الاثنين ١٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم عبد الجبار الحمدي

لصوص آخر زمن...

اتخذ لنفسه زاوية نائية، نادرا ما يمر أحد فيها، امسك في إحدى يديه بآلة حادة، والأخرى وضعها قرب أذنه، يتنصت لخطى البعيد القادم، قال في نفسه: ترى هل سيتسنى لي سرقة أحدهم؟ وزم شفتيه إلى الأعلى مرددا .. لا أدري؟؟

هناك وما أن اقتربت خطوات بين متقدمة ومتأخرة، ألصق ظهره على جدار كهل، هلك واقفا، من كثرة انتظار في زقاق مظلم قديم، ما أن اقتربت الخطوات وبصوت أبح صاح لا تتحرك ... فقط مد يدك إلى جيبك، أخرج ما فيه وإلا ...، أستغرب المستطرق كثيرا!! لهذا اللص الغبي، فمتى كان من بمثل حاله، لديه جيوب، وإن كانت عنده، فهي خالية مثقوبة، يدخل الهواء فيها، على راحته، بل اتخذها محطة نائية، ألتفت إلى اللص مقهقها، فقال: يا لك من أحمق! ومتعوس مثلي، ألم تجد من هو أفضل مني لتسرقه؟! أم تراك أعمى!! جاء الجواب باديا عليه الاستغراب.. كيف عرفت أنني أعمى؟؟

زاد في القهقهة بصوت مدوي؟؟ ماذا تقول!! هل تعني انك أعمى فعلا؟!!

جاءه الصوت، نعم أنا أعمى..

ولكن كيف يمكنك السرقة وأنت لا ترى من تسرقه؟...

أجاب الأعمى، الواقع لقد دأبت على هذا الفعل منذ فترة وجيزة، ولم استطع سرقة أحد حتى الآن، فكل محاولاتي باءت بالفشل، كما رأيت، يا لك من سخرية، والله لقد أضحكتني، رغم همي وضياعي، لقد شاهدت الكثير في حياتي، لكن هذه المرة الأولى التي أرى رجلا أتعس مني حالا، وأكثر يأسا، عموما اسمع، لا أزيد من همك، سأكون رفيق عملك الجديد هذا.. ما رأيك؟؟؟

ماذا تعني رفيق عملي! أتسرق معي؟ ثم نتقاسم ما نحصل عليه، لا.. قالها بتشنج.. ثم نعم وهو كذلك، ثم قال المستطرق.. سأكون معك لكن ليس بالشكل الذي قد تكون تصورته، سأوجهك فقط، وأخبرك كيف يمكنك السرقة، دون أن يشعر بك أحد، أو يضرك، بل سيشفق عليك لفقدانك البصر، إن هذا الأمر يتطلب الحنكة، والدهاء، كما سأكون إلى جانبك دوما لإنقاذك وخلاصك، في حال الإمساك بك، ومن ثم شرح له آلية العمل، ووضع الخطة، على أن يبدءا الليلة، فقط عليهما أن يغيرا المكان، لجموده من المارة، وهكذا وجدا ضالتهما، كان ذاك في زقاق آخر خافت الإنارة، كثرت الخمارات فيه، فقال لرفيقه الأعمى:
 ها ..ما رأيك في هذا المكان؟

أجابه الأعمى:
 يا أحمق.. كيف لي أن أرى! لكن الواقع أنك فاجأتني!! بما بينته عن هذا المكان، صحيح ان البصر نعمة كبيرة، ولولا أنك شاهدت هذا المكان، وخبرته، لِما جئت بنا إليه.

رد عليه الواقع كلامك في محله، لقد كنت آتي إلى هذه الخمارات كل يوم، حتى ضقت ذرعا من نفسي، عَنفتها، ولمت الأقدار، التي خانت بي، بعد أن رمت بأحلامي، في مجار ير آسنة عميقة، حاولت أن أنقذ نفسي، وحاول من كان يعرفني، أو قريبا لي، لكن وطأة قدم القدر على سحق رأسي، كانت ثقيلة، أوهنت عزمي على النهوض، فرمت بي إلى قارعة طريق، قد أكون أنا السبب؟! لكني لم أكن هكذا أبدا، فقد أعطاني الله الخير الكثير، وكان عندي محل لصياغة وبيع الذهب، أحوالي جيدة جدا، لم اشتكِ العوز، أو الضيق، حتى رافقني ذلك الصديق، جاء ومعه فتاة ، اعتقد أن الله خلقها لتسبي من هم على شاكلتي، عشقتها من أول نظرة، أدركت هي بغريزتها ولهي، غزلت غزلها معه، لم أكن أدري ساعتها، أنهما اتفقا على إسقاطي،

لكنه قال لي: أنها قريبته من بعيد، كانت قد ترجته أن يضمنها، عند أي بائع للذهب، لتشتري منه ما تحتاج، لكن على شكل دفعات شهرية، وكانت المفاجأة!! انه يعرفني أنا، هكذا كانت البداية، تعلقت بها كثيرا، أذابت الغريزة الشيطانية جسدي، فصاغت ضياع نفسي، لم أعِ حالي، إلا وأنا على قارعة الطريق، خالي الوفاض، مكسور، لم احتفظ بأي شيء، سوى هذه، وأخرج من قعر حذائه بعد أن فتق جيبا فيه، حجرا ثمين، ثم قال للأعمى أنظر... استدرك قائلا: عذرا يا رفيقي، تلمس نعومته، انه ناعم ألملمس تماما مثل بشرتها، إنه هدية منها، كانت قد جلبته لي في إحدى المناسبات، احتفظت به منذ تلك اللحظة، لم أفرط به رغم فاقتي، وعوزي، لأنه الشيء الوحيد الذي يذكرني، بأني مغفل، قبلت بهذا الحجر، كهدية، ووَقَعت بيع على كل أملاكي، ساعة حب، ومجون سكر لها، ما هي إلا أيام، حتى وجدت نفسي، مرميا في بحر الضياع، دون أي شيء، أسودت الدنيا في عيني، رافقت الخمر صاحب سوء، صارت قصتي تروى بين الناس، لقد كنت اكبر مغفل في العالم، اتضح لي لا حقا، أن صديقي قد اتفق معها، على نهبي وسرقتي، بشكل لا يمت له بصلة، هكذا تم الامر بينهما، ونالا ما أرادا، أما أنا فمنذ ذلك اليوم تراني أندب حظي، أرتاد الخمارات تلك، وأشار بأصبعه نحوها، للعلم يا رفيقي الجديد، هناك الكثير في الخمارات، من سرقتهم سِكينة الزمن، فذبحوا طموحاتهم، فقط للجري وراء رغبة، كما هناك أيضا منهم الثري، الذي جاء ليرمي بجوفه، مُر الأيام، وتقلباتها، هذه قصتي، ولا أدري لمَ بحت لك عنها، لعلي بحت كونك أعمى، فلا ترى خجلي من نفسي، أو عوقي، الذي اشتريته بغريزة حيوان، قال الأعمى: يا لها من قصة، لكن لا تنسى لم جئنا إلى هذا المكان،

أنظر.. هل خرج أحدا يبدو عليه الغنى والوجاهة؟ رد عليه .. ما الذي حدث لك؟ أراك مستعجلا على السرقة، صمت الأعمى لوهلة، كأن الطير وقف على رأسه، ومن رافقه ضغط على زر أحمر، جَرَّ حسرة طويلة، يا الله ما بك!! أعلم انك أعمى، لكن هل أصابك الصمم؟ ابتسم بمرارة، وعلق قائلا: لا .. لكنك ذكرت كلمة، هي من أودت بي إلى ما أنا عليه، وتراه، الاستعجال، هو سبب ما أنا فيه الآن، لقد كنت في ذات يوم، راجعا من عملي كصباغ، أَحَبَ الحياة، والألوان الزاهية، حتى لقبت بسيد الألوان، لبراعتي في مزجها، وإعطاء اللمسة الفنية الراقية للزبائن، دخلت إلى بيتي على عجل، طلبت من زوجتي أن تقوم على تجهيز الأكل بسرعة، فعلت ما أمرتها، إنها نحلة عمل، امرأة رزقني الله بها، حمدته كثيرا عليها، كما إننا لم نرزق بأطفال، عَلِمنا إنها إرادته سبحانه وتعالى، فلا عيب فينا، رضينا بالواقع، كنت حينها قد وعدت أحد الزبائن، بأن ألقاه بعد ساعة من الانتهاء من عملي، إلا أني نسيت ذلك، حتى ذكرني العامل، الذي جاء ليخبرني أن الزبون ينتظرني في مكتبه، وقد تأخرت عليه، فأرسلت خبرا مع العامل، بأني سأكون عنده بعد نصف ساعة، كنت عدت بها إلى البيت، وقد أسرعت في أخذ نصيبي من الاغتسال، والأكل، ثم طلبت من زوجتي تحضير الشاي، شاءت الظروف والأقدار، أن غاز القنينة قد فارق الحياة، غضبت منها، صرخت.. وبختها،

بكت هي دون أن ترد بكلمة، فعمدت إلى المطبخ، دافعا إياها أمامي، لتحضير الشاي، وكأن مسا من الجن قد لفاني، أمرتها بإشعال أحد عيون الطباخ، لكنها لم تشتعل، ضجرت من ذلك، أمسكت بقنينة الغاز، قلبتها هززتها، وأمرت زوجتي أن تشعل عين النار، لم أعي أن رأس القنينة قد تزحزح عن مكانه، وكان الغاز آخذ بالتسرب، فما أن قدحت النار، حتى تلقفتنا أنا وزوجتي، أمسكتها لأخرج بها، إلا أنها رمت به خارج المكان، أمسكت بها النار من كل مكان، حوصرت، لم أسمع سوى صراخها في طلب النجدة، كانت النار قد أكلت وجهي، فلم أشاهد ما حدث، دخل الناس إلى البيت، عملوا على إنقاذي، أما زوجتي فقد ماتت، خسرتها، وخسرت حياتي نتيجة الاستعجال، تركت المكان الذي يذكرني بغبائي، واستعجالي للأمور، خسرت، خسرت كل شيء، لم أحتفظ إلا بهذه القلادة، تلك التي أهديتها إياها في يوم زواجنا، لم ترتديها سوى أيام قليلة، احتفظ بها عندك ليوم فاقة، هكذا قالت لي، كأنها تعلم أني سأكون في فاقة دائمة، فبعد فقداني البصر، خرجت هائما، نادما على فعلتي، اتخذت التسول مهنة، زهقا لنفس أبت التروي، فأهنتها بالحاجة، وجازاني الله ما استحقه، فابتلاني، يا لها من قصة، فبلاؤك أعظم من بلائي، في تلك الأثناء، بدء مرتادي الخمارات بالخروج، استعدل من كان يرى، وهمس إلى زميله الأعمى، قائلا: ارجع إلى الوراء، حاول أن تتلمس جدار الزقاق، أختبئ جيدا، حتى تسمع صفيري، ثن أشهر آلتك الحادة وتطلب إفراغ جيوب الفريسة، رجع العمى مسترشدا بيديه، حتى أمسك ركن جدار الزقاق، تَسَمّرَ جانبه، منصتا إلى صفير زميله الذي طالت مدته، فنادى بصوت خافت، هيه .. أنت ..با .. يا إلهي لم أتعرف على أسمه، كما لم أخبره باسمي، ما هذا الجنون؟؟؟ تذكر فقال: هيه أنت يا صاحب الذهب، يا صاحب الحجر الثمين، جاء مسرعا نحوه، مطبقا فمه، قائلا... هل جننت؟؟ هل فقدت صوابك؟ كيف تناديني بهذا الشكل؟ رد عليه بعد أن أزاح يده، الواقع لم أتعرف على أسمك، فتذكرت ما أنت عليه وما حكيت، فناديت بما أعرفه عنك، رد عليه.. لعلك لا تبصر، وهذا واقع، لكنك غبي أيضا، هل تظننا الوحيدين ممن يتربص بالسكارى في هذا المكان!؟ لم يكمل جملته، حتى امسك به شخص ضخم الجثة، يرافقه زميل له ، قائلا... هيا أخرج ما في بطن حذائك، وأنت أيها العمى اخرج القلادة التي معك، وإلا سأعمل على قتلكما معا، استغرب الاثنان ما سمعا، وتساءلا!! كيف لهذا اللص أن يعلم بما لديهما؟؟ كان ذلك وفي بداية حديثهما لبعضهما، قد تنصت لهما لص تربص قربهما، فسمع ما دار بينهما من حديث، وما أن تفرقا عن بعضهما، حتى ذهب وجاء برفيقه ليكون عونا له في فريسة سهلة، حملت نفسها لتكون ضحية أزقة عمياء و مغفل خمارات ليل، ولصوص صدف.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى