في رائعته: «سقياً لدار في عنبتا»
حلت في السابع عشر من تموز الماضي ذكرى الشاعر الفارس عبد الرحيم محمود، الذي استشهد وسال دمه الغالي على التراب المقدس دفاعاً عن فلسطين، ارضاً وشعباً وتاريخاً وتراثاً.
لم يكن عبد الرحيم محمود انساناً عادياً، ولم يعش حياة عادية، بل انخرط في معارك النضال والكفاح والتحرر، وكان انساناً مناضلاً، ومفكراً، ومثقفاً، وشاعراً ثورياً مقاتلاً، اعطى في حياته وموته نموذجاً ومثلاً صادقاً للعلاقة العضوية التي لا تنفصم بين الفكر والممارسة عندما قال:
ساحمل روحي على راحتي | والقي بها في مهاوي الردى |
فاما حياة تسر الصديق | واما ممات يغيظ العدا |
وصدق الاديب الراحل نواف عبد حسن حين كتب يقول في مقدمة كتاب «عبد الرحيم محمود بين الوفاء والذكرى» الصادر عن مركز الحياء التراث في الطيبة عام 1990: «كانت حياته شهادة، وموته كتابا ورقية، ويظل عبد الرحيم محمود بوصلة تهدي القلب التائه الى شغاف الحب. لم يكن لذلك الفلسطيني العنيد القبول بالموت كالآخرين فأندفع نحو خلاصه الخاص لكأنك تلمحه متألقاً على جباه اطفال فلسطين، يحدوهم ان يغدقوا العطاء لكي يتسرب شعاع الحياة لنسل توحدت على يديه الجراح الشاخبة شعراً وسلوكاً».
وخلال العقود الاخيرة اقيمت العديد من النشاطات والفعاليات، التي تخلد وتستحضر ذكرى هذا الشاعر الشهيد البطل. وتحققت انجازات كثيرة، حفظاً للذاكرة وتحقيقاً للذات، التي تخص هذا الشاعر، منها اعادة اصدار ديوانه "روحي على راحتي" واعماله الادبية الكاملة، كذلك ترميم ضريحه وازاحة الستار عن نصبه التذكاري في ذكرى استشهاده عام 1986 في الناصرة، واقامة مهرجانات احتفالية وتأبينية واستذكارية في عمان والطيبة والناصرة وعنبتا، القيت فيها كتابات وابداعات تشع دفئاً وحنيناً ووفاءً لعبد الرحيم محمود، الشاعر والانسان والثائر.
وكان الشاعر الفلسطيني سعود الاسدي جاد بقصيدة، بل معلقة مكتوبة بالدم الفلسطيني القاني المجبول بتراب الوطن، بمناسبة الذكرى الخمسين لاستشهاد المناضل الشاعر عبد الرحيم محمود بعنوان «سقياً لدار في عنبتا» نشرها في صحيفة «الاتحاد» الحيفاوية العريقة يوم 17 تموز عام 1998، ونقتطف من ابياتها الـ (47) هذه الابيات:
عبد الرحيم الا بعثت جديداًحيا، كعهدك اذ قضيت شهيداكم رحت ما بين الجموع مكرماوغدوت فيهم بالكفاح مجيداسقياً لدار في "عنبتا"اطلقتمن صوت شعرك بلبلاً غريداولطولكرم مذ حملت ربابةما زال قوس عناقها مشدوداغنيت حسن بناتها شعراًعلىايقاعه صارت تمليس قدوداوأخالها ترنو اليك نواظراًوتميل اعناق الصبا وخدودانفحتك من زهر الرواء وروداوحبتك من نبع الصفاء وروداورأت خيالك في رفارف ليلهااملاً على احلامها معقودالما فلسطين رأتك مجليافيها، ومن قبل الرشاد رشيدا
الى ان يقول:
رحماك علمنا الجهاد وخصنابدروسه، وافد به لنفيداانا لنقتبس المفاخر جمهمما اعادوك طيباً محموداونردد البيت الذي هتفت بهمهج الكماة بيارقاً وبنوداانا سنحمل فوق راحتك التيحملتها روح الفدا نشيداونزج بالمهج التي عشقت رؤىما ترتئيه مواقفاً وشهوداحتى نعيش مكرمين بموطننهواه مثلك، او نموت اسودا
فهل هناك أكثر صدقاً ورقة وجمالاً وشفافية وحساً انسانياً ومشاعر نبيلة وفياضة اكثر مما جاء في هذه الرائعة الشعرية، التي فاضت بها روح سعود الاسدي الشاعرية في ذكرى عبد الرحيم محمود؟!.
ففي هذه القصيدة تبرز مقدرة شاعرنا الاسدي وتجربته الادبية العميقة، وتتجلى الروح الشاعرية المبدعة الخلاّقة، والنفس الشعري العميق، والكلمة البليغة، واللغة الطلية عدا الاستعارات والتشبيهات والاوصاف البديعة والصور الشعرية الانيقة المبتكرة والايقاع الموسيقي الفني القادر على سبر الاغوار وملامسة شغاف القلوب.
حقاً اننا امام هرم شعري باسق،ومبدع كبير، وشاعر مجرب، صادق البوح، ممسك بتلابيب الكلمة، ومتمسك بالاصالة والابداع الشامل، وله خبرته الطويلة واطلاعه الواسع.. شاعر يتدفق عطاءً وحباً للحياة، ويدهشنا ويأسرنا بتعابيره الخصبة ذات الرهافة والدفء الانساني.
فيعطيك العافية يا ابا تميم، يا شاعر الحب والجمال والصفاء والرثاء، وصاحب الروح الهائمة المحلقة في سماء الوطن الكنعاني، ولتظل نبراساً وقلماً سيالاً في روض الشعر ومحراب الكلمة الصادقة والادب الانساني والشعبي الرعوي، وثق ان لك قراء واحباء يتشوقون وينتظرون كل كلمة جميلة زاهية وهادفة بناءة يجود بها فكرك وقلمك وقريحتك.