الاثنين ١٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١

قائد الإبداع من أجل الحياة يموت انتحارا

راضي شحادة

(يموت الزّمار وأصابعه تلعب)

الى المعلم الحرّ والأممي فرانسوا ابو سالم

عَرّف "فرانسوا أبو سالم" نفسه عندما استراح قليلا في ظل الشهيد هكذا: "مُتعدّد أنا..عاشق أنا.. جنّيّة هَشّة أنا..طوفان دموع مكبوتة أنا..رؤية مستقبلية أنا.."

أيها الحصان الجامح، لماذا سابقتَ الريح فتعثّرتَ بجموحك ووقعت في الهاوية قبل ان تكمل المشوار؟ كيف تريدنا ان نَذْكُرك؟ هل نذْكُرك كالدراويش والنُّسّاك الذين يموتون في الخفاء وبصمت، أم كَنَكِرة او ك"فُلان" او كخبر في جريدة جاء هكذا: "العثور على جثة ستّيني"، هكذا بلا اسم ولا تفاصيل؟ أم أنّك تفضل ان نقول: "رحيل المخرج الفلسطيني الأممي والممثل المسرحي الشمولي المحب لفلسطين فرانسوا ابو سالم عن عمر يناهز الستين؟"

أبهذه السرعة تصبح يا فرانسوا خبرا في جريدة وتتركنا وترحل؟ من الصعب استيعاب ان يكون الإنسان موجودا وهو من أقرب مقرّبيك، وأن تصدّق انه فجأة غير موجود.

ما هذه الخطة الجهنمية التي أعددتها وألّفتها وأخرجتها بِدِقّة متناهية كي تغادر وترحل عنا في الخريف، خريف فرانسوا ابو سالم، بينما أنت لا زلت في قمة ربيع عمرك ونضوجك الوعيي والإبداعي والعطائي؟ وكأنما كنت تُدْلي بتصريحك الأخير: "لاحاجة لمزيد من الحياة خارج حياة المسرح".

كان لديك من القدرة ما يكفيك كي تتحكّم بحياتك بواسطة عقلك الواعي، وخطة إخراجية أخرى شديدة الإحكام للشكل الذي أردته لموتك، ولكنها- هذه الأخيرة- كانت محكومة من قِبَل عقلك اللاواعي، ومن قدرة تحكّم عُصبونات دماغك على التحكّم بإرادتك العقلية. لقد أوصَلَتْك نوبات "الاكتئاب المانيّة القصوى والعميقة" الى مرحلة التحكّم بمصيرك بدلا ان تكون انت المتحكّم به.

كان لديك ما يكفيك من الثقة بالنفس لكي تتحكّم بكل صغيرة وكبيرة، وكنت مؤمنا انّك تستطيع ان تواجه أصعب الصعاب فتقع، ولكن واقفا، إلاّ هذه المرة، فقد كانت القفزة من مكان مرتفع جداً، فلم تستطع تحمُّل الصدمة ولم تُسعفك رجلاك على معاودة الوقوف.

تَغلّبتْ العُصبونات عليك، ولم تسعفك عبقريتك بعلاج دماغك بعقلك، بعد ان كان لديك ما يكفي من الثقة بالنفس ما يجعلك تتجرأ على معالجة الأمور على انفراد بدلا من اللجوء الى الطب، مع انك لجأت الى مؤسسة في فرنسا كي تتعلم عن سحر العصبونات الدماغية بحجة انك تريد أن تؤلف مسرحيتك "في ظل الشهيد"، فأوصَلَتْك في النهاية الى أن تكون شهيد عصبوناتك المتحكّمة بجسدك وبعقلك، والفالتة من سلطة عبقريتك الدماغية.

كنتَ واعيا لهذه الحقيقة العلمية وأوصلتها اليّ حَرفيا عندما قلت لي، وهو ما ذكرتُه في نقدي لمسرحيتك "أبو أوبو في سوق اللحامين":

"في جسد كل انسان يوجد لوزتان مسؤولتان عن الخوف وعن منطق القوة. شيء قديم موجود لدى الإنسان مما أدى الى خلق نظام هرمي ينطبق على المجموعات البشرية. منذ القدم لا يعيش الإنسان لوحده بل هنالك قطيع ومجموعة تحميه". انها فلسفة تطبيق نظام العقل والغرائز التي تبدأ من الغرائز الحيوانية الى غرائز وعقليّات البشر حيث لا تزال الطبيعة المتوحشة قابعة بقوة في دماغ الإنسان المتطور في عصرنا ومسيطرة عليها، حيث فلسفة الأسياد والعبيد لا تزال طاغية. هذه الطبيعة الجسدية المتحكمة بنا لم يستطع جسد الإنسان الإفلات منها حتى وان أصبح في أرقى درجاته الهوموسابيانية(المتعلقة بالمخلوق المفكر). علينا ان ننبّه ونحذّر دائما لكي يتحكّم الإنسان بهذه الطبيعة المتوحشة لكي نعيده الى أرقى أشكال الأخلاق والإنسانية ونحثّه على ممارسة فلسفة اللاعنف وتحويل القوة الدماغية الى قوة ايجابية تكبح الشر في داخله وتحكّم العقل والفهم. في جسد كل إنسان توجد زاوية وحشية وأخرى، تجعله عندما يكون مرتاحا، يتحلى بقيم متوازنة وأخلاقية، وعليه ان يفهم انه يجب أن يسيطر عليها ويرفضها. الإنسان مركب من عدة أدمغة متناقضة. في رأس الإنسان الواحد عدّة مناطق تتناقض وتتنازع تجري فيها حروب عصبونية، والعصبونة هي الغدة الدماغية. هذه الحاجة للسلطة في حياتنا نابعة من الدماغ ذاته الموجود داخل أجسادنا كأفراد وكمجموعات، وهي تجعلنا نتحكّم بالآخرين ولكنها أيضا تتحكّم بأدمغتنا وكأنها مزروعة فيها فتجعلنا نتصرّف على هذا الشكل".

كنتَ واسعا لدرجة الشعور بأنّه لا يوجد مكان يستطيع استيعابك بقدر اتّساعك انت، وكنتَ كلّما اتّسعتَ أكثر تشعر أنّ المكان من حولك يضيق أكثر. وأن كل مكان تذهب اليه تجده أضيق من سابقه، إلى أن حصرك الزمان والمكان في أضيق حفرة لا تتسع الا لحجم جسدك الهزيل الهامد.

عندما ضاقت بك القدس عدتَ الى رحاب باريس فلم تجدها واسعة كالقضية الفلسطينية التي يتغذّى إبداعك من مضمونها وشكلها وحرارتها، فعدتَ الى القدس وشعرت بالغربة فلجأت الى رام الله فأحسستَ بالغربة والحاجة للتنسُّك ولبعض الهدوء في الطيرة، فبقِيَت الغربة تلاحقك، وآخر ما قلتَه لي: "سوف آتي الى حيفا، يبدو أنني اشعر بالضيق"، ولم تنتظر حتى تجرّب الغربة الجديدة في حيفا، فرحلتَ نهائيا الى غربة المجهول.

هل اتّساع أفق الثوريين والأمميين يجعلهم في النهاية عالقين بين سندان الطموح الجامح ومطرقة المجتمع الذي لا يستطيع اللحاق بهم لشدّة جموحهم اللامحدود؟ إنّ مساحة اتّساعهم الوعيي والإنساني الرحب وإيقاعهم الحياتي السّريع يجعلهم ينطلقون الى الأمام بلا لهاث، بينما يلهث الآخرون جرياً من أجل اللحاق بهم.

هكذا نماذج من البشر نارٌ من يقترب منها يتوجّب عليه الحذر الشديد، فإمّا انه سيكتوي بها ويتأثر من حرارتها ووهجها، وإمّا انه يعلم علم اليقين انها نار لا تؤذي عندما ندرك أننا لا نستطيع العيش بدونها، وأنها جزء من ضروراتنا ولا بدّ من الاستفادة منها. إنها تجلب لنا الدفء وهي التي تؤدّي الى استواء ونضوج الفكر والإبداع.

كنتَ يا فرانسوا تضع أمام عينيك فرضيات وأهدافا، وتتخّذ موقفا من الآخرين لأنهم بعيدون عنها مستوى ووعياً. كنت تتألم بأن ما تطمح اليه أكثر بكثير مما هو موجود. كان يتملكك الشعور بأن الدنيا لا تتّسع لطموحاتك، وفي اللحظة ذاتها كنتَ متواضعا لدرجة أن لازمك الشعور بأنك لا زلتَ لا تعرف شيئا في الحياة لشدّة اتّساعها. كنتَ زاهداً، متقشّفاً ولم يكن طمعك في المادة إلا بما يكفي لإنتاج إبداعك المسرحي ولسدّ الرّمق.لم تستطع ان تجني المال من المسرح ومن الشهرة، ولكنك طمعت وطمحت في ان تكتمل تجربتك المسرحية فتصل الى قمة نضوجها مع تقدّمك فيها.

فرنسوا يا معلم الإبداع وقائده، أيها الدّقيق الصادق والمجتهد والواعي بما تقوم به، أيها المتحيّز للقضية الفلسطينية، أيها المنتمي الى فلسطين كقضية أخلاقية وفكرية وحضارية وأمميّة.. أيها الأمميّ السامي، أيها المعلم الكبير، والمحب لفلسطين على طريقتك، فأنتَ كالمحب الذي ينفّذ حبّه بلا شعارات والذي لا يقول لحبيبته "أحبّك" لأن الحب فعل وليس قولا. أيها الشّمولي في الفكر والثقافة، أيها الفلسطيني المزروع في فلسطين في كل شىء ما عدا الرابط الجيني الوراثي، فمخزونك الثقافي الفرنسي والعالمي جزء من غنى روحك الإنسانية.. تستحقّ كلمة شكر ووفاء وتقدير. ألستَ أنتَ القائل: "كل حياتي كنت انتمي الى الشعب الفلسطيني، فلا تخلطوا بيني وبين الأجانب الذين يحتلون بلادكم.. بلادنا فلسطين".

لم تكن قناعتك بالانتماء الكلي الصادق لفلسطين نابعة عن تصنّع وانتهازية، بل لأنك وجدت في فلسطين ما يعبّر عن مواقفك الأممية والأخلاقية والفكرية والحضارية، ففلسطين ليست قضية رباط دم فحسب بل هي رابطة بين جميع المنتمين اليها لكونها قضية عادلة وأممية وتحررية تستطيع باتّساعها أن تستوعب كل البشر الإنسانيين والعادلين والتقدّميين. كنتَ واعياً الى حقيقة انّ فلسطين ليست قضية عروبية فحسب، بل هي قضية أمميّة، وهذا ما زاد من تعلّقك بها.

لطالما انتابنا الشعور بأنّ مقولتك السياسية كانت أقل من مقولتك المسرحية والفنية والجمالية والإبداعية، وأنّها كانت تبدو أحيانا تذمّرية وناقدة بقسوة للوضع الذي نعيشه بدون النضال الكافي من أجل التغيير، الاّ أنّ انتماءك المتعصّب ل"حزب المسرح" لكونه فنّا حضاريا جامعا لكل أبناء الشعب ولكل المؤمنين بالعدالة والإنسانية، وليس لحزب سياسي معيّن، وعدم التقوقع بين جدران المؤسسات القاتلة للإبداع، زاد من قناعاتك بأن المسرح كمجال إنساني يمكن أن يكون باعثاً للتأثير في نفوس البشر أكثر من الشعارات المباشرة والأهداف التعجيزية التي قد تكبّلنا، فلا ينتابنا الا الشعور بالخيبة والعجز عندما نجد أننّا عاجزون عن تنفيذها.

أيها العملي المحترف، لقد كنتَ خلال البروفات عندما كنّا نقوم بإنجاز أعمالنا المسرحية المبنيةّ على طريقة الارتجالات والعمل الجماعي- وهذا ما كان يميّز فرقة الحكواتي- تفضّل تجريب الفكرة بالتمثيل والارتجال على المنصة وليس البحث عنها من خلال النقاش والحوار مع الطاقم حول الطاولة، بل الخوض في التفاصيل الإنسانية والفنية، والابتعاد عن الشعارات المباشرة والرّنّانة، إيمانا منك بأن ساعة الإبداع خلال العمل الارتجالي والجماعي سيكون لها مردود أغنى وأفضل، وهذا ما كان فعلاً.

صحيح أننا نعيش في حدود الموجود، وأنّ مجال المسرح يحظى بما يتلاءم والبيئة التي يترعرع فيها من ناحية أهميته كمصدر فني مظلوم وظالم لممتهنيه في زمن ثورة الميديا، ولا يشكّل حاجة شعبيّة ملحّة، وأنّ روّاده يعدّون على الأصابع، إلا اننا بقينا متشبّثين به لقناعتنا بأنّه سيأتي يوم ويصبح مجالا محبوبا، وعندما لم يأتِ الناس لمشاهدتنا، حملنا أغراضنا- كما فعل صاحب العربة اليوناني "ثيسبيس"، وكما فعل "موليير"، وكما فعل جدّنا الكبير "الحكواتي" - وذهبنا الى جمهورنا، وكم كانت فرحتنا كبيرة عندما كنّا نُستقبَل أحسن استقبال. إنها مهمّة تحتاج الى نَفَس طويل وأعصاب ومَن يريد أن يركب بحر المسرح لا بدّ أن يعرف كم هي صعبة السباحة فيه.

ولكي لا نذهب بعيدا في تحليل أسباب رحيل فرانسوا ابو سالم انتحاراً، فإنني كصديقه وكمتتبع لأخباره مع أعز مقرّبيه وأصدقائه، ولكي لا تؤخذ الأمور الى استنتاجات قد يفترضها أناس لم يعرفوه حقّ المعرفة، فإنني أميل الى الاعتقاد بأن حالة "الاكتئاب القصوى" manic depressiom او bipolar disorder أي "الثنائية القطبية" هي التي دفعت فرانسوا لمواجهة هذا المصير، فهو في عمله وإبداعه لم يكن إنسانا ضعيفا او يائساً، بل كان إنسانا مخّططا وقائدا وذا مبادرات كبيرة، ونضوجه يدلّ بأنه وصل الى درجة من الوعي والثقافة ما كان كافيا كي يحبّبه في المزيد من الحياة والعطاء، بدليل أنّه كان كثيف الإنتاج والإبداع في المدّة الأخيرة، وكانت لديه مشاريع كثيرة أراد أن ينجزها، ولم يكن تصرّفه نابعاً من نفور من محيطه او من خارج جسده- مع ان البيئة اذا كانت سلبية قد تساعد على ذلك- بقدر ما كان الأمر موجودا في داخله وفي نفسيته، وهنالك قائمة لأسماء لا تحصى من العظماء والفنانين والمبدعين والمفكرين والمخترعين "الهيبرآكتيفيين" يندرجون تحت هذه الظاهرة التي كان يعاني أصحابها منها لكونهم يملكون طاقة متوقّدة للإبداع والعطاء، ولكنهم في المقابل يعانون من مسحة ملازمة لهم تأتي على شكل نوبات من الحزن واليأس، ولكي ينجزوا طموحاتهم كان الواحد منهم يشعر أنّ جسده لا يستطيع ان يحمل عبء عقله ودماغه الذي كان يحرمه من النوم الطبيعي، فبدلاً من أخذ قسط من الراحة- وهي طريقة مجدية لعلاج مثل هكذا حالات- كان يزيد الطين بلّة باللجوء الى المنبّهات كي يمنع جسده من النوم والراحة، ولكي يبقى متيقّظاً، فهو لديه قناعة بأنه يريد ان يحيا الحياة حياتين، وأن يستغلّ ما لديه من وقت قصير في هذه الحياة كي ينجز أكثر ما يمكن من إنجازات إبداعية وعبقرية، وغالبا ما كان ذلك يقوده الى العكس، فالحياة تتغلّب وتقول له: "عش حياتك كما صُمّمَتْ لك بناء على بنيتك الجينية وبناء على شروطها الطبيعية، وإذا عاندتَ هذه الحقيقة فإنك ستخلّ في توازن وجودك".

إنّ دراسته للعصبون كانت بمثابة بحث عن حل لمشكلته النفسية التي أراد أن يتحكّم بها بدلا من أن تتحكم به، ولكنّه عنّد على مواجهتها بدون دكتور مختص. كان من الثقة بنفسه أن اقتنع ان لديه الطاقة الدماغية لمعالجة دماغه بنفسه عن طريق وعيه العقلي.

راضي شحادة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى