الأربعاء ٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
بقلم زكية خيرهم

الأجنبي وشبح إبسن

كل يوم يرجع السيد هيلمر من المدينة إلى بيته مساء، يعود منهكا. يتصبب عرقا بمجرّد دخوله البيت،

يفرغ شحنات ملله وخوفه المؤجل، يتصفح الجرائد اليومية. يحتسي القهوة منطويا على نفسه في وحدته ورحيله بالنظر إلى حيث لا ندري، في انعزال تامّ، لا يجيب على الهاتف إذا رنّ، ولا يتحرّك إذا مرّ أحد من أمامه. أرقبه يمشي على أطراف أصابعه باتجاه نافذة المطبخ الذي يطلّ على بيت ابسن، يقفز كالمرعوب إذا سمع صرخة أو ضحكة أو آهة قصيرة صادرة عن شخص في منتصف الليل العميق. هذا الليل الذي يؤكد له حقيقة وحدته، في بيت كبير ورثه عن جده، يقابل منزل هنريك ابسن بمدينة شيين، المشهورة عالميا حيث يأتيها الناس من كل فج عميق لرؤية هذا البيت الذي مازالت شمسه ساطعة، باقية كالأزل تشع نورا لا يعرف الزوال. أصبح متحفا ومركزا لكتاب الأدب الابسيني. تقام فيه أمسيات ثقافية ويجتمع الكتاب من النرويج والسويد والدانمارك، حيث يقضون ساعات سمر ثقافية. بعض الكتاب والفنانين يحظون بالمكوث في بيت ابسن ليكتبوا ابداعاتهم في بيت عملاق الأدب والمسرح. يكتبون من غير طقوس معينة، يكفي جو البيت يجعل المقيم وكأن ستائر غير مرئية تفصله عن محيطه وتحمله إلى فضاءات وعوالم أخرى يرسمها ويكتبها، يشكّلها في خياله وفكره وفي صور أحلامه. أناس يعرفهم ويعرف أسماءهم، أحلامهم، أسرارهم. يخرجون من كل زاوية في البيت ، يروون قصصا وأحداثا وتاريخا وما على المقيم هناك إلا أن يكون سريع الكتابة حتى يدون على الورق كلّ ما سمع منهم. إنه سر ذلك البيت الذي يساعد على حدوث البرق والرعد وطلوع الشمس. والذي لا يعرفه الكثيرون، إلا أهل المنطقة ، هو شبح ابسن الذي يحوم في البيت ويكون حائلا بين المقيم وابداعه، يزعجه في كل لحظة يكون الكاتب غارقا في طقوس كتاباته، فيضظر المضيف أن يطلق رجلاه للريح ، تاركا البيت من غير سابق انذار، وفارا من غير رجعة.

بعدما تقاعد هيلمرعن العمل، أصبحت هوايته، الخروج بعض الشيء إلى المدينة يراقب الشمس وهي تنسدل بدفء على الأشجار والورود المتعانقة على جانبي شوارع المدينة، ويمد بصره على التلال الممتدة على ضواحيها، مستمتعا بأشعة الشمس الأولى التي تحضن تلك الانحدارات وسفوح الجبال التي تحيط بالمدينة. وفي العاشرة يكون في موعد مع فنجان قهوة وبعض المتقاعدين من أصدقائه، ثم يرجع إلى البيت يقرأ حصاد اليوم من الأخبار. بينما كان يتصفح جريدة "الأفتن بوستن" النرويجية، فإذا بعينيه تقعان على مقال صغير مكتوب عليه:" أجنبي سيسكن في بيت ابسن لمدة سنة. ماذا؟ أجنبي؟ وسيسكن في بيت من؟ هنريك ابسن؟ وسنة كاملة؟ هذا ما تبقى! احتلنا الأجانب في كل شبر في البلد، من شماله إلى جنوبه، في كل مكان تذهب يصادفك أصحاب الشعر الأسود منتشرون كالنمل، يتكاثرون كالفطر، ولا أحد يستطيع أخراجهم من هنا. والآن سيأتينا أجنبي إلى شيين ويسكن في بيت من؟ في بيت كاتبنا النرويجي العالمي، في هذا البيت المتحف المتميز. من يكون هذا الأجنبي وبأي حق يسكن في البيت؟ ولماذا؟ شعر بغيض وامتعاض، وضع الجريدة بعصبية على المائدة، أمسك بفنجان القهوة ارتشفه بيد مرتجفة وفي نفس الوقت ينظر إلى المطبخ المقابل لبيت ابسن وإلى غرف البيت التي كانت ستاراتها مسدولة. تذكر شبح ابسن الذي يحوم في البيت، فشعر بالارتياح وابتسامة ماكرة ارتسمت على شفتيه. غمغم لا إراديا، "هذا الأجنبي لن ينعم بالجلوس هناك، فشبح ابسن سيطرده من البيت شر طردة، بل من البلد كله". يا ليتهم يرسلون كل الأجانب إلى بيت ابسن، حتى يذوقوا طعم الجزع ويولوا من حيث أتوا!

كان يحتسي فنجان القهوة يرشفها رشفات سريعة تدل عن السعادة والفرح بقدوم الأجنبي إلى شيين الذي سيصبح "جاره" لليالي معدودة يملؤها الرعب. لابد أن أنام في النهار سويعات حتى أنعم بمراقبته في الليل وأسعد برؤيته يعيش الهلع. كم ستكون فرحتي حين أراه فارا من نافدة البيت عوض الباب. كان كل صباح يذهب إلى المقهى لرؤية أصدقائه الذين أخبرهم بالنبأ، وكل يوم يسألونه إن قدم ذلك" السندباد" إلى منزل ابسن. مر أسبوع وأسبوعان، ولم يشرف الأجنبي منزل هنريك ابسن حتى نسي هيلمر الموضوع.

أصبح الشارع الذي يفصل منزل هيلمر، ومنزل ابسن يكتظ كل يوم سبت بالكتاب والفنانين، يدخلون إلى البيت أفواجا، يتسامرون ويقرأون لبعضهم شعرا ونثرا من كتاباتهم، وبعدها تعزف الموسيقى ويسمع ضحكات الحاضرين. يا له من جو حالم ينعش القلب ويدخل السعادة إلى روحي الوحيدة. كل ابنائي رحلوا لحياتهم خارج الوطن. حتى زوجتي تركتني لتعيش مع اجنبي. تبا للحياة وللأجانب. يسرقون منا كلّ شيء حتى زوجاتنا. تمسّك بعكازته وذهب إلى منزل ابسن الذي كان بابه مفتوحا لكل محبي الأدب وسماع الشعر. كان يعج بفتيات وشباب مليئين بالحيوية وكتاب وكاتبات من مختلف الأعمار. أخذ مكانه وسط ذلك الحشد، يحوم بعينيه ينظر لوجوه جديدة ليست من المنطقة و في نفس الوقت يستمع لقصيدة أحد الشعراء ...انتهى الشاعر من قراءته فإذا بشاب أجنبي يقف أمام الحاضرين يتحدث عن ابداعات كاتبة ويقدمها للحاضرين.

آ..... هذا هو الأجنبي الذي قرأت عنه في الجريدة، إنه هو لا محالة. كان يتحدث اللغة النرويجية بطلاقة وفصاحة أذهلته، ورغم ذلك لم يستعطفه. يرى اعجاب الحاضرين به وبمداخلاته وبدماتثه وخفة دمه. كان يتمتم كلمات تتلوى غيظا يحاول جهلا رؤية ما يطربه ، لكن عينيه أبت أن ترى إلا شخصية جذابة ولبقة في اللطف مع الحاضرين. لابد وأن له إرادة قوية وإلا ماكان متواجدا بين مثقفي أهل البلد. يدمدم في سرّه وقلبه يتّقظ غيظا ... يظهر عنده اتساع الرؤيا جاد في تفكيره، يعبر من خلال ما سمع من قراءاته بحكمة واعتدال. يا إلهي من أين قدم هذا الأجنبي ...؟ يظهر جليا قوة خياله وخفة روحه البديهية في اسلوبه. أدهشه ذوقه الجيد في كتابة الأدب وذوقه في اختيار الموسيقى وتقديمها للجمهور. من أين جاء بهذا الذوق الرفيع؟ يحكّ لحيته البيضاء بازدراء، ويسترق النظر إليه من وراء الحشد. لكن متى قدم إلى منزل ابسن؟ إنه هنا منذ اسابيع، ولم أكن أعرف ذلك. كيف أنه مازال في البيت؟ لا أعتقد أنه مقيم هنا. لا ... لا ... مستحيل ! لو كان يسكن هنا، لو هرب من البيت في نفس الليلة أو ما بعدها. معقول! لكن ما قرأته عنه أنه سيسكن هنا لمدة سنة. إنه يسكن في البيت. ينظر إلى من حوله متوسّلا ... أين شبح ابسن؟ أمعقول أن الشبح خارج البلد؟ لا، لا أعتقد ذلك. مازال يحدّث نفسه حتى أقبل عليه ذلك الأجنبي وقال بلطف وابتسامة على شفتيه:

 سيدي الكل قد غادر المنزل. وأنا مضطر الآن أن أقفل الباب وأذهب للنوم.

وقف مندهشا، يحدّق إلى ابتسامته ولباقته ، نظر من حوله، صحيح الكل غادر، إلا أنا الذي كان عقلي هائما يبحث عن شبح ابسن.

غادر البيت يهرول وهو متكئ على عكازته وخيبته إلى مطبخ بيته ليراقبه من هناك.
لقد أطفأ الأجنبي النور في كل الغرف والمطبخ. حتما ذهب للنوم. جلس يحدّق بغيظ إلى النوافد المظلمة أكثر من ساعة. فإذا بكل أضواء البيت تشتعل دفعة واحدة. ليس هناك أي أحد في البيت إلا ذلك الاجنبي. بعد خمس دقائق، يراه يحوم من غرفة إلى أخرى ويطفأ الأنوار. ثم يختفي بين ذلك الظلام. يتخيله يأوي إلى فراشه وما أن يغلق عينيه حتى يشتعل الضوء مرة أخرى في كل البيت. ويستيقظ من جديد ويطفؤه. شعر بالخوف من ذلك المشهد الذي يعيشه لأول مرة. سمع عن شبح ابسن، لكنه لم يعايش مشهد تلك الأنوار التي تنطفئ وتشتعل لوحدها في ذلك الليل البهيم وتحت سماء موحشة ورياح عاتية مرعبة. كان الشارع الذي يفصل بيته ببيت ابسن ساكنا وموحشا، والأجنبي يحوم من غرفة إلى أخرى، يطفئ ضوء غرفة ويتجه ليطفئ نور الغرفة الأخرى ليجد الضوء اشتعل في الغرفة التي أطفأ نورها.

أصابه رعب المشهد، فشعر بقشعريرة سرت في كل أطراف جسده، يجس أعضاءه، يرجفه الصمت. ومما زاده رعبا ذلك الأجنبي يمشي بسرعة البرق غير مبال بين الغرف يطفئ مصباحا تلو الآخر وتشتعل بدورها واحدة تلو الأخرى. يراه يمشي ذهابا وإيابا ويحرك يديه وكأنه يتحدث إلى أحد. يرفع بيديه لكن هذه المرة حركات يديه عصبية وليس كما كانتا تتحركان مع إيقاع كلمات شعره وكتاباته الأدبية. فجأة يجلس الأجنبي على كرسي المطبخ فإذا به يرى باب المطبخ ينفتح، فينهض ليغلقه ويرجع إلى مكانه على الكرسي، ثم ينفتح الباب، ثم يذهب ليغلقه مرة ثانية.

التفت هيلمر من حوله والرعب يتملكه ينظر إلى أبواب غرف بيته. ثم ينظر ثانية من نافذته فإذا به يرى ذلك الأجنبي يترك نافذة المطبخ الخارجي مفتوحة. ربما أصابه الرعب، وأراد أن يكون على أهبة الهرب كما فعل الآخرون من قبله لما كانوا في البيت. حتما ذلك هو السبب في تركه باب النافدة مفتوحا. ظل الأجنبي مستيقظا طوال الليل، أما هو فرغم هوله مما رأى إلا أنه كان هادئ البال سعيدا بالشبح الحارس لمنزل ابسن. تسلل إلى فراشه سعيدا ولم يفتح عينيه إلا في العاشرة صباحا. هرول إلى أصدقائه وأخبرهم بالحدث السار والمدهش الذي وقع على الأجنبي في بيت ابسن.

نطق أحدهم:

الليلة أو غدا سيغادر الأجنبي البيت. نعم، يجب أن يغادر المكان. ذلك الشارع لسكان المنطقة وأهلها ولا نسمح لدخيل عليها.

قال آخر:

تسمح أو لا تسمح ذلك الاجنبي جاء بدعوة من المركز الثقافي النرويجي. ليس لك ولا لي قوة لإخراجه من هنا.

أجاب هيلمر بعصبية:

إن لم تكن لديك أنت قوة أو غيرك فهناك شبح ابسن أطال الله عمره. ضحك الجميع وأفترقوا.

رجع هيلمر إلى البيت، وهرول متسللا إلى سريره لكي يآخذ قسطا من الراحة حتى يتمكن من السهر في الليل ويحظى برؤية الأجنبي يهرول من النافذة نافذا بجلده. استيقظ بعد ساعتين. فإذا به يرى رجل وامرأة نرويجين في زيارة ذلك الأجنبي. كان يراهما من نافذة مطبخه، يجلسان معه في الغرفة المجاورة. يتسامرون ويضحكون والأجنبي أحضر لهما القهوة، وكأن شيئا لم يكن. فجأة يرى باب غرفة الاستقبال ينفتح وينغلق وتقف تلك المرأة مع صديقها مرعوبة، تلتفت في كل الجهات ثم تلتصق بجسد صديقها، بينما ذلك الأجنبي كان يحدق إليهما بهدوء مظهرا عدم الاكتراث وكأنه لم ير شيئا. التفتت إليه تلك المرأة:

 ألم تر ما رأيناه؟

بعد لحظات يجيب ببرودة أعصاب:

 نعم. إلا أنني أخاف ألا يصدقني أحد.

نطق صديقها: نحن النرويجيين نعرف أن البيت مسكون.

 كيف ولماذا لم يخبرني احد بذلك؟

 الآن عرفت.

وأخبراه كيف لزوجين كانا يعيشان هنا فترة من الزمن في البيت وفرا هاربين منه بمنتصف الليل.

غادرا الضيفان البيت، أما ألاجنبي فاختفى في وضح ذلك النهار. ذهب للنوم حتما بعد طول السهر من العراك مع شبح ابسن.

لابد الليلة أن يغادر البيت. أنا متأكد من أن تكون هذه الليلة آخر حلقة. كان مرتاحا مستعدا للسهر، فجاء الليل مدثرا بسواد حالك، مصحوبا بصمت رهيب، يبلّل عزلة روحه ووحدته المبتلية بسنين بالية، يقفز من سريره يمتطي عكازته المرتعشة ويخطو بسرعة متثاقله متعثرة إلى المطبخ. لم يعد أحد في الشارع. يحسّ أن أعضاءه يرجفها الصّمت. الساعة تشير إلى الواحدة صباحا ومنزل ابسن نائم فيه السكون. كان يرتقب جديد تلك الليلة أصبحت عيناه تلتصقان، وعربد يأسه على أشلائه المتهالكة. شعر بالضجر وعدم المفاجأة في ذلك الليل السرمدي الذي جعل يأسه أبديا، نهض بملل من مكانه ليذهب للنوم فإذا به يرى الأضواء تشتعل دفعة واحدة والأجنبي يقف كمارد مصارع، عيناه يتطاير منها الغضب، انفتح باب المطبخ وذهب ليغلقه فانغلق لوحده. شاهده يتتبع بعينيه شيئا، يهرول إلى المطبخ ويفتح نافذته ويخرج رأسه ثم ينظر إلى الشارع، ثم أدخل رأسه مرة ثانية، فإذا بنافدة الغرفة تنغلق لوحدها. رفع يديه الاثنتين أمامه وبدأ يخرج لسانه ويقوم بحركات بتقاسيم وجهه وكأنه يخيف أحدا هناك، ثم يجري وراء شيء غير مرئي، نحو غرفة الاستقبال وإلى غرفة النوم ثم إلى المطبخ مرة ثانية، ومازالت يداه مرتفعتين أمامه ، ولسانه متدليا ، يمشي بخطوات مضحكة وكأنه الفهد الوردي في الرسوم المتحركة. فجأة يفتح باب النافدة ويخرج هواء قوي منها وكأنها عاصفة هوجاء، وأغلقت النافدة بقوة أحدثت صوتا يصمّ الأذن.

ماذا حصل؟ مرّ شهر على هذا الأجنبي في بيت ابسن، وهاهو ما زال يسكن هناك. كان في كل ليلة يجلس في مطبخه مراقبا مصارعة الشبح والأجنبي. لم يعد هناك شبح بعد تلك العاصفة التي انطلقت من النافدة.

لقد هزم الأجنبي شبح ابسن. .... مستحيل ..

في الصباح استيقظ وقرر أن يذهب إلى ذلك الأجنبي، الذي علم سبب زيارته. رأى في عينيه خيبته، ورغم ذلك استقبله بابتسامته الآسرة.

 تفضل سيدي دعنا نشرب القهوة.

دخلا إلى المطبخ، أحضر له فنجانا من القهوة وجلس بجانبه. ثم ابتسم سائلا إياه عن حاله.
فجأة عمّ الصمت بينهما. كان الأجنبي يحدق إليه، وكأنه يقول له بح بما في جعبتك، أتريد أن تسأل عن حالي أم عن حال الشبح. كان يحسه يقرأ أفكاره.

عجيب أمر ذلك الشاب الاجنبي. وجد نفسه يسأله لا إراديا عن حال الشبح.

 لم أعد أر شبح ابسن في البيت.

أجابه ببرودة أعصاب.
 رحل

رحل؟ أمعقول أن يترك ابسن البيت للغرباء ويرحل؟

ابتسم إليه بدفء وقال بهدوء:

ابسن لم يرحل إنه معنا في النرويج وفي وطني الذي قدمت منه وفي أوطان أخرى، في كل العالم إلا أن شبحه لم يعد هنا في البيت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى