الثلاثاء ١٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١
بقلم محمد أبو عبيد

نِصْفُ حُرّية أفْضَلُ مِنْ عَدمِها

بتعاظم الحدث يكثر الحديث، ويتخذ أشكالاً من الآراء التي تتفاوت بين المتطرفة، اللينة، والموضوعية أو الواقعية. ولأننا مجتمعات العواطف التي تنأى بنا، في كثير من الأحايين، عن العقلانية، فيحكم الكثير منا على المجريات الراهنة بالأفئدة.

ثمة بشر يستهينون بالدماء التي تسفك على مذبح الحرية لقناعات عندهم بأن قوى خارجية هي "دينامو" الثورات العربية، لدرجة قناعات البعض أن يهودياً واحداً وراء كل ما يجري في أصقاعنا. في مثل هذا الكلام استخفاف بالآلاف الذين إما قضوا نحبهم، أو جُرحوا، أو اعتقلوا، أو شُرّدوا، في سبيل استشراق شمس الحرية. فمما يجافي العقل، أو يجافيه العقل، أن يضحي شباب العرب من أجل عينيْ ساركوزي، مثلاً، أو شَعر هيلاري كلنتون الأشقر، أو من أجل قوى استعمارية جديدة.

وللموضوعية، لا مراء في أن القوى الغربية تسعى من أجل الحفاظ على مصالحها ضمن أي مشهد جديد سيحياه العرب، حتى لو حكمت التيارات الإسلامية، لأن فقدان مصالحها في أصقاعنا يعني الانتحار لها، لكن ذلك لا يعني بالمطلق أن "شتاء الغرب" سبق فأتى "بربيع العرب"، فالغرب مضطر أن يتعامل مع التغيرات التي فرضها الثوار، وسيعمل على اغتنامها بما يجعله يخرج بأقل الخسائر إنْ لم يخرج بأكثر الغنائم.

المفارقة هي أن المروجين لهذه الفكرة السوداوية يصورون الثورات كما لو أنها "الأسفلت" الذي يُعبّد به الطريق لاستقبال الاستعمار سيراً عليه. ولعلهم تناسوا أن الاستعمار أصلاً موجود منذ عقود، ولم يخرج ليحاول الولوج من جديد، فكل ما في الأمر أنه مضطر أن يبدل ثيابه بما هو أكثر عصرية يناسب الزمان العربي.

وحتى لا يبالغ المرء في رسم، أو تنبؤ المشهد المقبل فيقترف خطيئة التوهم اليوطوبي، فإن العرب "الجدد" بثوراتهم وإنجاز أهدافهم، لن يكونوا في حلٍ من ضغط أية قوة خارجية ستواصله عليهم ولو بتقمص الحمل الوديع. إلا أن التغير الذي سينعم به العرب هو كالتالي:-

عاش العرب عقوداً، وما انفك يعيش بعضهم، بين فكي كماشة، أحدهما فك القوى الغربية المهيمنة، والفك الآخر هو أنظمة عربية ديكتاتورية وشمولية تَعُد وتراقب شهيق وزفير المواطن العربي. فإذا تحرر المرء من أحد الفكين، يكون قد اكتسب نصف حرية، والنصف يبقى أفضل من العدم، وذروة التفاضل في تكامل بدر الحرية، لكن الطقس الحالي، بأسبابه الموضوعية، لا يسمح برؤية البدر.

لذلك لا تُقاس الأمور على أنها إما أبيض أو أسود، فثمة اللون الرمادي وما اقترب من تخومه، والذي قد يؤدي لاحقاً إلى ما هو أقرب بكثير إلى الأبيض إذا تعذرت نصاعته. بالتالي لا يوجد حر يرضى باستعمار وحرية عرجاء، لكن حين تفرض الظروف نفسها على أرض الواقع، نظراً لميزان القوى العالمي، فإن المرء، حتماً، سيتنفس الصعداء، في زمن استطاع فيه التنفس، حين بات يرى حريته تحبو.

إنّ نصف حرية مع سندان غربي، يفرض نفسه وفقاً لمنسوب القوة، أفضل من انعدامها بين سندان غربي ومطرقة عربية ديكتاتورية، والأفضل هو حين يولي السندان والمطرقة الدُبُر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى