الأحد ٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم عبد القادر محمد الأحمر

تدرج الحب والعالم المعنوي

جاء في صحيح مسلم عن أبى الأسود الدِّئَلِىْ أنه قال:

(قال لي عمران بن الحصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشىءٌ ٌقضِّىَ عليهم ومضى فيهم من قدر ما سبق، أم في ما يستقبلون به مما أتاهم به نبيُّهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شئ ُقضى عليهم، ومضى عليهم. قال: أفلا يكون ظلماً؟ قال: ففزعت من ذلك فزعاً شديداً، وقلت: كل شئ خلق الله وملك يده، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فقال لي: يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك لأحرز عقلك، إن رجلين من مُزَيْنَةَ أَتَيـا رسول الله– صلى الله عليه وسلم – فقالا: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشىءٌ ُقضى عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو في ما يستقبلون به مما أتاهم به نبيُّهم وثبتت الحجة عليهم؟! فقال: (لا، بل شئ قضى عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا 7 فَأَلْهَمَهَا "فُجُورَهَا" و "َتَقْوَاهَا" 8 .. ) "الشمس" ..

ومن نفس الصحيح جاء في الحديث النبوي عن عبدالله بن عمر بن العاص قال: "سمعت رسول الله– صلى الله عليه وسلم – يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، قال :- "وعرشه على الماء" )..

وما يؤكد ذلك قوله– سبحانه وتعالى-: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ22 لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ولا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ23) "الحديد" ..

قاعدة الانطلاق الأولى

فبعين العقل الآن وبسمعه، فلنحدق جيداً إلى جملة ظواهر هذه الآيات المحسوسة والكلمات المبثوثة التي يزخر بها كوكبنا هذا، ونحاول أن ننفذ من خلال هذا الوسيط الشفاف ودلالات هذا التكوين، إلى ما تضمنته من مدلولات، لها من لطيف المعاني ما لا يدرك بيسر، والى عناصر هذا التكوين، لنستنبط "الحكمة" – ولو ملمحاً – من وراء وجودها ووجودنا هذا معاً، والى أي المعاني الجزئية تشير وترمز!!..

فالمعاني كلها في الباطن وجميع أمثلتها في الخارج!! ..

وهذه هي قاعدة الانطلاق الأولى التي يجب على كل باحث صادق- مهما كان موضوع بحثه - من أن ينطلق منها نحو مدركاته وغاياته المستهدفة، فكل ما في هذا الكون من ظواهر محسوسة- صغيرة كانت أم كبيرة - مرئية كانت أم غير مرئية - إنما هي "مثال" فقط إلى ما في ذلك العالم المعنوي من معانٍ!! فليس في معرفتها– ظاهراً – وتحليل عناصرها التكوينية ما يعنى استخراج كل مكوناتها، إنما يبقى بعد ذلك مدى تقرير القيمة الانفعالية بها ولها، ولنستيقن أن هذه الآيات الباهرة ما وجدت إلا لغرضٍ حكيم!! ..

ففي عقولنا– كما يقول الحكماء –: (.. أفكار فطرية، وصفت بالأوليات والضروريات والبديهيات، التي لا تقوم الأدلة الصحيحة إلا عليها، ولا يصل العقل إلى اليقين إلا بها، وهذه الأوليات هي "معان" مجردة مركوزة- أصلاً - في الذهن، ولا شئ أظهر منها، ولا يبرهن عليها لأنها بيّنة في نفسها، ويقينية إلى أقصى درجات اليقين، ولا يمكن الاستغناء عنها في إقامة البرهان على أية قضية، لأنها أسس وأصول بديهية لا مجال للشك فيها عند عاقل، وهى عامة لا خاصة، لها وجود في نفسها مستقل عن كل عقل، وما في العقل صورة لها، وكل معنى وحدة لا تتعدد، وإنما الذي يتعدد أفرادها، وهى جوهر الأشياء، لأن التعريف يشتمل على الصفات الجوهرية للشيء، أي الثابتة في الموجود، والتي هي من مقومات كيانه، فجوهر الشيء اعتباراته الثابتة وصفاته التي لا يكون بدونها، وهو المقصود بقول الفلاسفة في التعريفات: "ما به الشيء هو هو" والصفة العارضة هي المتغيرة والزائلة، فهي لا تدخل في ماهية الموجود، بل تختلف باختلاف الأفراد، وتميز بين أفراد النوع الواحد!) ..

ويمضى هؤلاء الحكماء إلى الاعتقاد القائل: (.. إن نفس الإنسان قبل ولادته كانت مجردة عن الأجساد، وكانت تعيش في عالم "المُثُلْ" – أي عالم المعاني – تتأمل وتفكر، فلما حلت بالجسم– أي بالولادة – وانغمست في عالم الحس، نسيت عالم المعاني هذا، فإذا وقع النظر على شئ جميل تذكرت مثال الجمال الذي كانت تعيش فيه، وفى أمثـاله، لأن انشغالها بشئونها أنساها تلك الحقائق، فهي تستعين بتأمل عالم الطبيعة، وبما يتسنى لها من درس وتعلم ودربة، أن تتذكر تلك الحقائق تباعاً، على أن تتفرغ لهذا السعي النبيل بكبت النزوات، فما دامت القضايا الرياضية مثل: 2+2=4 ، ونحو ذلك فطرية في النفس لم تكتسبها بتجارب خارجية ولا بالتلقين، كانت معارفنا التي تدرك بالتفكير والعقل، لا بالحواس، هي أيضا فطرية في النفس إنما لم نتذكرها من أنفسنا بسهولة واحتجنا إلى معلم أو نحو ذلك يذكرنا، لأن حلول النفس بالجسم وانشغالها به، عاقها من التذكر السريع، ولأن هذا الجميل صورة من ذلك المثال، وهذا هو السبب في ما نشاهد من ولهٍ وهيامٍ وفرحٍ وغنـاء وعواطفٍ حادة ونحو ذلك مما يصحب النظر إلى الجميل، وهذا الحب للصورة الجميلة أول خطوة في "الحب" تتدرج منها النفس إلى درجات أرقى، فتتدرج من حب الصورة الجميلة، إلى حب النفس الجميلة، إلى حب العلوم الجميلة، إلى مثال الجمال، إلى حب عالم المثل جميعه. ) ..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى