الأحد ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم إبراهيم سبتي

سفوح باردة

النهار طلع باردا.. المكان موحش مهجور، البرد يحوم فوق الخرائب.. السماء ملبدة بغيوم سود تنذر بنهار ممطر، كل شيء كان صامتا.. المكان نابت فوق صمت مطبق، المتارب المتناثرة تنتشر حول الخرائب، تلمست خطاي بين نثار الحصى والحجر، ورحت اقترب من مكان التواجد المفترض للرجال الذين رأيتهم أمس، لا ادري ما الذي جعلني انتفض مبكرا وأتسلل من البيت دون ان يحس بي احد، لم استطع مقاومة رغبتي في الوصول إلى مكان عملهم..

أتلمس خطاي بمهل وأنا انظر إلى البلدة النائمة خلفي، في ساعة كهذه لا احد غيري يسير باتجاه الخرائب، اقترب من أماكن مخيفة لصبي بعمري.. أماكن مهجورة إلى حد ان الغرباء قالوا للناس الواقفين يومها هذه ارض مسكونة لا تقتربوا منها، من يقترب سيجازف بحياته، ستسحبه أياد مجهولة وترميه في الأعماق السحيقة، جفل الناس للتحذير ولم يدن أحد من تلك الأماكن قط.لكني كمن لم يسمع شيئا، لم يدر في خاطري ما الذي سيحدث لي، فقررت أن أرى ما يفعله الرجال في الخرائب، كان احدهم ذا لحية شقراء يضع نظارة دائرية والآخر طويل القامة يعتمر قبعة والآخرون رجالا من البلدة يعملون في الحفر منذ شهر.

الرجل ذو اللحية الشقراء سمعت احدهم يناديه بالمستر (تايلر)، سابقت الزمن وحدي في نهار بارد أسير متلفتا للوصول إلى خرائب الموقع، قبل أن يأتي الرجال، سابقتهم جميعا وكنت اعرف باني سأصل قبلهم، سأصل إلى الموقع الذي تركوه أمس هائما وحدي في بر شاسع.. الأمس طواه اليوم.

اليوم ربما سيصيح المستر (تايلر) بوجه الحفارين الذين غادروا الموقع أمس في وقت متأخر من الغروب.. لم يعجبه ذلك، فراح يصرخ بهم: (ابقوا قليلا، ابقوا فالوقت مبكر، لم ننجز شيئا)، ولكنهم عادوا يحملون المعاول والأزاميل تحت صرخاته وصمت زميله صاحب القبعة، دنوت من الخرائب، حفر متناثرة، صغيرة هناك وكبيرة هنا، متناثرة أمام كتلة صلدة هائلة من اللبن مغلفة بجدران سميكة، عرفت من أبي أنها زقورة، وقد سمعها من (تايلر) في أول قدومه للموقع. كنت اشعر دائما بان المستر(تايلر) لا يستطيع منعنا من الاقتراب، ولكنه نجح في إبعاد الكبار بقصصه المرعبة عن حفر الخرائب، فجأة صاح بي صوت خمنته صادر من أسفل احد المتارب، كان الصوت قويا مدويا..

جفلت في مكاني، ارتعبت ووقفت مشدوها انظر إلى المقطع المقابل، فكرت بالهرب لكني لم اقدر على التحرك خطوة واحدة، نظرت بخوف نحو التل الترابي، لم أر شيئا، عندها قفزت فكرة إلى رأسي بالاختباء في إحدى الحفر القريبة، لكن الصوت المدوي يجيء سريعا في الفضاء الأخرس فلم استطع إلا أن ابحث وأنا متسمر بين الحصى ابحث في التل المنتصب أمامي رغم يقيني بوحدتي في هذا الوقت ولا احد غيري، فالبلدة نائمة، والوقت مبكر في حضور الرجال. لكن الصوت عاد راعدا..

 أنت.. هيا، لا مكان لك هنا!

لم اجبه، بل ازددت اقترابا منه، ارتجفت وأنا أرى الرجل ذا اللحية الشقراء وقد اقعى كلبه بجانبه فيما وقف الرجل الطويل صاحب القبعة في زاوية بعيدة صامتا. كرر الرجل طلبه بحدة، لكني دنوت منه، فتململ في غيظ وهتف واقفا:

 قلت ارحل..

لا مكان لكم هنا، هذه منطقة محظور عليكم الاقتراب منها.

لم يكتف بذلك بل تقدم نحوي ومسكني من ذراعي اليمنى وجرني ثم ألقى بي إلى الارض، نهضت متمايلا، ابتعدت عنه بخطوات متثاقلة وظل نظري ملتصقا به، عثرت مرتين وانا اسير بين الحصى مترنحا، وقفت ارميه بنظرات غاضبة، تقدم نحوي هائجا وقال محتدا:

 هيا أسرع، غادر المكان ولا تعاود ثانية وإلا ستلقى ما لا يرضيك!

لملمت دهشتي وأجبته متعاليا:

 لم افعل شيئا يغضبك!

رد كالمصعوق وهو ينظر إلى زميله:

 ولد ممل، متعب! يا (هايدل)

أجبته ببرود

 لم افعل شيئا يغضبك!

رد كالمجنون:

 لا تقل ذلك.. اللعنة على هذا الإصرار، لا أريد احد هنا، أحس بالقرف عندما أرى أحدكم يقتحم علي المكان، ثم أشار بأصبعه نحو خرائب الموقع قائلا بهدوء مفتعل:

 علاقتنا بهذا المكان أقوى من علاقتكم به!

قلت ساخرا:

 علاقة الذئب بالفريسة!

واستدرت نحو البلدة التي غطتها خيوط الصبح النازلة رغم أن السماء قاتمة، تحت وابل صرخاته، لكني رأيت رجالا يحملون المعاول والأزاميل يتوجهون نحو الرجل ذي اللحية الشقراء، توقفت انظر إليهم، التأموا به بعد لحظات، شدني المشهد، قررت أن ارقب عملهم..

ساروا بضع خطوات إلى الأمام ثم نزلوا إلى إحدى الحفر الكبيرة واختفوا في جوفها.. لم اعد أرى أي واحد منهم، قلت لأذهب وارى ما سيفعلوه، تقدمت بحذر، بحذر شديد، وكنت أخشى أن يفاجئني المستر (تايلر) ويطردني، لكني نجحت في تقدمي ولم يشعر بي احد، وصلت إلى مشارف الحفرة، هوة كبيرة واسعة. غاص الرجال في أعماقها.. المستر يوعز للرجال بالحفر قرب جدار بان جزء منه فيما اقعى الكلب خلفهم يصدر هريرا خفيفا وكان الرجل صاحب القبعة يذرع الهوة جيئة وذهابا ينظر بترقب إلى الحفارين.

كان الحفارون مذعنين جدا لما يقوله لهم المستر فراحوا يزيلون التراب عن الجدار الذي بدأ ت تظهر معالمه المندرسة، توقف العمل فجأة، فران صمت موحش في الهوة الواسعة..

المستر أمرهم بذلك.. رجع مع زميله إلى الخلف وقد ارتسمت الدهشة على وجهيهما..لكن المستر (تايلر) كان مذهولا أكثر، خلت أن ثمة شيء قد رآه في الجدار..

وجه كلامه إلى زميله:

 (هايدل).. لقد تغير الزمن يا صديقي!

رد (هايدل) الذي ظل يراقب المكان بعينين قلقتين:

 لا تحلق في الخيال.. نحن في أول الطريق!

نظر إليه مستر (تايلر) ذاهلا وقد تلجلج في كلامه:

 بعد قليل.. سيتحول السراب إلى حقيقة!

التفت إلى الحفارين وأمرهم بإزالة التراب الذي يغطي بقية الجدار.. أصوات المعاول والمقاشط تلعلع وسط فضاء الهوة. كنت ارقب كل حركة تصدر منهم..

لكني خشيت أن يراني الكلب فينهار حلم مواصلة النظر..

فالكلب راح يطوف بنظره حول المكان حتى أني خلته قد رآني لكنه لم يفعل شيئا.. أو هكذا قلت في نفسي..

ارتعدت السماء ثانية.. الريح بدأت تشتد، رفع المستر (تايلر) رأسه ضاحكا، ثم التفت إلى صاحبه وسمعته يقول:

 ستظهر معالم هذا الجدار واضحة، مطرة غزيرة واحدة تكفي.. لم اعرف ما الذي قصده، لكني احد الحفارين قال له متعجبا:

 إن المطر سيغرق الهوة.. سنغرق يا مستر.. وربما ستنهار المتارب فوق رؤوسنا، فسيول المطر لا ترحم.

لم يرد المستر بشيء، بل اكتفى بالنظر إلى وجه الرجل وضحك ضحكة هستيرية هزت المكان..

رايته يجلس على التراب وقد كسر بضحكته الصمت الموحش ثم راح يقفز ليهوي على الأرض لاهثا.. الحفارون في ذهول.

السماء ارتعدت بقوة..

زميل المستر صاحب القبعة يقف جانبا..

(تايلر) يطلق ضحكات كالمجنون، نام على التراب وقد مد ذراعيه وساقيه وكأنه جسد بلا حراك.. انتفض من مكانه وسط حيرة وارتباك الرجال.

 سنصل يا (هايدل).

صفير الريح يشتد وحبات المطر بدأت تتساقط..

اقترب الرجال من الجدار وباشروا العمل ثانية، نهض الكلب يبحث عن مكان يحميه من المطر الذي اشتد، المستر (تايلر) المبتسم يقتفي امتداد الجدار من نقطة تواجدهم إلى اليمين قليلا..

الكلب يهز جسده المبلل وهو يسير بمحاذاتهم..

ثيابي المبللة التصقت بجسمي المرتعش ولم افكر قط بمبارحة المكان، فلففت راسي بكوفيتي البالية ورحت ارقب الرجال المتصلبين كالحجارة، غرق المكان كله بالوحل.. فظهرت كسرات الفخار منتشرة في الرمل الذائب..

صرخ صاحب المستر:

 ما هذا؟ ما هذا؟

كان المطر قد ازال التراب العالق في نهاية الجدار فبرزت ملامح فتحة فيه.. صرخ المستر (تايلر) تحت زخات المطر:

 وصلنا.. وصلنا يا (هايدل).. ألم اقل لك مطرة غزيرة تكفي؟

راح (هايدل) يزيل الطين اللاصق بيديه ثم هجمت المعاول فكبرت الفتحة وبان شكلها.. سمعت (هايدل) يصيح بصاحبه:

 فجوة عميقة يا مستر (تايلر)..

ربما نفق، نفق طويل!غير أن المستر جفل قبل ان يضع قدميه في المدخل..

شجعه (هايدل) وفهمت من إشاراته انه يحثه على الدخول لكن المستر اقترح دخول الحفارين أولا، دلفوا يحملون معاولهم وفانوسا صغيرا.

قفز (تايلر) كالمصعوق في جوف النفق ولحقه صاحبه كالمذهول..

سبعة حفارين هم كل عدة المستر في عمله منذ شهر داخل الهوة.. رجال من البلدة اختارهم بنفسه لقاء اجر متفق عليه..

غصت في رمل السطح المبلل وأنا انظر إلى الهوة التي هجرها الرجال.. المطر ما زال يهطل بغزارة مخيفة.. قلت في نفسي:

 لأغادر المكان قبل حدوث طارئ ما.. فكل شيء صار مرعبا في نظري.. لا اعلم ما الذي جعلني أتوجس خيفة في القادم من اللحظات.

المستر مع رجاله داخل النفق..

الوحل ملأ الحفرة الكبيرة.. الكلب يهز جسده المبتل خارج النفق.. لم يدخل معهم.. بل ربض كالخائف أمام الفجوة، يصدر هريره متلفتا وكأنه يريد المغادرة وترك صاحبه. لكني فوجئت تماما بخروج (هايدل) صاحب القبعة وحده من النفق..

خرج مترنحا كالمخمور..

سحب الكلب الخائف من رقبته..

سحبه بقوة وسط صفير الريح المصحوبة بمطر خفيف، ظل الرجل يسحبه، لكن الحيوان المسكين يقاوم بعناد.. سمعت المستر يصرخ من الداخل:

 أسرع يا (هايدل) احضره.. لا تتركه وحده..

بعد ساعة توقف المطر تماما، نهضت واقفا وشعرت بان رعشة جسمي تحولت إلى آلام، فكل الوقت ظل المطر يوجعه بشدة.

التمعت في رأسي فكرة النزول إلى الهوة لكني خشيت انهيار سفح الكثيب الرملي من تحتي.. تحركت قليلا إلى أمام ابحث عن موضع اصلب، فلم اعد أثق بالكثيب الذي أقف أسفله، فعبرت أخدودين صغيرين أحدثهما المطر الغزير.

غاصت قدميّ في الأرض الهشة وخفت أن يطيح بي الوحل واسقط في عمق الهوة..

حاولت جهدي أن انتزع قدميّ ولكني وقعت فاصطدم راسي بصخرة ناتئة جاثمة فوق الطين، لم أبال أول الأمر..

فالبرد تغلغل بين ضلوعي ورحت ارتجف كسعفة في ريح.

ثيابي المبللة تلتصق بجسمي الضامر وأنا أحاول الانتقال إلى موضع أقوى..

انتزعت قدمي اليمنى بعناء ولحقتها الاخرى في حين لم تفارق عيناي النفق..النهار بلون الغيوم الجاثمة في صفحة السماء الملبدة بالقلق والرهبة..

ذهلت بمنظر الكلب الذي افلت من يدي (هايدل) ورجع إلى الخلف ثم انطلق مسرعا يريد التسلق على مشارف الهوة لكن سيول الطين تمنعه فيحاول ثانية وسط حيرة وخوف الرجل.. صوت المستر (تايلر) انطلق مدويا:

 هيا يا ( هايدل ) اين الكلب؟

لم يجبه صاحبه الذي لم ينتظر هدأة الكلب فدخل النفق مسرعا تاركا الحيوان يحاول التسلق فيخر كمغشي عليه. صفير الريح يشتد مع توقف المطر.

كنت واقفا كالمتجمد ارقب ما يحدث تحتي..

بعد ساعة خرج المستر (تايلر) وصاحبه وثلاثة عمال من النفق.. لم يبال المستر بكلبه اللاهث ولم ينظر إليه أبدا..

كانت أساريره متهللة وأطلق ضحكة قوية فاهتاج نباح الكلب الذي صمت بسرعة.. المستر يحمل قطعة مربعة من الحجر كانت بحجم كلبه تماما..

قال لصاحبه بصوت عال..

 لوح من حجر البازلت يا (هايدل) كما ترى، خدم يسيرون في موكب..

أترى يا (هايدل)، صف طويل من سنابل الشعير وفسائل النخيل نابتة فوق صفحة ماء جار..

رائع يا (هايدل) رائع..

امرأة تنتظر قدوم الموكب تحت سقيفة من سعف النخيل..

أترى الذي أراه؟

التف العمال حول المستر وصاحبه ينظرون إلى اللوح فيما صدر صوت لأحد الحفارين الأربعة من الداخل..

 مستر.. مستر.. عظام.. عظام.

ولج المستر إلى النفق ولم يبال قط بكلبه الذي أقعى على الطين..

ولحقه الآخرون.

تحسست راسي الملفوف بكوفيتي العتيقة بيديّ الملطخة بالوحل ودهشت لمرأى الدم الممتزج بالطين. لكني لم أفكر بمغادرة المكان ورحت ارقب الكلب الذي ضاع لونه وصار قطعة من الطين. لم اعد اسمع أية كلمة تصدر من النفق..

الوقت يمر ببطء، الريح تداعب الكثيب الرملي الذي أقف قربه، كثيب عال، أعلى من قامتي قليلا.. لم استطع الاتكاء عليه وإراحة جسدي المرتجف، فرطوبته قد تزيد من آلامي.. الوقت يمر..

لا احد خرج من فتحة النفق، قلت سوف يخرج المستر وصاحبه ويرقصان مسرورين بصيد ثمين آخر..

لكنهما ظلا في الداخل ولم اعد اسمع شيئا البتة..

الكلب ضاع لون تماما وبان عليه الوهن والعجز من محاولات تسلق الحائط.. طالت غيبتي عن البيت، لم أفكر بالرجوع، اعلم أن أمي المسكينة قد غرقت بدموعها، وملأ أبي البيت صخبا.. لم اخبرهم بشيء عندما تسللت خلسة في الفجر..

ربما ستكون البلدة مستنفرة تبحث عني، لكني لم أفكر بالعودة مطلقا فاللعبة لم تنته بعد.. الرجال مازالوا في النفق والكلب يقعى في زاوية مليئة بالوحل ينظر إلى السفح مادا لسانه لاهثا وأنا انظر إلى المدخل أرقب ما سيحدث..

النهار لملم خيوطه تحت السماء الداكنة التي تنذر بمطر أكثر غزارة ورهبة وقد يكون مطرا مروعا فيخرج (المستر) من النفق ليبحث تحته عن جدار آخر..

ربما.. الظلمة بدأت تقترب، لا أرى الكلب في زاويته رغم ان نظراتي لم تفارقه
لحظة..

الهوة صارت مظلمة تماما، الريح تشتد وتلسع جسمي المرتعش، رأسي يؤلمني حد التأوه، رغم أني تحسسته أكثر من مرة فلم أجد أثرا لدم خارج كوفيتي، بطني الخاوية منذ أول اليوم كفــّت عن صياحها وضجرها وصمتت. الليل يبعث السأم والخوف وصفير ريح تنذر بلحظات طويلة مرعبة، تململت في جلستي وأنا أرى البلدة من بعيد وأظنها نائمة في هذا الليل، من يدري؟ لكني فوجئت تماما، فوجئت بأضواء بعيدة تتحرك.. ربما مشاعل قادمة نحوي في هذا الفضاء البارد المظلم..

تتحرك ملتوية كأفعى قادمة باتجاه الخرائب..

قلت إنها ستدنو مني، بل أنها دنت فعلا.

المشاعل اقتربت فتراقصت ظلال المتارب في ظلام الخرائب. خمنت انهم يبحثون عن شيء ما، لكني استدركت وقلت في نفسي نحن ثمانية مفقودين منذ أول الصباح..

سبعة حفارين داخل النفق وأنا..

ربما يبحثون عنا في هذه الساعة من الليل، المشاعل توقفت عند الهوة واستطعت أن أحصي الرجال المتقدمين..

عشرة رجال باحثين، لم يروني فقد حجبهم عني كثيب الرمل.

وقفوا ينظرون إلى القاع الذي ملأه الضوء..

الريح تعبث بالمشاعل حتى كادت تنطفئ.. قال أحدهم مخاطبا جماعته:

 لا اثر لهم.. هنا!

رد عليه آخر:

 ربما سنجدهم في مكان آخر!

رد الأول بصرامة:

 لا مكان آخر.. المستر وصاحبه جاءا إلى هنا أمس..!

صاح آخر:

 منذ شهر وهم هنا وليس أمس فقط يا رجل.

صمت الجميع ولكني سمعت صوت أبي اخترق السكون قائلا:

 ربما انهار عليهم تراب التلال بفعل المطر.. يا الهي حتى الصبي لا اثر له.

عندما سمعت كلام أبي شعرت بدوار عنيف وارتجفت بقوة وخفت أن يجدوني مختبئا ويأخذونني واحرم من متابعة المشهد.

لم يرد أحد على أبي فعاد الصمت ثانية لكني خفت أكثر عندما انسحب الضوء من الحفرة تماما، نهضت أرى ما يجري، لقد عادوا إلى البلدة، لا اعرف ما الذي حدث لي، فشعرت برغبة الصراخ في إثرهم.

وقتها لم اصدق بان صبي بعمري يخترق المجاهيل الموحشة بجسم ضامر واهن ورأس متألم..

توارت المشاعل واختفت في أحشاء البلدة فعاد خوفي وحذري..

تحركت من مكاني ابحث عن ملاذ آخر فالريح ربما تطيح بهذا الكثيب وافقد ساترا احتمي به من ساعات الليل والرعب الذي دب في نفسي..

فكرت بالانتقال إلى الجهة المقابلة..

جهة المتارب المشرفة على الهوة، تذكرت بان الوحل سيأخذ مني وقتا وربما سأقع في فخ لا أستطيع الخروج منه أبدا..

درت أتأمل الظلمة المليئة بصفير الريح القارصة التي تلسعني كالمسامير، شعرت بان قطرة من المطر قد ضربت انفي، لحقتها أخرى وأخرى..

وهكذا تراشقت القطرات وسمعت الزخات المخيفة في ليلة لا اعلم كيف سأمضيها لوحدي..

المطر يشتد ضراوة، احتميت بالكثيب، اتكأت عليه ولم استطع ان احمي راسي المتوجع فتبللت كوفيتي العتيقة ثانية وشعرت بوخزات الألم الذي عاد حاميا..

فجأة سمعت دوي ارتطام عنيف وسط الهوة، خفت وصرخت وقررت الفرار من الخرائب، لكن ارتطاما آخرا كان اشد من الأول شلّ تفكيري وجعلني ابحث عن ملاذ في المحيط القريب..

المطر ينزل بعنف لم أره من قبل، فألصقت جسمي بالرمل وترقرق الدمع في عينيّ. غاصت قدميّ في الوحل ولم اعد استطيع الحركة وكأني مغروس في الأرض. المأزق يدهمني ويثقل حركتي لكن الهلع أصابني عندما دوى ارتطام ثالث هزني فذعرت، وحاولت الإفلات من قبضة الوحل..

حينها قلت:

 لقد أصابتني لوثة في عقلي، من يصدق أنني أتوارى، ارقب بضع مجانين اختفوا منذ النهار؟

دوي الارتطام الأخير احدث انقباضا في نفسي فتشظت أفكاري وذعرت حد الصراخ.شعرت أني اسمع خطوات تتحرك بعناء تحت مطارق المطر العنيف..

تتحرك نحوي، ارتعدت والتصقت أكثر بالرمل وكدت ادخل في جوفه..

خيمت لحظة صمت، خلت أنها أوهام فأقنعت نفسي بها، لكني بقيت ارقب الظلمة الدائرة حولي بريبة، وشعرت بدوار رهيب جعلني امسك رأسي وافترش الرمل المبلل، فيما ظل المطر ينهمر بكل قوة..

لا خطوات تتحرك نحوي بل رعب المطر والليل..

بعد ساعة وفي قاع الليل المروع توقف المطر وبقي صفير الريح شعرت وأنا افترش الأرض اللزجة بلكزة في بطني، انتفضت رغم تأوهاتي وخوفي، رأيت أبي يقف مع مجموعة من الرجال، طفت بنظري في الأرجاء التي تخللتها خيوط الفجر النازلة بعناد من السماء القاتمة..

قرأت في وجوههم أسئلة اعرفها..

فأشرت بأصبعي نحو الهوة.

غضب رهيب تفجر في وجه أبي، نهرني بشدة، راح يكيل لي الشتائم ثم ضربني بكفه على وجهي المتصلب فسقطت متألما وأحسست أن خيطا من الدم قد خرج من أنفي.. تقدم رجل ذو وجه شاحب وشعر مبعثر وكانت نظراته زائغة متهالكة، سألني حانقا:

 أين الآخرون؟

نهضت بصعوبة، تلجلجت وكدت أجهش بالبكاء وأجبته ذاهلا وكأني احدث نفسي:

 في الهوة!

رد الرجل ضاحكا:

 في الهوة؟

استداروا ينظرون إلى الهوة التي طمر بعضها واختفت فتحة الجدار..

تذكرت دوي الارتطامات ليلة البارحة، ونقلت نظري إلى المتارب المجاورة التي تقيأت رملها داخل الحفرة، سحبني أبي بعنف..

استدرنا نحو البلدة، كنت اشعر بالآلام تمزق جسدي المرتجف، فيما رأيت الرجال قد نزلوا إلى الحفرة يجتازون سيول الوحل التي أغرقت المكان برمته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى