الاثنين ٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم الخضر هارون

مساجلة مع ابن حزم الاندلسى حول الالفة والالاف....!!

على الطائر الميمون اتجهت بنا الحافلة السريعة صوب مدينة كوستى وقد شاء السائق الحاذق ان يستبدل صخب السيارات ( والقومسيونجية) والباعة الجوالة فى السوق الشعبى بصخب جهاز الاستريو فشنف آذاننا بما شاء هو من الغناء والموسيقى رغم انوفنا وآذاننا معا!

ولما استوت الحافلة على الجادة المستهلكة المرقعة وهى تطوى الفلاة طيا نحو المدينة البعيدة, اجلست الى جانبى شيخ فقهاء الظاهر ابا محمد على بن احمد الاندلسى وهو يومئذ فى نحو الخامسة والستين يعتمر عمامة داكنة سمراء تحيط بوجهه الصبوح لحية كثيفة لكنها متناهية التنسيق ويضع فوق جلبابه معطفا تزين حافتيه زركشة صنعت من ماء الذهب. بادرته محييا ومستاذنا فى ان نقطع بقية الطريق مستمعين الى علمه الغزير فالتفت الى قائلا:

انتم اهل السودان مالكيون اليس كذلك؟

قلت و انا اعلم حربه الضروس مع شيوخ المالكية فى الاندلس وما انتهت اليه تلك الحرب من احراق كتبه على يد المعتمد بن عياد : بلى ايها الشيخ الجليل لكنا اليوم لسنا بصدد الحديث فى مسائل الفقه وعلم الكلام. سيكون موضوعنا , ان أذنت, كتابك ( طوق الحمامة فى الالفة والالاف...! ) وكما ترى فان حديثنا سيكون فى امر خفيف الوقع على النفس يدور فى فلك المحبة والاحبة والمحبين....
قال وقد سرى عنه بعد ان رمق محيط الشيب الزاحف على فودى:
لكنك فتى تكتهل!!

اى مالك انت والحب والمحبين بعد ان وخط الشيب راسك! قالها كما ترون بدبلوماسية الادباء الحذاق
فطرز كهولتى بذكر الفتوة التى تفارقنى كل يوم جديد تشرق فيه الشمس.
قلت: بل انا كهل حقيقى ايها الشيخ.... وراق لى ان اغمزه فاضفت: وهل يحفل بمثل هذه الاحاديث الا الكهول والشيوخ معا...عنيته بذلك لانه قد كتب كتابه موضوع حديثنا بعد ان جاوز الخمسين فتبسم لقولى فقد عرف ما رميت اليه. واستطردت قائلا: لكن قد راقنى على كل حال جمعك بين الكهولة والشباب فقد ذكرت بذلك خطبة ابى حمزة الشارى يفاخر باتباعه مخاطبا اهل مكة وقد اقتحم المدينة المقدسة عليهم باولئك الاتباع:
" تعيروننى باصحابى بانهم شباب وهل كان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الا شبابا , شباب والله مكتهلون فى شبابهم... غضيضة عن الشر اعينهم ثقيلة عن الباطل ارجلهم انضاء عبادة واطلاح سهر...."
طرب الشيخ ايما طرب لسحر البيان وتمتم قائلا : رحمه الله فقد كان حديد اللسان...

قلت: هل كان ظاهريا ؟

قال باقتضاب من لايرغب فى الاسترسال: لم يكن...!

قلت نعود لطوق الحمامة..الذى يقرأ الكتاب يعدك عالما من علماء النفس وهؤلاء اهل بواطن لا يحفلون بالظاهر. كيف ذاك ؟
قال: لأن الناس لا يفهمون مذهب أهل الظاهر و يحسبون ان الظاهر هو السطح وليس الامر كذلك.

قلت : نلج الى الكتاب اذن. اراك فى ابياتك التاليات تعيب السواد. ألا تخشى ان يتهمك اهل السواد بالعنصرية وأنت شيخ من شيوخ الاسلام؟

وابعد خلق الله من كل حكمة مفضل جرم فاحم اللون مسود

به وصفت الوان اهل جهنم ولبسة باك مشكل الاهل محتد

وان لاحت الرايات سودا تيقنت نفوس الورى الا سبيل الى الرشد

قال محتدا: لم تقرأ بامعان ولعلك مررت على الكتاب مرور الكرام وعلى كل حال لن اجيبك على سؤال حتى اتيقن من قراءتك الكتاب.

قلت: بل قراته بكل الامعان ومن الغلاف الى الغلاف فهو مقسم الى ثلاثين بابا منها فى اصول الحب عشرة: علاماته, ومن احب فى النوم ومن احب بالوصف ومن احب من نظرة واحدة وباب من لا تصح صحبته الا مع المطاولة ثم باب التعريض بالقول ثم باب الاشارة بالعين ثم باب المراسلة
فباب السفير... وهناك اثنا عشر بابا فى اعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة: باب الصديق المساعد, باب الوصل, باب طى السرو باب الكشف والاذاعة, باب الطاعة, باب المخالفة, باب من احب صنعة لم يحب بعدها غيرها ثم باب القنوع ثم باب الغدر ثم باب الضنى فباب الموت.

أراك بعد ذلك قد خصصت ستة ابواب للافات الداخلة فى الحب وهى ابواب العاذل, الرقيب , الراشى,الهجر , البين, السلو وبها بابان لكل منهما ضده فباب العاذل ضده الصديق المساعد وباب الهجروضده باب الوصل. ثم ختمت الكتاب ببابين هما باب فى قبح المعصية وباب فى فضل التعفف
وكأنى بك قد ختمت بهذين البابين معذرة الى الله من ان يوقع كتابك بعض خفاف العقول والقلوب فى حبائل الشيطان فتؤثم..!

قال: نعم ولا ضير فى ذلك فنحن نتقلب فى صلتنا بالله جل وعلا بين الحب والرجاء. زدنى علما بما قرأت...

قلت: اعجبنى قولك فى تعريف الحب بانه هو الاتصال بين أجزاء النفوس المقسومة فى هذه الخليقة تلتقى فى دروب الحياة فتتعارف وتتآلف ودللت على ذلك بقول الله تعالى : "هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن اليها" فجعل علة السكون _كما قلت_ انها منه ولو كانت علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب ألا يستحسن الانقص فى الصورة. ونحن نجد كثيرا ممن يؤثر الادنى ويعلم فضل غيره ولا يجد محيدا لقلبه عنه.. وسقت حديث النبى تؤيد به ما ذهبت اليه:

" الارواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " . ثم اشرت الى ان الحب الحقيقى الذى تتالف به الارواح لا يقع من النظرة الاولى لأن النفس فى هذا العالم الادنى قد غمرتها الحجب ولحقتها الاعراض الارضية فهى بحاجة لازالة تلك الركامات حتى تتعرف على نصفها الضائع. وقلت ان الحب الذى يقع من نظرة واحدة ما هو الا ضرب من الشهوة الجسدية العارضة تزول بزوال اسبابها والنفس جبلت على تشهى المحاسن لكن ذلك ليس الحب المتمكن من الفؤاد الذى تكون علته التقاء الارواح والنفوس بنظائرها او اجزائها الضائعة ....! وقد شدنى قولك: " وما لصق باحشائى حب قط الامع الزمن الطويل وبعد ملازمة الشخص لى واخذى معه فى كل جد وهزل..

وكذلك انا فى السلو والتوق فما نسيت ودا لى قط وان حنينى الى كل عهد تقدم ليغصنى بالماء ويشرقنى بالطعام" الى ان تقول " وقد نغص تذكرى ما مضى كل عيش استانفه وانى لقتيل الهموم فى عداد الاحياء ودفين الاسى بين اهل الدنيا والله المحمود علىكل حال لا اله الا هو."

قال وقد تهلل وجهه بشرا: كيف اذن فاتك سياق الذى قلته فى السواد؟ عد اليه ايها الكهل الفتى فستجدنى ذكرته فى معرض من عاب على حب الشقرة فى الشعرفقد كنت شغوفا بها وكان كذلك ابى رحمه الله وجل خلفاء دولة الناصر الاموية فى الاندلس ممن عمل ابى وزيرا لهم.. فلما عاب على بعضهم نفورى من سواد الشعروتفضيل الشقرة عليه نظمت الابيات التى ذكرت منتصرا للشقرة ولا صلة لذلك بعرق ولا عنصر..

قلت: ذكرت فى كتابك ان الخلفاء والامراء كانوا يتزوجون جواريهم ويشترون اكثرهن من السوق وهن روميات وصقالبيات ومن البرابر يلدن لهم من يخلفوهم على العروش والوزارات والولايات يفاخرون بانساب العرب وهم من هذه الاخلاط فكيف ذاك؟!

قال : أما علمت ان العرب تقفوا آباءها ولا تحفل بالامهات؟ قلت : رغم ان نسل اسماعيل الذبيح قد استعربوا بنسبتهم الى امهم الجرهمية؟ قال : نعم رغم ذاك فتلك مقالة على رضى الله عنه. ثم قال: ان نقاء الاعراق وهم من الاوهام وعلى كل حال فذاك تصديق نبؤة النبى صلى الله عليه وسلم بان العرب لا تدع خصلة التفاخر بالانساب.!

قلت: تأمل معىما قلته فى كتابك وانت ترغب الشباب فى التعفف عن الحرام ولجم اللذائذ طمعا فيما عند الله :

" فكيف بمن طوى قلبه على احر من الجمروطوى كشحه على احد من السيف وتجرع غصصا أمر من الحنظل وصرف نفسه كرها عما طمعت فيه وتيقنت ببلوغه وتهيأت له ولم يحل دونه حائل, لحرى أن يسر غدا يوم البعث ويكون من المقربين يوم الجزاء وعالم الخلود وان يأمن من روعات القيامة وهول المطلع وان يعوضه الله عن هذه القرحة فى يوم الحشر".
قلت :ألا ترى ان مثل هذا الوصف الدقيق للحب بين الجوانح ولسعته وعذابه لا يصح الا من مجرب..؟

قال : ومن قال لك انى لم أجرب.. الا أنى والله ما قارفت ذنبا قط ولا ارتكبت خطيئة.. حاشى لمثلى وهو موقن ان الله مطلع عليه فى كل حال أن يتجرأ عليه بفعل الكبائر وسبحانه ينظر اليه.. لكن ما حيلتنا والقلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء ...

قلت عابوا عليك تأليف هذا الكتاب.....

قال : أعلم ذلك وقد قلت فى آخره :

" اعلم انه سينكر على بعض المتعصبين تأليفى لمثل هذا الكتاب ويقول: خالف طريقته وتجافى عن وجهته وما أحل لاحد أن يظن بى غير ما قصدته... وذكرت ذم الله تعالى لكثير من الظن وطرفا من اقوال النبى فى ذلك وختمت بقولى:

"وبالجملة فانى لا أقول بالمراياة (من الرياء) ولا انسك نسكا أعجميا ومن ادى الفرائض المأمور بها وأجتنب المحارم المنهى عنها ولم ينس الفضل فيما بينه وبين الناس فقد وقع عليه اسم الاحسان ودعنى مما سوى ذلك وحسبى الله"

كانت الحافلة قد عبرت الجسر الرابط بين( ربك) و (كوستى) الى حيث مقصدنا فاستاذن طيف الفقيه الجليل وارتحل...!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى