهم في قصيدة "الثلاثاء الحمراء". وشكا العرب من قسوة الشرطة التي وصلت إلى حدود لم يسمع بمثلها في بلد متمدن علاوة على الغرامات الجماعية على المدن والقرى التي أدينت بالهجوم المنظم على اليهود، والإجراءات القمعية في حق الصحف العربية.

ولم تقتصر ردة الفعل العربية على مقاطعة اليهود ردا على مقاطعتهم للعرب بل أخذ الشعور المرير بالعداء لبريطانيا كحامية للصهيونيين ينتشر في الريف وامتد هذا الشعور إلى الأقطار المجاورة ونشط تهريب الأسلحة إلى فلسطين وتعزز احتمال انضمام متطوعين عرب من سوريا والأردن ولبنان إلى أية ثورة قد تنشب في فلسطين. وفي أواخر العام نفسه جرى جمع التبرعات ووقع الاختيار على 400 عربي كنواة لقوة ثورية مسلحة بقصد مهاجمة اليهود والبريطانيين. وعلى الأثر قامت عصابة "الكف الأخضر"، المؤلفة في الأساس من عشرات الأشخاص الذين اشتركوا في ثورة البراق بقيادة أحمد طافش وعززت بعدد من ثوار جبل العرب في سوريا الذين حاربوا الفرنسيين في الثورة الشهيرة عام 1925، لتعمل على طريقة حرب العصابات في المناطق القريبة من الحدود السورية ولتشن هجمات على اليهود والشرطة والجيش البريطانيين في وقت واحد.. وقد أشادت التقارير البريطانية بكفاية الثوار وأشارت إلى تعاطف الكثير من القرويين معهم. إلا أن عدم تجاوب القيادة السياسية مع فكرة المقاومة المسلحة حصر نطاق عمليات الثوار في منطقة معينة سهل على الجيش البريطاني بمعاونة السلطات الفرنسية في سوريا محاصرتها وتطويقها والقضاء عليها في غضون شهور.

محـاولة عربية في لندن

وعلى رغم حالة الفلاحين المتردية نتيجة الضرائب المرتفعة التي من شأنها أن تجبر الفلاح العربي على بيع أرضه، وعلى رغم التهديد المتواصل الذي كان يتعرض له العمال العرب في المدن، أقدمت اللجنة التنفيذية على انتخاب وفد عربي مكون من الزعماء الرئيسيين في البلاد للتفاوض مع الحكومة البريطانية، وعندما وصل الوفد إلى لندن استقبله رئيس الوزراء واللورد باسفيلد وزير المستعمرات. وطلب الوفد حظر بيع الأراضي لعناصر غير عربية ووقف الهجرة اليهودية وإقامة حكومة برلمانية وطنية. وكانت النتيجة أن أصدر اللورد باسفيلد الكتاب الأبيض للعام 1930 وفيه وعدت الحكومة البريطانية بتخفيف الهجرة اليهودية وإقامة مجلس تشريعي وفق كتاب تشرشل الأبيض. وعارض اليهود في شدة كتاب باسفيلد ولم تهدأ حدة هياج الصهيونيين إلا بعدما بعث رمزي مكدونالد برسالة "سوداء" إلى وايزمن تبنى فيها جميع المطالب الصهيونية وذلك في مطالع العام 1931. وكانت هذه الرسالة بمثابة ضربة عنيفة لدعاة مهادنة الإنكليز وأدت إلى انتهاج استراتيجية جديدة تقوم على أساس تحالف وتعاون أوثق مع العالمين العربي والإسلامي بغية تحقيق "الاستقلال الفلسطيني ضس إطار الوحدة العربية".

المؤتمر الإسـلامي العام

وفي شهر كانون الأول 1931 عقد في القدس المؤتمر الإسلامي العام الذي يعتبر من أضخم التظاهرات العالمية لمصلحة القضية الفلسطينية إذ حضر أبرز زعماء المسلمين السياسيين وكبار رجال الدين الإسلامي في العالم. إلا أن المؤتمر فشل في أن يترجم تضامنه مع عرب فلسطين واهتمامه بالمقدسات الإسلامية إلى خطوات عملية ملموسة وذلك بسبب نفوذ بريطانيا لدى أغنياء المسلمين في أقطار اسيا على وجه التحديد. وكان المؤتمر الإسلامي يضم عددا كبيرا من الأعضاء البارزين السابقين في جمعيتي العربية الفتاة والعهد وأقطاب العهد الاستقلالي في سوريا 1918 - 1920 المعروفين بالاستقلاليين، ممن يحملون وجهة نظر قومية عربية. وقد انتهزوا فرصة انعقاد المؤتمر للبحث في شؤون الوطن العربي ووضع خطة للعمل المنسق وأعلنوا الميثاق القومي العربي الذي أكد وحدة العرب ورفض الاعتراف بالتجزئة وضرورة توحيد الجهاد للنضال من أجل الاستقلال والوحدة ومحاربة الاستعمار بجميع أشكاله. وانبثقت من هذا الاجتماع لجنة تنفيذية معظم أعضائها من الفلسطينيين مهمتها نشر الميثاق القومي والإعداد لمؤتمر عام يضم مندوبين من جميع الأقطار العربية. وكان من جراء ذلك بروز أحزاب وطنية عدة في أقطار مختلفة باسم حزب الاستقلال من بينها فلسطين.

ساهم حزب الاستقلال في فلسطين في تحريك الرأي العام ضد الحكومة البريطانية في مطلع الثلاثينات. وكان تدفق سيل الهجرة الصهيونية في تلك الفترة موضع استنكار العرب الشديد مما دفع الأحداث في اتجاه صدام أكيد مع السلطات البريطانية، ونظم العرب سلسلة من التظاهرات العنيفة عام 1933 كانت أهمها تظاهرة يافا في تشرين الأول التي قتل خلالها واحد من أفراد الشرطة وجرح 25 فردا بينما استشهد 12 متظاهرا وجرح 78 وقبض على عشرات من المناضلين الشباب. وعند انتشار أخبار مجزرة يافا التهبت مشاعر الرأي العام الفلسطيني وأعلن الإضراب العام في البلاد ووقعت اصطدامات فى حيفا ونابلس مساء اليوم نفسه وأقيمت المتاريس في شوارع حيفا وهوجمت محطة سكة الحديد فأطلقت الشرطة النار على الجماهير وأصابت العشرات بجروح وفرضت السلطات منع التجول وأقفلت الميناء ثلاثة أيام.

وفي التاسع والعشرين من تشرين الأول وقعت اصطدامات جديدة قذف خلالها المتظاهرون العرب القنابل اليدوية على الشرطة التي فتحت النار على هؤلاء وأوقعت فيهم إصابات فادحة فأعلن الإضراب العام الذي استمر زهاء أسبوعين ولم يفك إلا بناءا على دعوة اللجنة التنفيذية. وكانت انتفاضة يافا دليلا قويا على عمق المشاعر العربية المناوئة للبريطانيين وعلى تصميمهم على استخدام العنف لمنع تنفيذ صك الانتداب. وفي هذا الجو اتخذ العرب بعض الخطوات للدفاع والتنظيم الذاتيين مدفوعين إلى ذلك بمحاولات "الهستدروت" (اتحاد العمال اليهودي ) لمنع أصحاب العمل اليهود من تشغيل الأيدي العاملة العربية بإرهاب أصحاب الأعمال والعمال العرب على حد سواء.

وهكذا تألفت في كل من القدس ويافا وحيفا حاميات عمالية عربية وظهرت لجان عمالية في مختلف المدن الفلسطينية وأثبتت وجودها في ذكرى وعد بلفور عام 1934 عندما نفذت إضراب المواصلات على صعيد البلاد كلها. كما قاوم الفلاحون العرب في الريف تنفيذ أوامر إخلاء الأراضي التي استولى عليها اليهود نتيجة صفقات شراء الأراضي من الملاكين الغائبين أما بواسطة أطراف ثالثة وبسب الضرائب والربا الفاحشة التي واجهها الفلاح العربي من دون معين. وفي كانون الثاني 1935 تصدى الفلاحون في أراضي وادي الحوادث المبيعة لليهود ونشبت معركة بين 43 شرطيا بريطانيا وفلسطينيا انتهت بقتل أحد العرب وإصابة سبعة من أفراد الشرطة البريطانية وخمسة من الشرطة الفلسطينية بجروح نتيجة قذفهم بالحجارة).

ثـورة القسّـام

وفي هذه الفترة أيضا تصاعد نشاط الشيخ عز الدين القسام السوري المولد الذي قدم إلى يافا عام 1921 بعد انهيار الثورات السورية ضد الاحتلال الفرنسي وهو كان فيها قائدا بارزا. وأتيح للشيخ القسام أن يتجول في قرى فلسطين بصفة كونه موظفا رسميا في المحكمة الشرعية، وفي مطلع الثلاثينات أخذ ينظم الخلايا ويجمع التبرعات لشراء كميات صغيرة من الأسلحة والتحضير للثورة في جو من السرية التامة. وكان معقل القسام هو الحي القديم من حيفا حيث يقطن الفقراء والفلاحون الذين نزحوا من قراهم الى المدينة واضطروا إلى أن يعيشوا في بؤس بسبب الهجرة اليهودية.

وفي العام 1935 بات خمس القروين العرب من دون أراضي ومالت البطالة بين العمال العرب الى الازدياد، وبلغ عدد ال...

السيد حسن الأمين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى