الأربعاء ١٧ آب (أغسطس) ٢٠١١
جميلة ممدوح صيدم
بقلم خالد كساب محاميد

على عتبة الغياب في عاقر المهجرة

يختارني القدر أو الصخب العابث الماجن في تاريخ 22-07-2011 لأقوم بترتيب زيارة الأم جميلة ممدوح صيدم الى بلدتها عاقر المهجرة ، أسبوعا واحدا قبل رحيلها المفاجئ لتظللنا تحت مظلة "في حضرة الغياب" الفلسطيني المقتَبَس.

في ساعة متأخرة من مساء اليوم السابق لذاك التاريخ اتصل بي أخي صبري صيدم، ابن الأيقونة، معلنا بأنه حصل في اللحظة الأخيرة على التصريح المنشود من الجنرال المدجج بالرعب من زهر اللوز والليمون وأضاف بأنه أقنع صديقه الدكتور هيثم خالد الحسن لمرافقتنا، وكلاهما أعضاء في المجلس الثوري لحركة فتح, وكانت زوجتي ازدهار قد طلبت مني مرافقتنا وأنا بدوري طلبت من الصديق الأبدي لي وللقرى المهجرة عمر اغبارية ان يصطحبنا وأن يطلب من أحد مهجري عاقر أولئك الذين تشبثوا في الوطن وقت النكبة أن يرافقنا فكان ان اصطحب السيدة مريم وحواح زيناتي.

لم يكن لي مفر إلا من اللجوء لشاعرنا محمود درويش لحَدْسي بأنه وحده يستطيع أن يصف مشاعرنا في هذه الزيارة كما فعل في قصائده الكثيرة التي وصف فيها حلم عودته المجازي الى البروة , قريته كقرانا المهجرة, وتذكرت منها "ضباب كثيف على الجسر" "لا كما يفعل السائح الأجنبي" و "كوشم يد في معلقة الشاعر الجاهلي" و"جدارية" وقصيدة "طللية البروة".

حين وصلت السيارة التي أقلت الأم جميلة ممدوح قادمة غربا من القدس للشارع الحديث المكتظ بالمركبات وجهتهم بجوّالي الى المقبرة في القرية، أثر وحيدٌ من الآثار القليلة المتبقية. وحينها، عرفت، بأننا، عند اللقاء، لن نتمكن من إعطاء الصمت معنًى، لا سرمديا ولا آنيا ولا حتى ملحميَّ التأويل. تملَكَنا جنون المبعدين عن بيت لهم حين يرشفون وهج جمرةٍ للتأكد من صحة مذاقهم. فصمتنا، لرهابة الموقف، عندما تعرفنا لبعضنا البعض.

عمّا سندير الحديث؟ أعن النظم السياسية العالمية؟ أو عن خططٍ في الهيكليات الاستراتيجية لنا منها ان تقودنا لرسم طريقٍ لعودة اللاجئين؟

أهو المستشار الذي تربع على عروش العلوم بشهادة الدكتوراة في العلوم الهندسية ويسيطر على عاطفته كما يسيطر صديقه الجراح المهجر من ذات حيفا على مقص الجراحة حين يدخل الى تفاصيل الشرايين في قلوب مرضاه في مستشفى المقاصد المقدسي؟ أم أنا المتنقل بين مقاعد الدراسة في الجامعات وتقديم المحاضرات وأنا المهجَّر بذات المصير؟

لم نتمكن من السيطرة على خيالنا أو على كلامنا أو عاطفتنا ولا على عقلنا وحكمتنا. فتركنا الألم المحلى بالمأساة الملحمية للتوغل الى حروف حديثنا الموزون بالتراتيل الإلهية.

لم تكن عاقر الموشومة في ثنايا الذاكرة كريمةً معنا إلا بأسماء القناصة. مُحِيَت عن مرتفعات المكان الذي تبوءه مجمع تجاري يعرض الآيسكريم للعابرين وتُخبئ خلفه مقبرة وحيدة وبيوتا حديثة تلجم صراخ القاتلين من التوسم بأخلاقيات ما اوتي لهم من آيات بينات وحكمة إبراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب ويتشبثون بآل فرعون والنازيين وهامان وعاماليق وما زودوهم به من براعم ونار الجحيم ينفثوه في وجوهنا وحدنا نحن الفلسطينيين من دون مستعبديهم.

عاقر ازدانت بابنها الذي جاء باحثا عن بيت ابيه. قال لي : " هذا صديقي هيثم، ابن خالد الحسن,تعرف الإسم... أتذكر عندما التقينا في الأسبوع الماضي في مركز الكرمل و"مساواة" وقد زرنا دونك بيت أبيه في حيفا على منحدرات الجبل الباشق اياه. وأنت خبَّرتنا عن حفلة وداع ابنك جودت الذي جمعت اخوتك اليها في بيت جدك المدمر في اللَّجُّون المهجرة ؟

وأنا ؟ يسأل صبري. أين بيت أبي ؟ أين بيت جدي؟ لأرسم إسمي واسم أبي وأسم أمي وأبنائي عليه؟"

"غلغامش الفلسطيني" أقول أو "سيزيف كنعان" ذاته أوديسا بزيها الفلسطيني وملحمة الخلود هي صرخة صبري الباحث عن بيت أبيه. أو كما يحلو للمجاز والحكم ترتيبها بيوت ستة من اللاجئين الفلسطينيين.

عندها أعيد قول فتى البروة محمود درويش في "ضباب كثيف على الجسر" للدكتور هيثم واصفا اسطورة سيزيف في صبري صيدم وآخر مآسي الإنسانية:

"سأحمل بيتي علي كتفيَّ...
وأَمشي كما تفعل السلحفاة البطيئةْ
سأصطاد نسرا بمكنسة،
ثم أسأل: أَين الخطيئة؟ "

وأستعيد قوله في "لا كما يفعل السائح الأجنبي" وفي "طللية البروة" واصفا القرية التي محيت:

"مشيت على ما تبقى من القلب...
قُرىً كنقاطٍ على أحرف مُحِيَت"
 
" يقول السائح انتهت الزيارة ،
لم أجد شيًا أصوره سوى شبح".

ولكني كنت حذرا في اخراج مسرحيتي مع ضيوفي فاتخذت من تجربتي مع محمود درويش عبرة كي نسيطر على مكنونات هويتنا دون ان نخضع للصدمة المخضبة بالآلام والجراح والشتات والتهجير عند عبورنا على المكان الذي يحمل ذكرى اللاجئين في ثنايا أشجار الجميز الشاحبات.

ففي توق محمود درويش لوصفه زيارته المجازية الى البروة في قصيدة " "منفى 3 ، كوشم يد في معلقة الشاعر الجاهلي" التي نشرت سنة 2005 يبحث عن اسمه على احد حجارة البروة فيقول

" في حضرة الموت لا نتشبث
إلّا بصحة أسمائنا...
عبثُ ماجنٌ. لم نجد حجرا واحدًا
يحمل اسم الضحية، لا اسمي ولا
اسمك
- من مات منا، سألت ، أنا أم
أنا؟ "

وكان الأسى ينقط مشاعره ألما في حروف هذه القصيدة وكأن الهوس يسيطر عليه.

وأتفق وعن سبق إصرار أن سافرت في تاريخ 13-03-2008 يوم عيد ميلاد محمود درويش بمعية الشاعر راضي عبد الجواد الى البروة المهجرة ورسمنا على جدار المدرسة الابتدائية التي تلقى محمود درويش تعليمه فيها لغاية سنة النكبة أشعاره وصوره وأغلفة دواوينه الشعرية وعناوينها وصور اصدقاءه. واعقبناها بزيارات أخرى مع الشاعر احمد فوزي ابو بكر والشاعر الرسام عادل خليفة.

ففاجئنا شاعرنا بكتابة قصيدة "على محطة قطار سقط عن الخريطة" نشرها في الذكرى الستين للنكبة الذي توافق في 15-05-2008 والتي قال فيها

"أرى أثري على حجرٍ
فأحسب أنه قمري، وأنشد واقفًا...
"أري مكاني كُلَّهُ حولي.
أراني في المكان بكل أعضائي وأسمائي"

والتي توجها باعلانه لغبطته لرؤية اسمه على حجر في قريته المهجرة فقال

"أرى شجر النخيل ينقّح الفصحى من الأخطاء في لغتي.
أرى عادات زهر اللوز في تدريب
أغنيتي على فرح فجائيٍّ .
ارى أثري وأتبعه. أري ظلي وأرفعه من الوادي
بملقط شعر كنعانية ثكلى. أري ما لا يُري من جاذبيةِ
ما يسيل من الجمال الكامل المتكامل الكُليِّ في أبد التلال،
ولا اري قنّاصتي."

ولهذا فكرت في أن رسم صورة محمود درويش على حجر في البروة قد حول منظومة أحاسيسه وافكاره ليتداول الأمر في عافية الفلسطيني الجيدة ولهذا جهزت مسبقا ان ارسم صور الشهيد ممدوح صيدم أبي صبري وياسر عرفات وخالد الحسن على الحجارة في عاقر لكي اتمكن من جعلهم يرون انتماءهم للمكان بادواتي الإبداعية الفنية والسايكولوجية .

وفكرت أيضا بأن الرسوم على حجر من بيت محمود درويش قد جعل شاعر فلسطين الذي نظم لها الأغاني طيلة 50 عاما يبحث مصدوما عن أغنيته في "طللية البروة" حين قال

"هنا وقعت سماء ما على حجر لتبزغ
في الربيع شقائق النعمان، (أين الآن أغنيتي؟).
هنا كسر الغزال زجاج نافذتي
لأتبعه الى الوادي (فأين الآن أغنيتي؟)
هنا حملت فراشات الصباح الساحرات
طريق مدرستي (فأين الآن أغنيتي؟)
هنا هيأت للطيران نحو كواكبي فرسا. (فأين الآن أغنيتي؟)"

فقمت بالبحث عن حجارة قبل وصول الأم جميلة صيدم ومرافقيها الى عاقر ورسمت للتو عليها صور الشهداء ممدوح صبري صيدم وأبي عمار وخالد الحسن وأضفت إليهما صور من يتشبث بحلم العودة صورة جميلة صيدم وابنها صبري وصورة ابي مازن ابن صفد...الرئيس.

هكذا وجد الضيوف أنفسهم يرتلون مع محمود درويش "أغنية الشاعر في المدينة "

" (ضيفٌ على نفسي أحل)
هناك موتى يوقدون النار حول قبورهم.
وهناك احياءٌ يُعِدّون العشاء لضيفهم.
وهناك ما يكفي من الكلمات كي يعلو المجاز على الوقائع.
كلما اغتمَّ المكانُ أضاءه قمر نُحاسيٌّ وَوَسَّعَهُ. انا ضيف على نفسي.
ستحرجني ضيافتها وتبهجني فأشرق بالكلام
وتشرق الكلمات بالدمع العصيّ.
ويشرب الموتى مع الأحياء نعناع الخلود،
ولا يطيلون الحديث عن القيامة"

هكذا صقل الأثر الذي رسمناه على حجر في مقبرة عاقر وعينَا ووجَّه تصرفنا فانتمينا للمكان رغم انكسار الزمان منذ طار اللحن عن شال القصيدة وانكسر الكمان. وتحررنا من طغمة الأحزان وتصرفنا كما وصفنا محمود درويشن مرة أخرى, في طللية البروة، حين قال :

" أمشي خفيفا كالطيور على أديم الأرض،
كي لا أوقظ الموتى. وأقفل باب
عاطفتي كي أصبح آخَري، إذ لا أحس
بأنني حجرٌ يأن من الحنين الى السحابة."

في تلك اللحظة الإلهية وجدنا علامات الفرح تعلو سحنة أم صبري وكأنها قائلة "أرى عادات زهر اللوز في تدريب أغنيتي على فرح فجائي" . فلو بالمجاز عدنا الى عاقر. وهي الآن "كوشم يد في معلقة الشاعر الجاهلي" لا تندثر وتحيي اصرارنا لأمل الأياب. لكن رهبة المكان المهجور طغت على مشاريعنا الأبدية ورغباتنا الآنية اليومية.

فرغبة صبري ومأساته هي أن يجد بيت جده المهجر في قريته لتشكل هذه ملحمة الخلود وملحمة ستة ملايين من اللاجئين.

فما المكان وما الذاكرة وما رغبة الإنام؟

فيطغى الخشوع لمخططات العسكري الذي في حروفنا حين يقتادنا الصديق عمر اغبارية من المقبرة الى بيت فلسطيني لم يمحه قناصة الزئبق من فردوس الخلود.

يقول صبري : ليمونة قوية هي علامة بيت جدي وبئرعميقة في ساحة أنيقة والسجع أنّق الكلام.

في هذه اللحظة المشحونة بذروة التراجيديا الفلسطينية أصوب عدسة كاميرتي ، كسائح أجنبي، نحو صبري وأمه جميلة، فهم في تفاعل على عتبة الولوج الى رهبة الآلام وفوهة الوقت وحجارة تنتظر انتصار الزهر على صخرة البركان.

تداعت الكلمات في وصف الدرج القديم والليمونة التي حرست فتات الاغنيات والجميزة القوية، تلك التي رأيناها بعين الحسد لمراقبتها الأبدية في علوها لبحر يافا وأزقتها.

"هل لنا ان نتقدم الى الباب لنسأل ساكنيه فيما إذا تظهر لهم في احلامهم صور جدي قابضا على مفتاح السماء ومشكاة الزيت في ليل مقمر بعد الحصاد" يتسائل صبري بوهج مشاعر اللاجئ المتيقن من جُدّريّة احساسه والذي لا يصدق غير حَدْسه في وزن المكان وغربلة الزمن.

فأقول " لا بد لنا من العودة الى "من عرف لغة قوم آمن شرهم" لتكون طريقنا لهزيمة وعي هذا المهاجر الجديد من بلاد الثلج.
فيقول "لا بد لي من انتصار آت في حديث المقال عن المقام"

أقول فلنتحسس اعضاءنا إذا ولنبْنِ على صحة بصيرتنا فهم يخافون حتى من نبرة الحروف في كلامنا فكيف لهم من الكلام الموزون و"المعلقات الغنية بالخيول وبالرحيل".

فيقول كما في المرة السابقة عندما قطف حبة ليمون:

"باسم الشعب الفلسطيني والأمة العربية
أقطف من هذه الشجرة في عاقر برتقالة
ربما تكون لجدي
وتظلل الآن قناصتي
في وظيفتها الحزينة على هذه الأرض".

والنص يغويني الى حدْس غسان كنفاني "أرض البرتقال الحزين"

ورأيت بصبري يجمع من المكان ما يصلح لتدجين الذكرى في عمل فني يصطحبه الى منفاه فالتقط حبة ليمون هنا وحبات زيتون هناك وخشبة وأوراق أشجار والبرتقالة إياها من عاقر وأرضها.

رافقتنا السيدة مريم الزيناتي ابنة اللد والجيل الثاني للنكبة الى بيت ابيها في عاقر وقالت " هذا الجزء من البيت بناه والدي بيديه ولكن هذا الجزء أضافته بعد تشريدنا عائلة "ليفي" التي تتجنبنا وتتصل بالشرطة كلما أتينا لزيارة المكان.

حينها أرى صبري وفي عينيه، مرة أخرى، سؤاله ملحمي المبنى : أين بيت أبي أين بيت أبي. والأرق يزخرف سحنة وجهه التي تزينت بحبات عرق المتصارعين في المعارك.

وهنا تُثار أم صبري وتؤجج مخيلتها في لقاء والدة مريم المرتقب على أنها تحمل الذاكرة من الحياة التي داعبت الأفراح والأتراح قبل التهجيرة الأولى فتدعونا مريم الى بيتها في اللد في حي يطغى فيه عدد اليهود على العرب وتعلن بأن أمها في انتظارنا فنتوجه عارفين بأن ما تتوق اليه ام صبري ويعشش في خيالها ستجده كعصفورة تعود الى عشها بعد رحلة الشتاء والشقاء والصيف والقهر والخريف والرحيل والربيع والرجوع.

فيكون اللقاء. فتأتي أم مريم على كرسي يدفعها ابنها فإذا بنا واجمين ننتظر انطلاق الكلام مِنَ الذي جمرٌ في قلبه فتنطلق ام صبري نحو ام مريم مقبلة اياها, فيلتقط صبري كاميرته وأنا بدوري اقلده لنوثق انفجار المشاعر والكلام المؤجج بالحنين والملوَّع بالشتات والمهذب بالأمل الذي لا ينضب.

سلامٌ، سلامٌ، سلامُ الأحبة وذكرى الوئام...هل تتذكرين صبري صيدم, هو جدي على اسمي أنا يعلن الوزير السابق. نعم صبري ابو ممدوح أذكره وأذكر زوجته . وهل كانت نساء عاقر جميلات يتزيَّن بملقط شعرٍ كنعانيٍّ وفيهن من الحنية ما يقوي العاطفة وعزم الرجال؟ تسأل أم صبري. فيسود الابتسام . فمعنى الوطن هو الجماليات في سير الحياة وزهر السهل ونحل الدروب ولغة الكلام وذكريات الأسماء والأغاني والصلوات في فجر الفصول. وعندها لم تشرق الكلمات إلا بفرحة كتلك التي تستحوذ على هرج الأطفال في الأعياد وحياء الصبايا الناضجات.

ويافا تنادينا على بعد هديل اليمام وغناء ناي ورمية الحصى. فننتشي من علامات الرضى الفجائي الذي طغى على حديث أم الأمهات جميلة صيدم. حينها لم يتسعنا الا ظل النخيل في جادات فلسطين من هذه الغبطة الإلهية التي رأينا بها ابتسامة ياسر عرفات وممدوح صيدم وخالد الحسن وستة ملايين من اللاجئين على هذه العودة المجازية.

في يافا لم نتوان عن ذكر مهارات الصيادين على انواعها وعن اصناف القوارب التي أشغلت ربابنتها. وعندما جعلنا من جامع حسن بيك حارسا لظهرنا والبحر من أمامنا مصغيا لحديثنا باتقان عازف الناي استسلمنا لعاقر التهجير فلم نتمكن من البوح عن ما في جعبتنا من مشاعر وأفكار الا بعد هنيهة من الوقت الذي شعرناه أزليا حيث استرجعنا عافيتنا.

كنا قبل وصولنا الى الشاطي تناولنا غداءنا في مطعم "العجوز والبحر" بطاقمه وزخرفته العربي النبرة والبلاغة.

فتحدثنا فيما تداولناه أمور الثقافة التي تسود العرب الفلسطينيين الذين تشبثوا في أرضهم ويسمون عرب ال 48 على أني أقول بأننا عرب كنعانيون أو عرب قبل 5000 سنة. فقلت ما يتيحه الإسرائيلي لنا هو فقط العمل في ورشات البناء, فأبناؤنا يخرجون في الصباح بعد صلاة الفجر ويعودون بعد صلاة المغرب وينامون في بلدات هي أشبه بالفنادق الردئية ويجوز أن نسمي ثقافتهم "ثقافة الطوبرجي" . وعلى شاطئ يافا رأينا بأن ما تقوم به إسرائيل من فرض "ثقافة الطوبرجي" على الفلسطينيين لا ينجح في خدش انتمائنا لشخصيتنا الوطينية الفلسطينية حين تداعب بعض الفلسطينيون الشباب من ام الفحم والناصرة, جاورونا على الشاطئ، وحيث لم يتقنوا الإنكليزية بالحديث مع عمال أجانب تظهر سحناتهم على انهم من شرق اسيا والذي قال احدهم "أنا أحب إسرائيل" فساد الوجوم والقلق الحذر برهة على سحناتنا كلنا الفلسطينيين ولم يمهلنا "الطوبرجي" كثيرا من الوقت حين قال "أنا باليستاين" وقصد "أنا فلسطيني" فتدارك الاسيوي الأمر وقال أنا أحب فلسطين!

تجلس أم صبري المشعة من الفرحة برؤية بلدتها وصورة زوجها على حجر في عاقر فتتخذ مع ازدهار, زوجتي مقعدا يطل على شاطئ يافا يفصلهما ممرٌ للمشاة وتبدأ الفلسطينيات بالحديث الشيق كما انعكس من الابتسامات لطيلة ما بعد الظهيرة لحتى الساعة الثامنة مساء. كان مشروعُ كتاب لمذكرات ام صبري يحوم في الجو أو قل مشروع فيلم وثائقي.
فنطلب من أم صبري أن تزورنا الى الناصرة لأسبوع أو اسبوعين لتأخذ لها قسطا من الراحة نزور فيها بيت هيثم خالد الحسن في حيفا وباقي فلسطين الجميلة . ونتفق أن نتناول الإفطار في رمضان المقبل في رام الله وأقول سأقوم بجمع الزيتون من الزيتونات الثلاث اللاتي رأيناها في عاقر وأعصرها وأحضرها لك في غزة ولصبري في رام الله.

وعرفت بأن أم صبري قد وجدت لها إذنا صاغية على شاطئ يافا. فماذا ستُملي الذاكرة على امرأتين نشأتا على منحدرات الجبل البركاني الثائر على جهتيه بين الحدود والجنود.

عرفت ؛ هنا وجدت جميلة ممدوح صيدم الوطن الجريح على جناح سنونوة لترويه منذ انكسار العرس عن شال القبيلة وسكبت ما في جعبتها من قصص وأحاديث وذكريات ومشاعر لتحملها رياح يافا وتسمعها نوارس الميناء فأقول "في الزنبق امتلأ الهواء، كأن موسيقى ستصدح". وكنا في الرمق الأخير من هذه الرحلة ولم أر سوى الفرح كأنه يُرقِّص الخيل والنخيل من بسماتها وتقاسيم وجهها.

في الذكرى الأربعين لاستشهاد والدي عدنا الى عاقر وزرنا يافا وأنا أعِّدُ لنتمكن من اجراء عملية لقلب أمي ، وقد استقصيت لدي الكثير من المستشفيات في كافة قارات الأرض. يقول صبري.

قلب أمٍ حمل الهمَّ الفلسطيني طيلة 60 عاما لم يتحمل كثافة الألم وصخب الفرح الفجائي بعد رؤية الشاهد على انتماء الأرض لقلبنا نحن الفلسطينيين وحلمنا حتى انتصار الشهيد.
ترك جسدها هذه الحياة وتركت لنا ما نستحق ان نعيش لأجله في استكمال "الرحلة والعودة والمعنى" فنعرف انها رأت بيتا في عاقر ونخلة ورمانة واكتمل النصاب في سيرها في رحلة اللجوء والعودة المجازية لتترك لنا تحقيق حلم العودة.
في تاريخ 31-07-2011 اشتركت في جنازة أيقونة فلسطينية ،أم الأمهات، جميلة ممدوح وأم صبري في رام الله وبعدها مباشرة سافرت الى عاقر المهجرة وأقمت نصبا تذكاريا توجته بأغصان الزيتون والرمان والليمون جمعتها من البيت الذي أراد أخي صبرى أن يكون لجده في عاقر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى