الجمعة ٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١
بقلم آمال عواد رضوان

حصاةٌ مِن هيكلِ ميشيل حدّاد الشّعريّ المُقاوِم!

1-1-1919 وُلد ميشيل حدّاد في مدينةِ النّاصرة، و1936 أنهى فيها دراستَهُ الابتدائيّةَ والثّانويّة.

1937 ابتدأ العملَ في التّدريسِ في مدينة الرّملة، فغزّة، فالقدس فالنّاصرة.

1944 عملَ على تأسيسِ فرقةِ مسرحٍ في فترةٍ مبكّرةٍ مِن حياتِنا الثّقافيّة، وأقامَ معرضًا للرّسم.

1947 حصلَ على دبلوم كلّيّةِ الصّحافةِ المصريّةِ بالانتساب، وشهادةَ تدريس الفنون الجميلة.
في زمن الانتدابِ ساهمَ بتحريرِ بعضِ المنابرِ الأدبيّةِ والبرامج الإذاعيّةِ، وعملَ مُحرّرًا في مجلّةِ الذخيرة، ومحرّرًا في برامجِ دارِ الإذاعةِ الفلسطينيّةِ ومحطّةِ الشّرق الأدنى، وأصدرَ مسرحيّة «ظلام ونور» مع الشّاعر جمال قعوار، ونشرَ مجموعةً مِن المختاراتِ القصصيّة، تحتَ عنوان «أقاصيص مِن هنا وهناك».

1954 أصدرَ مجلّة «المجتمع» الشّهريّة حتى 1959، ثمّ جدّدها بعدَ تقاعدِهِ 1979.
أقامَ عددًا مِنَ الورشاتِ الأدبيّةِ، لتشجيع المواهبِ الشّابّةِ في حقلَي الكتابةِ والفنّ، كما عملَ على تأسيسِ «جمعيّة أصدقاء مستشفى النّاصرة»، وعلى إنشاء كلّيّةٍ عربيّةٍ في النّاصرة.

1955 أسّسَ باسْمِ مجلّةِ المجتمعِ وكُتّابها أوّلَ رابطةٍ لشعراءِ العربيّةِ في البلاد.

1955 أوّل مَن أصدرَ مجموعةً شعريّةً للشّعراء الشّباب، بعنوان "ألوانٌ مِن شِعرِ العربيّة في إسرائيل".

1969 أصدرَ «الدّرج المُؤدّي إلى أغوارنا»، عن دار النّشر العربيّ، والّذي أثارَ اهتمامَ النّقّادِ والمَحافل الأدبيّةِ، لمواضيعِهِ الغنيّةِ وأسلوبِهِ الفنّيِّ المتميّز، وكلّها قصائد نثريّة.

1972 أصدرَ «اقترابُ السّاعاتِ والأميال» عن دارِ النّشرِ العربيّ، وقصائدُ الدّيوانِ جميعُها تلتزمُ التّفعيلة.

1973 أصدرَ «ألفُ ليلةٍ عصريّة» عن دارِ الشّرق، وجميعُ القصائدِ نثريّة.

1974 منحتْهُ جامعةُ «أيوا» الأمريكيّة شهادةَ شرفِ الزّمالةِ الأدبيّةِ، بعدَ اشتراكِهِ في برنامجِ الكتابةِ العالميّ. 1975 أصدرَ مجموعةَ «أن تسأل» عن مطبعةِ الحكيم، جمعَ فيهِ بينَ القصائدِ النّثريّةِ وقصائدِ التّفعيلةِ، والقصائدُ البرقيّاتُ القصيرة، كما أنّهُ أصدرَ العديدَ مِن قصصِ الأطفالِ معَ غيرِهِ مِنَ الأدباء.

1976 أصدرَ «هأنذا أيّها السّيّد» عن مجلّة الشّرق، تتكوّنُ مِن خمسة أقسامٍ رئيسيّة، الأربعةُ الأولى منها قصائدُ نثريّة قصيرة، أمّا قصائدُ القسم الخامس فهيَ استجلاءاتٌ غنائيّةٌ مبنيّةٌ على إيقاعٍ موزون.

1979 أصدرَ «إلى أين أيّها الفرح» عن دار الأسوار، يضمُّ بعضَ القصائدِ النّثريّةِ، وكثيرًا مِن قصائدِ التّفعيلة، وعددًا مِنَ القصائدِ البرقيّات.

1979 أصدرَ «غرّةٌ على جبينِ الصّبا»، مجموعةٌ شعريّةٌ لعددٍ مِن شعرائِنا ورسّامينا الشّباب.

1982 / اشتركَ في كتابةِ مسرحيّة «مداسُ الطّنبوريّ» التي عُرضتْ بنجاحٍ في مدارسِنا العربيّة.

1984 أصدرَ «أرصفةَ الحُرّيّة» عن دار المشرق.

1985 أصدرَ «في النّاحيةِ الأخرى» عن دار المشرق، يضمُّ ستًّا وثلاثينَ قصيدة نثريّة قصيرة، باستثناء قصيدة «أقدام ناصعة» بخمس صفحات، وقصيدة «إلى ليلى» موزونة تلتزمُ التّفعيلة، كما أنيطَ بهِ رئاسةَ تحريرِ مجلّة الشّرقِ الأدبيّةِ الفصليّة.

1987 أصدرَ «ملء الصّمت» عن دار المشرق، وانتخبَتهُ رابطةُ الكُتّاب والأدباء الفلسطينيّين في البلاد أوّلَ رئيسٍ فخريٍّ للرّابطة، بعدَ اشتراكِهِ في تأسيسِها.

1988 اشتركَ في مؤتمرِ الشّعرِ العالميِّ روتردام في هولندا.

1990 أصدرَ «القوارير» عن مؤسّسة المجتمع.

1990 أصدرَ «مِن ذكرياتي» عن رابطةِ الكُتّاب الفلسطينيّين.

1992 أصدرَ «شاعرٌ في مرآةِ النّقد» مراجع عن دائرة الثقافةِ العربيّة/ مطبعة دار المشرق.

1994 أصدرَ «نسيمٌ في طيّاتِ العاصفة» عن دائرةِ الثّقافةِ العربيّةِ ومجلس الفنون والآداب.

1996 أصدرَ «في أجواءِ النّغم»، عن دائرةِ الثّقافةِ العربيّةِ والمجلسِ الشّعبيّ للثّقافةِ والفنون/ مطبعة فينوس.

1997 أصدرَ "أبحثُ عن حُرّيّتي" إصدار مديريّة الثّقافة العامّة/ مطبعة الحكيم.

يُعتبرُ ميشيل حدّاد رائدَ حركةِ الشّعرِ الحديثِ في البلادِ، وتُرجمَ شعرُهُ إلى عدّةِ لغاتٍ، فحصلَ على عددٍ مِنَ الجوائزِ الأدبيّةِ والفنّيّة، واشتركَ في ندواتٍ ومؤتمراتٍ أدبيّةٍ مَحلّيّةٍ وعالميّة، وقَدّمَ لكثيرٍ مِنَ الشّعراءِ مجموعاتِهم الشّعرية، وأصدرَ مجموعتيْن شعريّتيْن لأكثرَ مِن ستّينَ شاعرًا مَحلّيًّا، وأصدرَتْ لهُ بالعبريّة دارُ النّشر المعروفة "هكيبوتس همئوحاد" مجموعةً شعريّة، قدّم لها البروفيسور ساسون سوميخ بعنوان "تراكمات".

الأسلوبُ واللّغة والبناء:

كتب الشّاعر طه محمّد علي عام 1969 تقديمًا لمجموعة "الدّرج المُؤدّي إلى أغوارنا: (1)
"أنتَ هنا أمامَ حشدٍ مِنَ الصّورِ الحيّةِ المُعبّرةِ، الّتي تُؤلّفُ بينَ الرّؤيا والأبعادِ الفكريّةِ والإنسانيّة، فتجعلُ العملَ الفنّيَّ كلاًّ متناسقًا".

لقد استخدمَ الشاعرُ أساليبَ تعبيريّةٍ متنوّعة؛ كأسلوبِ الحوار، السّرد، الخطاب، المناجاة، بلغةٍ نثريّةٍ شعريّةٍ بعيدةٍ عن الوزن والقافية، وباسترسالِ تداعياتٍ تُحلّقُ في فضاءٍ شاسعٍ مِنَ أفكارٍ وخواطرَ ومعانٍ لا تكلُّ، إذ اتّكأتْ على جنونِ خيالٍ خصبٍ في تركيبِ عباراتٍ مُبطّنةٍ بالاستعاراتِ والمجازيّةِ، مشحونةٍ بالرّمزيّة، تتضمّنُ إيحاءاتٍ مبتكرةً وإشاراتٍ صادمةً بمُفارقاتِها، تنوءُ بإيماءاتٍ تستثيرُ الدّهشةَ والغرابةَ بتخيّلاتِها، ولم يتوانَ في تجييرِ التّراثِ والموسيقا وثقافتِهِ الإنجيليّةِ والأسطوريّةِ والألفاظِ الشّعبيّةِ، في تفجيرِ آهاتِ الحروفِ الموجَعةِ بصرخاتٍ إنسانيّةٍ مكتومةِ الدّويّ، في خضمّ صخبِ الكبتِ والظّروفِ الصّعبةِ والصّوت المقموع!

نسيجُ كلِّ قصيدةٍ قائمٌ بذاتِه متماسكُ الخيوطِ والعضويّةِ بعمقِ رؤيتِهِ، وذاكَ ينبعُ مِن ثقافةِ الشّاعرِ حدّاد الفكريّةِ والوجدانيّةِ والفنيّة، فالصّورُ تتلاحقُ متسلسلةً، وقد تبدو اللّغةُ مفكّكةً متهافتةً في بعضِها أحيانًا، أو يكتنفُها غموضٌ شفّافٌ، إلاّ أنّ أغوارَها متعدّدةُ الأبعادِ والمستوياتِ الدّلاليّة، تحملُ نفَسًا شعريًّا واحدًا متآلِفًا مُتناسقًا بانسيابيّة، تتواترُ وتتواشجُ فيهِ لغةُ الحنينِ والشّجن، وتُشيعُ نغمةَ أسًى وحزنٍ في القلب، بعزفٍ إبداعيٍّ راقٍ يصبو إلى قمّةِ الحُلمِ بالوطن.

الشّاعرُ ميشيل حدّاد كشاهدِ عيانٍ على أهمّ الأحداثِ السّياسيّةِ والتّاريخيّةِ المريرةِ في بلادِنا، نراهُ بوعيِ مُحترفٍ يُحفّزُ الحواسَّ الحالمةَ، ويَزحَفُ صوْبَ نزعتِهِ الثّوريّةِ الهادئةِ السّاخرة، ليُؤجّجَ في عينِ قارئِهِ الحادّةِ دهشةً وحشيةً ثاقبةَ التّأويل، مِن خلالِ تجلّياتِ قصائدِهِ، الّتي يبدو عنفوانُ حروفِها التّثويريّةِ هوسًا جامحًا، يَعصى تفكيكُ شحناتِهِ المُكبّلةِ، لأنّها تستوعبُ الكونَ بتناقضاتِهِ اللاّمتناهية.

يقول البروفيسور سوسون سوميخ في مقالتِهِ "الميزاتُ الشّعريّةُ في قصائدِ ميشيل حدّاد"، المُوثّقة في كتاب "الشّاعر في مرآةِ النّقد": (2)

"نلمحُ بينَ السّطورِ وبعدَ الانتهاءِ مِن قراءةِ القصيدةِ الواحدةِ أمورًا غيرَ مفهومةٍ، تفسّرُ جوَّ السّذاجة، وتدعونا إلى التّأمّلِ والتّساؤلِ، هل هذه السّذاجة حقيقيّةٌ فعلاً، أم هي آيرونيّة؟ وسرعانَ ما يتّضحُ لنا أنّ عالمَ ميشيل حدّاد ليسَ بسيطًا أبدًا، وصيغتُهُ الشّعريّةُ أبعدُ ما تكونُ عن السّطحيّة".

ويقولُ أحمد حسنين في مقالتِهِ "الشّخصيّاتُ الأربعُ في شِعرِ ميشيل حدّاد": (3)
"أنا أعترفُ أنّ ميشيل حدّاد شاعر يُدير لكَ ظهرَهُ، ولا تستطيعُ أن تُديرَ لهُ ظهرَكَ لأيّ شيءٍ يكتبُهُ، إلاّ على سبيلِ المكابرةِ البلهاء فقط".

ألعلّ هذه الشّهاداتِ مُجرّدُ كلماتِ تشويقٍ، تُدخلُكَ إلى حوّامةِ الحذرِ والارتياب، أم إلى كهوفِ الاستكشافِ استزادةً في حبِّ الاستطلاع في حلّ ألغازِها؟

كيفَ للقارئِ أن يستشفَّ أدغالَ الصّورِ الشّعريّةِ الضّبابيّة، كثيفة البواطن، والضّوءُ خافتٌ؟
يقول نعيم عرايدي في خلاصةِ مقالتِهِ "حبُّ الحياةِ والخوفِ مِنَ الموت": (4)

"هذا ما حاولتُ أن أقنعَ بهِ في دراستي لأدونيس، كانَ شعرُهُ حتّى أغاني مهيار الدّمشقي وبعدَ مجموعتِهِ الأولى مجرّدَ تأمّلاتٍ وليستْ شعرًا، وهكذا بالنّسبةِ لميشيل حدّاد، فهو شاعرٌ كبيرٌ في أعماقِهِ، إلاّ أنّهُ لم يستطعْ تجسيدَ شاعريّتِهِ بقصائدَ تتفاعلُ معَ القارئِ العربيِّ ذاتِ التّطلّعاتِ والآمالِ الخاصّةِ به، الّتي تبحثُ عن مَعبَرٍ لها، إلاّ أنّ شيئًا واحدًا لا نستطيعُ إنكارَهُ، هو وجودُ مقاطع كثيرة في قصائدِ ميشيل حدّاد المنثورة مليئة بالشّاعريّة، وهي تصلحُ لأن تكونَ قصائدَ مستقلّةً ذات أبعادٍ عميقة"، و"إنّ هاجسَ الخوفِ مِنَ الموتِ هو المُحرّكُ الأساسيّ، وهو الطّابعُ الغالبُ على شعرِ حدّاد".

قالَ د. عبد اللّطيف البرغوثي: (5)

"إنَّ قصائدَ هذا الدّيوانِ النّثريّةِ الّتي رأى فيها الشّاعر سميح القاسم ثلاثةَ محاور، هي الطّفولة والخوفُ والشّعور بالغبن، إنّما تدورُ في الواقعِ مِن حيثُ المضمون حولَ موضوعٍ واحد كبير، هو مجابهةُ النّفس كما يوحي العنوان"!

ويأتي رأيي على خلافِ ما سبق، إذ إنّ مضامينَ ومواضيعَ ميشيل حدّاد قد تبدو للقارئِ العاديِّ أنّها تحملُ الطّابعَ الشّخصيّ، إلاّ أنّها تتألّفُ مِن قضايا شعريّةٍ كبيرةٍ مصيريّةٍ، معظمُها ينحو باتّجاهِ نتوءاتٍ تاريخيّةٍ مهمّةٍ تحملُ جراحاتِ وأزماتِ الوطنِ، ومنعطفاتٍ مفصليّةٍ في ملامح حياةِ الشّعب الفلسطينيّ المقهور، فتعكسُ حالةَ التّمزّقِ الفلسطينيِّ والعربيّ بمآسيهِ وتخبّطِهِ، وضياعِهِ وأحلامِهِ المنزلقةِ على مدارجِ الخيباتِ، ويتغلغلُ عبقُ روائحِها الإنسانيّةِ حائرًا في معنى الوجودِ، متراوحًا بين كينونةِ الإنسان وصيرورتِهِ في الزّمكان!

لماذا لجأ الشّاعرُ ميشيل إلى الشّعرِ في عُمرِ الخمسين؟

يجيب محمّد علي سعيد في مقالتِهِ "قراءةٌ في شِعرِ ميشيل حدّاد": (6)

"لأنّهُ رأى النّهايةَ والقبرَ، وهو الحدّ المادّي الفاصل بين الدّنيا والآخرة، فخافَ مِن المستقبل الّذي يتمثّلُ فيهِ الموت، وعندها نظرَ إلى الوراءِ وهربَ إلى الماضي، ليستمدَّ لذّةً مِن هناك، وبدأ يغرفُ مِن مخزونِ ذكرياتِهِ، مِن صورِ الطّفولة وشقاوةِ الصّبا وحماسِ الشّباب، فأوجدَ لنفسِهِ ملاذًا وبديلاً مِن المستقبل الّذي يُمثّلُهُ الموت، وخلقَ لنفسِهِ عالمًا آخرَ مِن الماضي الجميل الدّافئِ والزّاهي الألوان، ليستطيعَ تحسينَ حياتِهِ للاستمتاعِ أو للتّحمّل"؟

ونتساءل هنا: لماذا اختارَ قصيدةَ النّثر بالذّات؟

يجيبُ محمّد علي سعيد في مقالته "قراءة في شعر ميشيل حداد": (7)

"أمعنَ شاعرُنا النّظرَ في حركةِ الشّعر المحلّيّ، فوجدَها متأخّرةً عن زميلاتِها في العالم العربيّ، فأخذ على عاتقِهِ مهمّةَ الأخذِ بيدِها والسّيرِ حثيثًا نحوَ الأفضلِ والأصدق، وهو يعرفُ بأنّ المُهمّةَ صعبةٌ، وكثيرة هي حجارة الطّريق وحُفرُها وقطّاعُها"!

أمّا د. حبيب بولس فيقول في مقالته "ميشيل حداد والتجربة التي لاتنتهي": (8)

"أدباؤُنا آثروا الحداثة لا هربًا مِن واقعٍ، وإنّما لأنّهم رأوْا فيها ذاتَهم، ولأنّها تُعبّرُ عمّا يجولُ في خواطرِهم وأفكارِهم ومشاعرِهم وعن روحِ عصرِهم، أكثرَ مِن البُنى الشّعريّةِ الأخرى"!
وعلى كلّ حال، تتعدّدُ الرّؤى ووجهاتُ النّظر في شِعرِ حدّاد وأنماطِهِ وقوالبِهِ وتذوّقِه، وكُلٌّ بحسبِ فهمِهِ وإدراكِهِ وسِعةِ ثقافتِهِ يُدلي بقولِه.

وكتب د. رافع يحيى في مقالته "الرُّموزُ السّياسيّةُ في شِعرِ ميشيل حداد": (9)

"الحاضرُ والقوميّةُ يختبئانِ في قصائدِ ميشيل حدّاد، وفي بعضِ الأحيان تطفو على سطحِ القصيدة وتشكّلُ مركزها، نصطدمُ بالغموضِ الّذي يُعطّرُ قصائدَهُ، فهو يُعبّرُ عن أحاسيسِهِ في بعضِ الحالاتِ حيث نلمسُ الرّمزَ الصّريح".

وكتب غسّان كنفاني: (10)

"إنّ لمحمود درويش إنجازاتٍ مهمّةً في هذا النّطاق، ومُؤخّرًا صدَرَ ديوانُ شعرٍ لشاعرٍ اسمُهُ ميشيل حدّاد بعنوان "الدّرج المؤدّي إلى أغوارنا"، وهو مجموعةٌ مِن قصائدِ النّثرِ المكتوبةِ جيّدًا مِنَ النّاحيةِ الفنيّة، وتُوازي الجُهدَ المماثلَ الّذي يَظهرُ في الدّول العربيّة"!

وكتب محمّد علي سعيد: (11)

"ديوانُهُ الأوّلُ يحملُ عنوانًا واضحًا "الدّرجُ المُؤدّي إلى أغوارِنا"؛ إلى أعماقِ وأبعادِ النّفسِ البشريّة، وهذا الدّرجُ يَحفرُهُ الشّاعرُ في أعماقِهِ وفي حِسّهِ".

مِن خلالِ هذه الرؤى ووجهاتِ النّظرِ، يطوفُ بي العنوانُ "الدّرجُ المؤدّي إلى أغوارِنا، في رحى سماواتٍ مِن التّساؤلاتِ النّائية؛ كيف يمكنُ أن يستشفَّ القارئُ الصّورَ المُبهمةَ الشّفّافةَ الّتي يرمي إليها الشّاعرُ؟

لماذا لم يستخدمِ الأدراجَ بصيغةِ الجمْعِ بدلاً مِن الدّرج المُفرد، طالما أنّ لكلِّ غورٍ درَجُهُ؟ أم أنّ هناكَ درجًا مُحدّدًا يؤدّي إلى أغوارِنا جميعًا؟ ولو كانَ الحديثُ عن أغوارِ النّفسِ، ولكلِّ منّا أغوارُهُ، فهل الشّاعرُ ميشيل حدّاد مُخوّلٌ بأنْ يتحدّثَ عن أغوارِ نفوسِ البَشر؟ لمَ لا يتحدّثُ عن أغوارِهِ كفردٍ يعرفُ نفسَه؟ أم أنّ كلمةَ "أغوارنا" تحملُ دلالةً أخرى؟

ولماذا يعودُ الشّاعر العاشقُ عام 1989 إلى أغوارِهِ بعدَ عشرينَ عام، في كتابِهِ الشّعريّ الجديد "عودةُ العاشقِ إلى أغوارِهِ"؟

يقول الشّاعر سميح القاسم في مقالته "ميشيل حدّاد شاعرًا وإنسانًا: (12)

"جرى الحديثُ عن خمسة دواوين شعريّةِ لميشيل حدّاد، ولكنّني أرى أنّ هذا التّقسيمَ هو تقسيمٌ خارجيّ، إذ إنّ الشّاعرَ ميشيل حدّاد أصدرَ قصائدَهُ الّتي كتَبَها ضمنَ مجموعاتٍ خمس، وهي في الواقع مِن حيث الرّوحِ واللّغة والمضامين أشبهُ بديوانٍ واحدٍ، قُسّمَ إلى أجزاءٍ لاعتباراتٍ زمنيّةٍ فقط، ذلك أنّنا لا نستطيعُ أن نعتبرَ كلّ ديوانٍ مِن دواوين الشّاعرِ مرحلةً جديدةً في شعرِهِ، بل إنّها مواصلةٌ واستمرارٌ في الدّربِ الإنسانيّ الّتي يَسيرُها إنسانُ هذا العصرِ وهذا المجتمع"!

وأتساءل: هل حقًّا تشكّلُ دواوينُ حدّاد ديوانًا واحدًا، ولا تشكّلُ كلٌّ منها مرحلة جديدةً في شعرِه؟

الجواب الذي أراه يقول: إنّ كلَّ مجموعةٍ هي عالمٌ قائمٌ بذاتِهِ وزمانِهِ ومكانِهِ؟

ويتابع الشّاعر سميح القاسم في مقالته المذكورة:

"في البدايةِ كانتْ هناكَ في بعضِ القصائدِ محاولةٌ لعرْضِ عضلاتٍ، ذلكَ أنّهُ أراد أن يُؤكّدَ وجودَهُ بقصائدَ فيها مِنَ الصّنعةِ أو المظاهرةِ الفنّيّةِ، أكثرَ ممّا فيها مِن عُمْقِ التّجربةِ وأصالتِها، وحتّى في القصيدةِ الواحدةِ كانَ النّاقدُ يستطيعُ أن يُلاحظَ تفاوتًا في العُمقِ والأصالةِ بينَ مقطعٍ وآخر، هذا كما قلتُ في بدايةِ التّجربةِ الشّعريةِ لميشيل".

هذه الكلماتُ تحتاجُ برأيي إلى إعادةِ نظر، فهي لا تُمثّلُ حقيقة ما أراهُ في هذه المجموعة الشّعريّة التي أعتبرُها كنزًا ثمينًا، وسأحاولُ الدّخولَ إلى أعماق هذهِ المجموعة مِن خلالِ قصيدة واحدةٍ، أقرؤُها قراءةً نقديّة متعمّقة، قصيدة "لو أخطو دونَ إغماءٍ" إذ يقول: (13)
لا تفتحوا الأقواسَ/ على لساني عُقدٌ مِنَ الحواسِّ الكسلى/ حمَلَتْها الأهازيجُ والإيقاعاتُ/ ورائحةُ حساء العدس/ ويحي لو أفكُّ عُقلَها الملساء/ تبرُك الجِمالُ على مَوْردي/ تعدو الخواتمُ مِن خياشيمِها نشِطةً/ تلهو على كدَرِ مِراحِنا.

الشّاعرُ يرفضُ حقيقةَ التّيهِ الأزليِّ المُلاصقِ للفلسطينيّ، لأنّهُ يُدركُ كُنهَهُ، فيُعبّرُ عن ذاتِهِ مِن تجربتِهِ الخاصّة، بصِيغٍ مُتعدّدةٍ ابتدأها بصيغةِ الأمرِ والنّهي: "لا تفتحوا الأقواس"/ وبضميرِ المتكلّم المفرد "أنا"، (أهو المفردُ الفرد، أم المُفرد الجمْع)؟، ثم؛: على لساني..؛ (أيقصدُ على لسانِ الشّعبِ الفلسطينيّ)؟ عُقدٌ مِنَ الحواسّ الكسلى..... ليُنهيها بـ/ تلهو على كدَرِ مِراحِنا/، ضمير المتكلّم نحن!

تبدو لنا اللّغةُ شعريّةً متفرّدةً تنبضُ بالحياةِ والتّاريخِ، فهوَ مِن خلالِ استبطانِ تجاربِهِ الحياتيّةِ الّتي يخلعُ عليها مِن عواطفِهِ أصباغَ برّاقة، تضجّ كلماتُهُ بمجازيّةِ أبعادِها ورمزيّةِ آفاقِها وكثافةِ إيحاءاتِها، حين يُذكي الصّوَرَ المُخصّبةَ بتصويراتِها الرّمزيّة، ويستكني معانيها العميقةَ، فتغدو كلماتُهُ الرّمزيّةُ الشّفّافةُ مُحمّلةً بالدّلالاتِ الممزوجةِ بعلاقاتٍ حسّيّةٍ في سياقاتٍ مختلفة.
ما هي الأقواسُ؟ وما دلالاتُها؟ بقفزةٍ تاريخيّةٍ سريعةٍ رهيفةِ الخطى المنتظمةِ، أتربّصُ بومضاتٍ ندّاهةٍ تتخطّفُني صوبَ المفاتيحِ الدّلاليّة، تعطينيها بحذرٍ مُعاتِبٍ، لفتْحِ أقفالِ القصيدةِ بهدوءٍ دونَ تعثّر، فالقصيدة كلّها تعيدنا الى ما يلي:

قرارُ الجمعيّةِ العامّةِ التّابعةِ لهيئةِ الأممِ المتّحدةِ في 29-11-1947 بتقسيمِ أرض فلسطين إلى ثلاثةِ كياناتٍ: دولة عربيّة، ودولة يهوديّة، ومدينتيْ بيت لحم والقدس تحتَ الوصايةِ الدّوليّة، ومع نهايةِ حربِ 1948 قامتْ إسرائيل على كاملِ النّقبِ والجليلِ والسّهلِ السّاحلي، وصارتْ واقعًا مُعترَفًا بهِ يحملُ اسمَ دولةِ إسرائيل اليهوديّة، وصارتِ الضّفّةُ الغربيّةُ والقدس جزءًا مِنَ المملكةِ الأردنيّة، وأمّا قطاعُ غزّة فسيطرَ عليهِ المصريّون!

وفي صباح 28/5/1964، التأمَ المؤتمرُ الفلسطينيُّ الأوّلُ من 397 عضوًا، بإدارة د. عزت طنّوس في فندق إنتركونتيننتال "الأقواس السّبعة" في القدسِ في جبلِ الزّيتون، الّذي تقعُ الأغوارُ الأردنيّةُ على أقدامِهِ الشّرقيّةِ، وقد خرجَ المؤتمرُ بقرارِ إعلانِ قيامِ منظّمةِ التّحريرِ الفلسطينيّةِ، والمصادقةِ على الميثاق القوميّ (الوطنيّ) لمنظّمةِ التّحريرِ الفلسطينيّةِ.
نعم، إنّها خيوطُ اللّعبةِ الشّعريّة؛ يُكثّفُ ميشيل حدّادُ التّاريخَ، وينسجُ الأحداثَ وجدانيًّا بشساعةِ ثقافتهِ وبحنكتِهِ الملغوزةِ، فيقول:

أرضُنا الحسناءُ لا تهزؤوا بها/ رقصَتْ عليها المَردَةُ والجبابرة/ هل لديكَ ما تشي بهِ يا صاحب؟/ الخيطُ الواهي تخدشُني أطرافُهُ/ اِجلدوني به فأستيقظ/

الضّمائرُ أنتم، هم، أنتَ، هو وأنا، في تكثيفِها تُربكُ القارئَ، فكلُّ جُملةٍ تحملُ ضميرًا مغايرًا، والجُمَلُ تبدو منفصلةً عن الأخرى على المستوى الظاهريّ، لكنّ الوصفَ باستخدامِهِ صيغةَ المنادى "يا صاحب"، وحّدَها على مستوى الشّعور، وعمّقَ وطأةَ الضّياعِ والألمِ والتّشرّد بين الكينونةِ والصّيرورة!

لكن؛ ما دلالةُ الخيطِ الواهي؟

إنّ الأمورَ تدهورتْ وانقلبتْ بعدَ نكسةِ العرب عام 1967، وبعدَ احتلالِ إسرائيل للضّفّةِ الغربيّةِ وقطاعِ غزّة، واستيلائِها على سيناءَ المصريّة وهضبةِ الجولان السّوريّة، وقد تركتْ هزيمةً نفسيّةً في صفوفِ الجيوشِ العربيّةِ والأمّة أمام "الجيشِ الّذي لا يُقهر"، تمّ ترسيمُ حدودِ دوليّةٍ ووضعُ سياجٍ على الحدودِ الأردنيّةِ والمصريّةِ واللّبنانيّةِ والسّوريّةِ، إضافةً إلى شرخِ الأراضي الفلسطينيّة وتقسيمِها بحدودِ "الخيط الواهي"؛ أي الخطّ الأخضر ما بينَ عرب 1948 وعرب 1967، الّذي مرَّ وسطَ مدينةِ القدس، ليظلَّ جزؤُها الغربيُّ داخلَ الخطّ الأخضر، كما أصدرَ الكنيست قرارًا في 27-6-1967، يُخوّلُ إسرائيل بضمّ القدس الشّرقيّةِ، وجعْلِ المدينة بأكملِها عاصمةً لها.
"بينَ الحقيقةِ والموتِ جمجمةٌ هازئة/ على كاهلي عبءٌ مِنَ التّعابير/ لو أخطو دون إغماءٍ/ لنقضتُ المدينةَ مِن أساسِها/ وفتحتُ في سياجِ الغابةِ بابًا للفرَج"/
كأنّي بالشّاعرِ حدّاد يُحاورُ مقولةَ الشّاعرِ والفيلسوفِ الهنديِّ طاغور: "إذا أوصدتُمْ بابَكم أمامَ الخطأ، فالحقيقةُ ستبقى خارجَهُ"!

في الحقيقةِ والموتِ تتعايشُ زمكانيّةٌ هازئةٌ، فيتجاوزُ الشّاعرُ الدّمجَ بينَ المُجرّدِ والمحسوس، (على كاهلي عبءٌ مِنَ التّعابير)، كدلالةٍ على التّحرّرِ مِن سُلطةِ العقل ِوانطلاقِ الجسدِ في مهمّةِ التّحريرِ في قولِهِ: (لنقضتُ المدينةَ مِن أساسِها/ وفتحتُ في سياجِ الغابةِ بابًا للفرَج).
بحُرقةٍ مألومةٍ وجراحٍ غائرةٍ ممّا خلّفتْهُ رزايا الحربِ، يُدينُ الشّاعرُ ما آلتْ إليهِ الأحداثُ بأخطائِها، ويَكفُرُ بجامعة الدّولِ العربيّة، ويتمنّى لو أنّهُ كفلسطينيٍّ يعي الحقيقةَ، ويستطيعُ أن يفتحَ طاقةً للفرَجِ في سياجِ الغابةِ والحدودِ، ليُخلّصَ الوطنَ مِن حصارِهِ وانحسارِهِ وذُلّهِ وهزيمتِهِ ويُتابعُ:
"آهٍ أيُّها الهدفُ المُغلق/ كم فتحْنا الميازيبَ على فمِك/ كم أغرقناكَ بالوعودِ والدّمى/ تثاءبتَ على أجراسِنا الغافية/ ملأتَ حفرَنا بالزّبدِ واليأس/ على سلاسلِ الظّلمةِ مضيْنا/ نتلمّسُ الذّبالاتِ المنطفئة"

ما هو الهدفُ المُغلق Objectif ferm؟

"بحسب تعبيرLegendre هو الهدفُ الّذي يتحقّقُ بدقّةٍ وبكيفيّةٍ واحدةٍ لدى المجموعةِ، ويتمُّ مِن خلالِهِ تحديدُ كلِّ شيءٍ تحديدًا قبَليًّا، بناءً على مفاهيمِ الإنتاجيّةِ والعقلانيّةِ والفعاليّةِ، إذ ينبغي أن يكونَ الموضوعُ واضحًا ودقيقًا لا يحتملُ أكثرَ مِن معنًى، فهو يتعلّقُ بالذّاتِ وتحديدِ موضوعِ النّشاطِ، وبشروطِ التّقويمِ مِن أدواتٍ وتوقيتٍ، وبمعيارِ الإنجازِ النّاجحِ، وبالمرجعيّةِ والأدواتِ والطّرائق".

وقد كانَ الهدفُ المُغلقُ (الوطنُ الفلسطينيُّ المسلوبُ وبالتّحديد القدس وبيت لحم) فائقَ النّجاحِ بالنّسبةِ لمُخطّط إسرائيل، وفاشلاً جدًّا بالنّسبةِ لجامعةِ الدّولِ العربيّةِ، الّتي خبتْ تطلّعاتُها وملأتْ عتمةَ الآمالِ الفلسطينيّةِ باليأسِ العربيّ. ويسترسلُ جرحُهُ الشّعريُّ الصّارخُ راثيًا ما تبقّى مِن وطن:

"اِفتحوا رقعةَ الخيامِ الواسعة/ في أباريقِها عظامٌ هشّة/ تقاسي آلامَ الصّيرورة"
الشّاعرُ يجمعُ بينَ عباراتٍ استعاريّةٍ دونَ أدواتِ تعليل، ممّا زادتِ المعنى تغريبًا، لكنّها معًا شكّلتْ عناصرَ متضافرةً برمزيّتِها، وأوحتْ إلى حالةِ التّيهِ وفقدانِ الهُويّة، إذ؛ بعدَ نكسةِ 1967 تمّ تهجيرُ المزيدِ مِن أبناءِ الشّعبِ الفلسطينيّ في الدّاخلِ وإلى دولِ الجِوار، وازدادتْ رقعةُ الخيامِ الواسعة اللاّمتناهية، الّتي يُقاسي أناسُها آلامَ الكينونةِ والصّيرورة!

"تفقأُ أعينَ المجوسِ السّحَرَةِ/ تربطُ على ناقوسِ الكنيسةِ/ حِرزًا مِنَ الدّم"
إنّها صعقاتٌ تتوالى وتدعو القارئ، دهشةً وتشوّقًا، إلى الإلتساع بشعرِ ميشيل المشتعلِ، والطّاردِ عن أُطرِ مداراتِهِ، فالشّاعرُ يمنحُ الصّورَ الكثيفةَ ظِلالاً مِن غموضٍ وغرابةٍ، ومعاني تتحدّى، لها أبعادٌ أسطوريّةٌ وتاريخيّةٌ، كأنّما تُحيلُ إلى الحياةِ والبعْثِ، لتصيرَ سبيلاً إلى الحُرّيّة!
إلى ماذا ترمي عيونُ المجوسِ السّحَرة؟ وما الرابطُ بين الخيامِ وناقوس الكنيسة؟

وكأنّي بالشّاعرِ يسوقُ ذاكرةَ القارئِ الملغومةَ إلى بطونِ التّاريخِ، ليقضّ هدأةَ عظامٍ هشّةٍ، أو ليفجّرَ ماضيًا مخدّرًا؛ والأحداثُ التالية يمكن ان تكون وراء هذه الكلمات:

بعدَ زوالِ الدّولةِ اليهوديّة عام 586 ق. م على يد نبوخذنصر، حاولَ اليهودُ إقامةَ دولةٍ يهوديّةٍ، بعدَ عودتِهم مِن سبْيِ بابل عام 71 م، لكنّ الحُكمَ الرّومانيَّ تصدّى لهم، فقتلَ الكثيرَ منهم، وفرّ الأكثرُ منهم إلى الدّولِ العربيّة، وكانتْ هناك محاولاتٌ أخرى، وكانَ آخِرُها عام 135 م، ولكنّها باءتْ بالفشلِ أيضًا، إذ إنّ هاردفيان الحاكمَ الرّومانيّ دمّرَ لهم المنطقةَ اليهوديّة في القدس، ومنعَهم مِن دخولها.

ومن هنا فإنّهم آزروا الفُرْسَ عام 614 م للانتقامِ مِنَ الرّومانِ، من أجلِ السّيطرةِ على فلسطين، فذُبحَ المسيحيّون، وهُدّمتْ جميعُ الكنائسِ ونُهبتْ، إلاّ حائطًا واحدًا في كنيسةِ المهدِ في بيت لحم لم يُهدم، لأنّه مثّلَ حضارةَ الفُرْس، إذ رُسِمَ عليهِ أيقونةً مِنَ الفسيفساءِ، تُمثّلُ المجوسَ الفُرْسَ وهم يقدّمونَ الهدايا للطّفلِ يسوع! لكن ما الّذي يستدعي الشّاعرَ أن يستحضرَ العلاقةَ الانسيابيّةَ هذه بينَ اليهودِ والفُرْسِ، وهو يتحدّثُ عن حرب 1967؟
يقولُ الباحثُ المصريُّ عمرو صابح في مقالتِهِ "بينَ السّاداتِ وشاهِ إيران لم نتعلّم شيء" ما مفادُهُ: (14)

في يوليو 1960 قرّرَ شاه إيران محمّد رضا بهلوي إقامةَ تمثيلٍ دبلوماسيٍّ كاملٍ بينَ إيران وإسرائيل، وكانت مواقفُهُ تتّسمُ بالعداءِ والاحتقارِ لمصرَ والعَرَب، فاعترفَ بدولةِ إسرائيل اعترافًا فعليًّا عام 1948، وحينَ قرّعَهُ الرّئيسُ عبد النّاصرِ، معتبِرًا أنّ اعترافَ دولةٍ إسلاميّةٍ بدولةِ اسرائيل يُعَدُّ سابقةً خطيرةً، وأنّ الشّاهَ ألعوبةٌ في يدِ المخابراتِ المركزيّةِ الأمريكيّة الّتي أعادَتْهُ إلى العرْش، ما كانَ مِن إيران إلاّ أن قطعتِ العلاقاتِ الدّبلوماسيّةَ بينَ مصرَ وإيران، وفي يونيو 1966 زارَ رئيسُ الوزراءِ الإسرائيليّ ليفي أشكول إيران، والتقى بالشّاه مِن أجلِ التّنسيقِ معَهُ للحربِ المُقبلة 1967 ضدّ مصر العدّوِ المشترَك، وقد توطّدتِ العلاقاتُ الإيرانيّةُ الإسرائيليّةُ ثقافيًّا وتجاريًّا وعسكريًّا، وبتنسيقٍ كاملٍ بينَ أجهزةِ المخابراتِ المدنيّةِ والعسكريّةِ، كانَ الشّاهُ المُموّلَ الأوّلَ بالبترولِ الإيرانيّ لإسرائيل".

إذًا؛ هل هو تواضعٌ مِنَ الشّاعرِ ميشيل حدّاد يَدفعُهُ أن يدّعي أنّهُ ليسَ سياسيًّا، وهو المُتابعُ لدقائقِ مُجرياتِ الأحداثِ التاريخيّة بحذافيرِها؟

ألعلّ هذا الإدراكُ المُبطّنُ هو الذي جعلَهُ يعملُ كثيرًا في المجال الثّقافيّ والتّوعويّ، وإيقاظ مواهب طبقةِ المثقّفينَ، وشحْنِ ألسنتِهم بروحِ الشّعبِ والتّعبير عنهُ؟

ألعلّ صمتَهُ المكلومَ هو الّذي شحنَهُ بطاقةٍ شعريّةٍ مغايرةٍ، عبّرَ عنها بأسلوبِهِ الحداثيِّ على غيرِ شاكلةِ شعر التّثوير المباشر، وتأجيج نفوس الشّعبِ بلغةِ الشّعراءِ المباشرة؟

"أنا ما زلتُ واقفًا على قدميّ/ أراقبُ النّملَ والنّعالَ والكبرياء/ وحين أرتطمُ بفراشةٍ صغيرةٍ/ تفتحُ جناحيْها لاحتضاني/ أقشعرُّ وأخبو".

"أنا" تُمثّلُ لسانَ المجموعِ الفلسطينيّ الّذي لم يَخنعْ ولم يَنحَنِ، بل ظلَّ منتصبًا في تحدّيهِ وصمودِهِ، يتعالى على الغدرِ بالقضيّةِ والمقايضةِ بها، دونَ مراعاةٍ لأحاسيسِ الشّعب المعذّبِ المُشرّد، ولأنّ اللُّغةَ الشّعريّةَ ينبغي أن تتّصفَ بالإبداعِ والتّفرّدِ وقوّةِ الجذب، نراهُ يربطُ بينَ عناصرَ حسّيّةٍ ومُجرّدة/ أراقبُ النّملَ والنّعالَ والكبرياء/، ثمَّ إنَّ الارتطامَ بينَ الأجسامِ الكبيرةِ يُحدثُ دويًّا، فهل يُعدُّ تصادمُ الشّاعرِ بالفراشةِ الصّغيرةِ ارتطامًا؟ لقد اتّخذَ مِنَ الرّبطِ بينَ الصّياغةِ الشّعريّةِ والنّواتجِ الدّلاليّةِ وسيلةً للتّعبيرِ عنِ الهُوّةِ القائمةِ بينَ الواقعِ والحُلم.

الفراشةُ هي رمزُ الرّقّةِ والجَمالِ يتجاوزُ اسمَها إلى حضنِها، وحضنُ الفراشةِ استعارةٌ مَكنيّةٌ تُولّدُ معانٍ مضاعفةً مِن إشعاعاتِها الرّمزيّة، فلماذا يقشعِرُّ الشّاعرُ ويخبو؟ ألعلّهُ الضّوءُ الّذي يَحرقُ الفراشة؟ أم أنّه يَخشى طيْشَها وتَخبُّطَها في المصيرِ المَجهول؟ أم أنّهُ تخطّى العلاقةَ السّطحيّةَ بينَ الفراشةِ والاحتراق، إلى دلالاتٍ روحيّةٍ أعمقُ تتمثّلُ بالتّضحيةِ والاستشهادِ والخلودِ؟ أم أنّ الفراشةَ رمزُ الأرضِ وهو الشّهيد؟

خلاصة:

لأنّ الشّعرَ يحملُ غموضًا وإبهامًا من تكثيفٍ واختزال، أشبهُ ما يكونُ بأدغالٍ من الألغاز، ولأنَّ القراءةَ فنٌّ لا يقلُّ أهمّيّةً، فالشّعرُ يحتاجُ إلى قارئٍ فنّانٍ متمرّسٍ، يتمتّعُ بحدقةٍ تدورُ في فلَكِ الشّعرِ بزاوية 360 درجة، ليستبطنَ خفايا ودلائلَ المطمون، وقد تناولتُ هذهِ القصيدةَ كحصاةٍ صغيرةٍ مِن هيكلِ ميشيل حدّاد الشّعريّ المقاوِم القوميّ والتّاريخيّ.

المراجع:

(1) طه محمد علي، مقدمة "الدّرج المُؤدّي إلى أغوارنا، من "الشاعرٌ في مرآة النّقدِ"
(د.م:د.ن،1969)، 152.

(2) ساسون سوميخ، "الميزاتُ الشّعريّةُ في قصائدِ ميشيل حدّاد"، من كتاب "الشّاعر في مرآةِ النّقد"،91، وفي الكرمل 4، (1983).

(3) أحمد حسنين، "الشّخصيّاتُ الأربعُ في شِعرِ ميشيل حدّاد"، من كتاب "الشّاعر في مرآةِ النّقد"، 69، وفي
المواكب 5-6 (أيار وحزيران 1989).

(4) نعيم عرايدي، "حبُّ الحياةِ والخوفِ مِنَ الموت"/ من كتاب "الشّاعر في مرآةِ النّقد"، 136، وفي
الشّرق (آذار/أيّار/ 1976).

(5) عبد اللطيف البرغوثي، من كتاب "الشّاعر في مرآةِ النّقد"، 29.

(6) محمد علي سعيد، "قراءةٌ في شِعرِ ميشيل حدّاد" من كتاب "الشّاعر في مرآةِ النّقد"، 97، وفي الشرق، 3/13، (آب تشرين أوّل، 1983).

(7) محمد علي سعيد، "قراءةٌ في شِعرِ ميشيل حدّاد" من كتاب "الشّاعر في مرآةِ النّقد"، 96، وفي الشرق، 3/13، (آب تشرين أوّل، 1983).

(8) حبيب بولس، "ميشيل حداد والتجربة التي لا تنتهي" من كتاب "الشّاعر في مرآةِ النّقد"، 12، وفي الاتّحاد (الجمعة 13-12-1991).

(9) رافع يحيى، "الرموز السياسية في شعر ميشيل حداد" من كتاب "الشّاعر في مرآةِ النّقد"، 60، وفي المجتمع، 7 (حزيران 1990).

(10) غسان كنفاني، في في شعرَ ميشيل حدّاد مجلّةِ مواقف، 9/ 2 (أيّار حزيران 1970).
(11) محمد علي سعيد، "قراءة في شعر ميشيل حداد" من كتاب "الشّاعر في مرآةِ النّقد"، 98، وفي الشرق، 3/ 13 (آب تشرين أوّل 1983).

(12) سميح قاسم "ميشيل حدّاد شاعرًا وإنسانًا" من كتاب "الشّاعر في مرآةِ النّقد"، 120، وفي مجلّة الشّرق، 2/9 (نيسان حزيران 1979).

(13) قصيدة "لو أخطو دونَ إغماءٍ" مِن كتاب "الدّرجُ المُؤدّي إلى أغوارِنا، 22.

(14) الباحثُ المصريُّ عمرو صابح في مقالتِهِ "بينَ السّاداتِ وشاهِ إيران لم نتعلّم شيء".

من موسوعة أبحاث ودراسات في الأدب الفلسطيني الحديث – الأدب المحلي- إصدار مجمع القاسمي للغة العربيىة وآدابها، أكاديمية القاسمي (ج.م) 2011 ، إعداد وتحرير د. ياسين كتانة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى