الجمعة ٢١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم علي أبو مريحيل

هكذا جئت إلى الحياة

أن تطأ الحياة بلسانك، يعني أن تتجرّع مرارتها قبل أن تعرف الطريق إلى صدر أمك الجاف بفعل الحصار المفروض على قريتك المنكوبة، عندها تتغير وظائف الحواس أمام ما ينتظرك من تحديات .. كأن يتجاوز اللسان حاسة الذوق، ليصبح أداة من أدوات التحرر في جعبة شعب أعزل، أو تتجاوز الكلمات حيز الكتابة حين تتحول إلى طلقات نارية تطال كل من لا يؤمن بأن صدى الحروف أكثر عمقاً ومدى من صدى المدفع !!

كان أبي موقوفاً في مركز القرية(1) حين أخبرته جارتنا (أم سعيد) أن أمي على وشك الولادة، لم يلق أبي بالاً للموضوع لأن خبر الحمل والولادة بالنسبة له لم يعد خبراً عاجلاً من فرط ما تزوج وأنجب، فهو متزوج من اثنتين قبل أمي وواحدة بعدها، عدا ما طلق من زوجات كي لا يخالف الشرع خلال مسيرته الحافلة بالزيجات، وبالتالي كان لديه من الأبناء ما يؤهله لخوض أي انتخابات قروية قادمة، بالنظر إلى عدد الأصوات التي سيحظى بها، مع العلم أن أبي تنطبق عليه كل المواصفات والشروط ليكون مختاراً للقرية، فهو أميّ .. لايقرأ ولا يكتب، وهو يجيد الكذب حين يضطر لذلك، كأن تسأله أمي: أين بتّ بالأمس؟ فيجيب: في المسجد كنت أحيي ليلة القدر !
وهو أيضاً رجل مزواج، مع فرق بسيط بينه وبين المختار .. أننا أبناء حلال!

أيضاً أمي لم تلق بالاً لعدم اكتراث أبي، لأنها على علم مسبق بأن ولادتي ستكون متعسرة، خصوصاً وأني تأخرت عن موعدي عشرة أيام، لا مجاراة لتأخرنا عن العالم عشرة قرون، وإنما احتجاجاً على عدم التحضير والترتيب اللازم لاستقبال يليق بمجيء الأول إلى الحياة، طبعاً لست من هواة الأضواء والشهرة .. معاذ الله، ولكن أسوة بأبناء (أبو عبدو) السبّاك، فرغم أنه أقل من أبي فقراً إلا أنه أكثر منه احتفاءً بأبنائه الجدد، مع العلم أن (أبو عبدو) السبّاك متزوج من ثلاثة .. واحدة منهن طليقة أبي، هنا ينبغي أن أنوّه أن التزاوج والتكاثر في قريتنا ليست اعتداداً بالفحولة كما يظن البعض، بل هو إيمان راسخ عند أجدادنا العرب مرتبط بموروث قديم، وهو أن الكثرة تغلب الشجاعة، ولأننا شعوب تحترف الخوف، كان لابد لنا أن نتكاثر على أمل أن نتخطى حاجز الصمت يوماً بكثرتنا العرجاء !

في الخامس عشر من مايو عام 1948 .. قررت المجيء إلى الحياة، ليس حباً بها بل تعاطفاً مع أمي التي كانت تتلوى من الآلام، وقد تزامن مجيء في ذلك اليوم مع تهجير نحو 800 ألف فلسطيني إلى القرى والدول العربية المجاوزة، وهو ما يعرف باسم النكبة الفلسطينية، لذلك لم تجتهد أمي كثيراً في اختيار اسم لي، خصوصاً وأن التسمية في مجتمعاتنا مرتبطة بأقرب ذكرى يمر عليها المولود .. لم يكن في استقبالي كما كان متوقعاً سوى الداية (أم أحمد)، ولأني تأخرت عن موعدي عشرة أيام، كانت ولادتي صعبة، ولن أبالغ إذا قلت أن ولادتي كانت أصعب من قرار تقسيم فلسطين (2) لأن صوت أمي في تلك الليلة كان أكثر حدة من الأصوات العربية المحتجة على ذلك القرار !

لم أنس منذ تلك الليلة الداية (أم أحمد) بتقاسيمها القاسية وملامحها الجافة ويدها الثقيلة التي كانت تعبث بجسدي الطري بحثاً عن أي شيء تمسك به كي تساعدني على الخروج، ولأني كنت ألهث تعباً حين كان كفها الغليظ يتحسس وجهي .. قامت بسحبي من لساني، ولم تدرك فعلتها إلا حين أحست أن الجزء الذي تمسك به مختلف عما اعتادت عليه .. عندها صاحت: يا إلهي .. لم أر في حياتي مثل هذا اللسان ! أنظري إليه يبدو كأنه مقصلة !! قبل أن تضيف: أرى في وليدك هذا شأناً عظيماً يا (أم جهاد)، فإما أن يصبح بهلواناً أو يصبح سياسياً ! فردّت أمي على الفور: كفى الله شرك يا (أم أحمد) .. عن أي شأن تتحدثين ! أنا لا أرى في ولدي إلا نصيراً للحق والمظلومين أمثال أبيه، وما سحبك له من لسانه إلا تأكيداً على رؤية ألهمني إياها الله ذات يوم (3) ! ثم التفتت إليّ بنظرة تختصر كل معاني الأمومة وقالت: أخيراً جئت يا ولدي .. أخيراً جئت يا منكوب !!

بعد أن أطلق سراح أبي بكفالة عينية قدرها دجاجتان وصاعان من الشعير، عاد مسرعاً إلى البيت ليلقي عليّ النظرة الأولى، وحين علم بالكيفية التي ولدت بها .. استبشر بي خيراً، فأقام وليمة كبيرة احتفاءً بهذه المناسبة، ولمّا عمّت أرجاء القرية قصة ولادتي النادرة .. أصدر الحاكم العسكري أمراً باعتقالي، خوفاً من نواياي المبيتة، لأنه قرأ في أعين المحيطين بي أملاً في جيل لا يعرف الخوف، فتظاهر أهل القرية حول المركز، واستنكرت القرى المجاورة قرار الحاكم، فوجهت له كتاباً شديد اللهجة، وراحت تنهال عليّ الخطب والقصائد الشعرية والأغاني الثورية والحماسية، فتحولت إلى بطل قومي وأصبحت سيرتي على كل لسان، بعد أن دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، وحين ارتفعت الأصوات المطالبة بإطلاق سراحي، تجاوزت قصتي حدود المنطقة، لتصل إلى مجلس الأمن الدولي الذي تساءل: كيف يتم اعتقال طفل رضيع لم يبلغ من العمر سوى يومين؟ فعقدت المؤتمرات وقدمت المبادرات والتسويات، إلى أن توافق الجميع على أن أتنازل عن حقي في إضمار نواياي، مقابل أن يتم الافراج عني بشرط أن أظل في البيت تحت الإقامة الجبرية ! وبعد أن تشاورت القرى المجاورة والدول الشقيقة حول ما تم التوافق عليه، رأوا أن يوافقوا على ذلك بشرط أن يتم السماح لي بالخروج من البيت لمدة ساعتين كل يوم، كي أنال حصتي من الشمس!

أما أنا وقد صادروا حتى حقي في الهواء .. لم أجد ما أطل به عليكم في الذكرى الثالثة والستين لاعتقالي، سوى هذه الكلمات، علها تلقى آذناً صاغية وقلوباً مؤمنة وعقولاً واعية تدرك أن الحق أقوى من الزمن، وأن الذاكرة لايمكن أن تسقط بالتقادم !!

(1) في الخامس من مايو عام 1948 حرّر الحاكم العسكري مذكرة توقيف بحق أبي، لأنه ضُبط وهو يتجول بأزقة القرية بعربة الخضار التي كان يعيل بها زوجاته الأربع دون أن يحمل ترخيصاً من المختار!

(2) قرار التقسيم (181)، هو القرار الصادر عن الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة عام 1947 والذي تم بموجبه تقسيم الأراضي الفلسطينية إلى ثلاثة أقسام: دولة عربية وأخرى يهودية ومنطقة دينية تقع تحت الوصاية الدولية!

(3) ذات منام، رأت أمي أن لسان أحد أبنائها يلتفّ حول رقبة المختار كحبل المشنقة، وكان المختار لايكف عن الصراخ: لست أنا .. لست أنا!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى