الأحد ٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
صباحكم أجمل-الحلقة الثانية
بقلم زياد الجيوسي

بيت لحم -أطياف متمردة

...، ومن يمكنه أن يقف في رحاب التاريخ وعبق القدسية ومهد المسيح عليه السلام بدون أن يشعر بالرهبة؟ فكيف أنا وقد شعرت بكل حجر من حجارة المهد يهمس لي بالحكايات ويروي لي حكاية شعب وأرض؟! فهذا المكان الطاهر مكان مقدس شهد ولادة سيدنا المسيح عليه السلام، وفوق مغارة المهد بنيت كنيسة من أقدم الكنائس في العالم، فقد بنيت على يد الإمبراطورة البيزنطية (القديسة هيلانة) تحقيقاً لرغبة ولدها الإمبراطور قسطنطين الكبير في أوائل القرن الرابع الميلادي ما بين الأعوام 326-339م، بعد اعتناقهم المسيحية وزيارة القديسة هيلانة للمهد كمكان له قدسيته.

كنيسة المهد تعرضت عبر تاريخها لأحداث كثيرة، فقد تعرضت للتدمير في العام 529م خلال ثورة السامريين ضد البيزنطيين، ولكن الإمبراطور البيزنطي (يوستينيانوس) أعاد بنائها من جديد، ولكن شكل البناء تغير من نظام الهيكل المثمن إلى نظام (بازيلكا) على شكل صليب، وقد سلمت المهد من التدمير على يد الفرس بسبب لوحة من الفسيفساء تظهر المجوس بزيهم الفارسي التقليدي، وحوفظ على الكنيسة بفترة الخليفة عمر بن الخطاب بعد أن سلمه (صفرونيوس) بطريرك الروم الأرثوذكس مفاتيح القدس وكتب الخليفة العادل العهدة العمرية التي مثلت الإخاء العروبي بغض النظر عن الديانة، وصلى منفرداً في جنوب الكنيسة. وفي فترة الحروب الصليبية تعرضت المهد لسيطرة الصليبين الغزاة حتى حررها القائد صلاح الدين وسلمها لأهلها، وقد خضعت الكنيسة عبر تاريخها لتعديلات وترميم خصوصاً بسبب الزلازل، وهي الآن تخضع للكنيسة اليونانية أيضاً، كما كل أديرتنا وكنائسنا التابعة للروم الأرثوذكس العرب الأقحاح. وكما أشرت في الحلقة الأولى إلى أن هذا الاحتلال المرفوض يستولي على كل مقدرات المهد أيضاً، ويحرم أصحابها الأصليين من أملاكها؛ وحتى من وصول رجال الدين العرب إلى المناصب الكنسية المتقدمة، وكما أشرت سابقاً وخصوصاً بعد تجوالي في أديرة وكنائس كثيرة، مثل قرنطل ووادي القلط ودير التجلي في رام الله وأديرة منطقة بيت لحم والقدس وجنين، أعتقد أن الواجب الوطني يدعونا أن نقف بجانب إخوتنا الذين شاركونا الأصول والأرض والقتال ضد المحتلين عبر التاريخ، من أجل إعادة حقوقهم المسلوبة، فهذه الأرض لنا جميعاً وهذا التاريخ لنا وليس للعابرين.

بعد أن تجولت في كافة زاويا كنيسة المهد، وفرحت روحي أن تحلق وأن تكون في مكان ولادة سيدنا المسيح عليه السلام، والتقطت عدستي عشرات الصور للكنيسة من الداخل والخارج، غادرنا المهد وافترقت عن صديقتي التي ذهبت لشأن خاص بها على أن نلتقي في أمسيتي الأدبية في المساء، فانتهزت الفرصة وجلت في دروب التاريخ وعبقه ومدينة بيت لحم، وكم سعدت بالتجوال في هذه الدروب وبين المباني التراثية التي جرى ترميمها في مناسبة أطلق عليها (بيت لحم 2000)، فكنت رغم العجالة أستمع لهمسات الأجداد ووصاياهم تنطق بها الحجارة القديمة والأزقة والدروب، وكم فرحت حين وجدت أحد هذه الدروب التاريخية يحمل اسم كاتبنا الكبير ابن المدينة (جبرا إبراهيم جبرا)، فقدرت حجم الوفاء من أبناء المدينة لابنها المبدع، وكم تمنيت لو سمح الوقت أن أجول كل دروب البلدة القديمة، لكن كان لا بد أن أحقق رغبتي بزيارة معرض الفنانة التشكيلية سمر غطاس، والوقت قد اقترب، فعدت إلى ساحة المهد واحتسيت القهوة، ثم اتجهت لألتقي الفنانة ومعرضها الجميل.

(دم وتراب)؛ لفت نظري هذا الاسم للمعرض، ولكني لم أسأل الفنانة عن سبب التسمية، فكان يعنيني التجوال فيه وإثراء ذائقتي الفنية، وأن استنبط من خلال اللوحات والمعروضات سر الاسم، وأعتقد أنني وصلت إليه في مقالي الذي سينشر لاحقاً وتجولت فيه بأفق اللوحات وغصت بعمقها، وغادرت المعرض برفقة الفنانة والشاعر الشاب أحمد مسلم وفي القلب غصة لأن الوقت أقصر بكثير مما يستحق المعرض، فالوقوف في محراب فن سمر غطاس يحتاج لزيارات وليس زيارة، ولكني بداخلي كنت فرحاً أنني حققت حلماً حلمت به، وهو أن يتاح لي أن أحلق في فن متميز أبدعته روح الفنانة، بعد أن عرفت إبداعها عبر الصور الفوتوغرافية، وفارق كبير بين الصورة والأصل دائماً.

من قاعة المعرض اتجهنا ثلاثتنا إلى مؤسسة المجدل الثقافية والتي استضافت دعوتي من قِبل مؤسسة الباب الثقافية، وكان ترحاب جميل ولقاء أجمل مع مجموعة من المهتمين، فمؤسسة الباب لا تدعو الكاتب ليقرأ، ولكن تكون قد وزعت الكتاب على الأعضاء كي يناقشوا، ودور الكاتب أن يستمع لكل النقاش والتساؤلات ويبدأ بعد ذلك الحوار، وهذا أسلوب جيد ومتميز، ومعرفتي بالكاتب نافذ الرفاعي مدير جماعة الباب الثقافية والأدبية بدأت بقرائتي روايته الرائعة (قيثارة الرمل) وكتبت عنها ما سينشر بكتاب قادم لي، وتبادل القراءة فيما نكتب حتى وجه لي الدعوة بحضور شخصي أفرحني من بيت لحم إلى رام الله، وفي الأمسية دار حوار طويل، واستمعت لملاحظات وتساؤلات كثيرة سبق وأن نشرت تفاصيلها، وقد كنت سعيداً جداً بالحوار الذي أخذ طابعاً أسرياً، فقد بدأ الحوار من الجمهور بتقديم الملاحظات والتساؤلات حول الكتاب والنصوص فيه، حيث أبدى الكاتب والناقد الأستاذ جمال بنورة العديد من التساؤلات والملاحظات، تلاه بالحديث الأستاذ محمد الديري مدير دائرة الثقافة في بيت لحم، والأستاذ محمد الحميدي مدير مؤسسة المجدل، والكاتب محمد عواد من جماعة الباب، والسيدة مها السقا التي سعدت جداً بلقائها، فهذه السيدة لها أصابع ذهبية بحفظ ذاكرة التراث الفلسطيني من خلال مركز التراث الفلسطيني، فالسيدة مها حافظة وناشرة من خلال مركزها للتراث والتطريز الفلسطيني، وأنا أعرفها من خلال جهدها ونشاطها، ووعدتها بزيارة خاصة للمركز في زيارتي القادمة، كما سعدت بالشاعر أحمد مسلم والشاعر إياد شماسنة واللقاء والحوار مع العديد من الحضور، حيث أبدوا ملاحظاتهم حول الكتاب.

وقد أشرت إلى أن هذه النصوص كانت مكتوبة في دفاتر ثلاثة تحمل اسم: أطياف متمردة، وشطحات مسافر، والبحث عن مرفأ، كتبت عبر زمن طويل ولم أكن أفكر بنشرها، واسم أطياف متمردة جاء تأثراً بالكاتب الكبير الذي أعتبره معلمي وهو الكاتب جبران خليل جبران الذي تأثرت به كثيراً، حيث أن اسم أطياف متمردة جاء تيمناً باسم كتاب أرواح متمردة لجبران.
وبعد اختتام الحوار وتناول الحلويات سعدت بسهرة فنية متميزة بعد أن شكرت الحضور والمضيفين وأعربت عن حجم فرحتي باللقاء، وشكرت الكاتب نافذ الرفاعي مدير جماعة الباب على دعوته وعلى القراءة التي قدمها عن الكتاب، وشكرت جمهور الحاضرين على الحضور والتفاعل، ثم قدم المضيفين الحلويات والعصائر تكريماً للحضور، ومن ثم قدم عازف العود والمطرب محمد عبيد الله وضابط الإيقاع أحمد علقم وصلات من الغناء التراثي مع العزف، وحظيت بمشاركة الجمهور بالتصفيق والمشاركة بالغناء.. واختتم اللقاء بأخذ الصور التذكارية من الحضور معي.

ومن ثم غادرت المركز برفقة صديقتي الطيبة، فتركنا السيارة أمام مؤسسة المجدل واتجهنا نحو قلب المدينة سيراً على الأقدام، واحتسينا القهوة في مطعم مركز السلام في ساحة المهد، ودار حديث بيني وبين السيد عادل البندك صاحب المطعم، وحقيقة أبدى الكثير من الملاحظات المهمة التي يمكن أن تطور الاستثمار السياحي في المدينة، وأعتقد أنه على المسؤولين أن يستمعوا جيداً للملاحظات وأن لا يكونوا رهينة لقوانين جامدة أو مزاجيات فردية، فمدينة مثل بيت لحم وضواحيها هي نقطة جذب كبيرة للسياحة بحكم قدسيتها على مستوى عالمي، وهذا يحتاج إلى توفير ظروف السياحة وبنيتها التحتية، ولا يمكن ذلك من دون الاستماع للمعنيين كأصحاب المحلات التجارية والمقاهي والمطاعم والفنادق السياحية، فهم أبناء السوق وأكثر إطلالة من موظف خلف مكتبه.

غادرنا المكان بعد أن شكرت السيد عادل على لطفه وحديثه وحسن ضيافته عائدين إلى السيارة سيراً على الأقدام مرة أخرى، في جو لطيف ومنعش لنغادر بيت لحم إلى رام الله، وحين أصبحت على بوابة المدينة نظرت إليها وهمست: آت إليك قريباً يا بيت لحم، فعيناي لم تشبع من جمالك، وروحي التي عشقتك من أول نظرة تركت بعضاً من مزقها فيكِ، فلا بد من لقاء آمل أن لا يطول.

صباح الرامي الجميل مرة أخرى، وما زلت أستعيد ذاكرة الجمال ولقاء بيت لحم، أقف لنافذتي وفنجان قهوتي وطيفي الذي لا أتمنى أن يكف عن مرافقتي ومشاكستي، فأهمس: شكراً لك صديقي نافذ الرفاعي، وشكراً لمؤسسة الباب الثقافية والأدبية، فقد حققتم بعضاً من حلمي بمعانقة بيت لحم حيث البهاء والسناء والعبق المقدس، وشكراً لكم جميعاً يا من التقيتكم في بيت لحم وغمرتموني بالمحبة، وشكراً لكِ يا صديقتي الطيبة على مرافقتي الرحلة وتحمل تعبها الممتع معي، وأحلم بلقاء آخر مع بيت لحم وأستمع وطيفي لفيروز تشدو: (نسم علينا الهوا من مفرق الوادي، يا هوا دخل الهوا خدني على بلادي، يا هوا يا هوا، يلي طاير بالهوا، في منتورة طاقة وصورة خدني لعندن يا هوا، فزعانة يا قلبي، أكبر بهالغربة، ما تعرفني بلادي،خدني خدني خدني على بلادي).

وحتى لقاء آخر لا بد أن يكون قريب لأكمل وإياكم جولة أخرى في رحاب بيت لحم، أهمس لكم: صباحكم أجمل..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى